دبي:
«ما بعد قطر» توصيف لحقبة إقليمية آيلة للأفول. إن «التعملق السياسي» لدولة قطر أسهم -إلى حد كبير- في رسم هذه النهايات، ليس من باب السخرية، وإنما لأسباب ترتبط بالنهج «التخريبي» الذي سعت قطر إلى تدشينه من خلال أقوى أذرعها: الإسلام السياسي والجهادي في أكثر من دولة عربية؛ والتشابك الخفي مع منظمات إرهابية؛ إلى جانب ازدواجية المعايير في السياسات الخارجية، ودعم المعارضات السياسية، مقابل تكميم أفواه المعارضين القطريين. كل هذه العوامل وغيرها، تجبر المراقب على طرح مجموعة من الأسئلة حول السياسات القطرية الخطرة: ما هدفها؟ وما تكاليف الازدواجية على الداخل القطري؟ وما الأرباح التي حصدتها الدوحة نتيجة هذه السياسات؟ وكيف انعكس ذلك على محيطها الجغرافي؟ وهل قطر قادرة على الاستمرار في مواجهة جيرانها والدول العميقة تاريخياً؟ وما انعكاسات سقوط حكم الإخوان على النظام القطري؟ وما أهداف الدعم القطري للفصائل المسلحة في سوريا؟ وما خطوط التلاقي والتصادم بين الدوحة وطهران تحديداً بعد الأزمة الخليجية؟
يحاول كتاب: «ما بعد قطر: السياسات القطرية وحافة الهاوية» (الكتاب الثاني والثلاثون بعد المئة، ديسمبر/ كانون الأول 2017) الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها. يتناول الكتاب ملفات رئيسة على علاقة مباشرة بالتوجهات القطرية في المنطقة العربية في حقبتي حكم حمد بن خليفة وتميم بن حمد.
«ما بعد قطر» أو نهاية الثورجية الجديدة
يقول الأكاديمي والباحث التونسي، أستاذ كرسي اليونسكو للأديان المقارنة بتونس محمد الحدّاد: إن ثمة اليوم من يريد أن يطرح المسألة من زاوية مغلقة: إما أن تكون مع «الثورات العربية» أو أنك ضدّ الإصلاح والتغيير. لكن الحقيقة أنّ الثورة حالة قصوى واستثنائية من الأزمة تحصل في مجتمعات تنغلق فيها سبل الإصلاح، فهي انفجار لوضع فقد القدرة على التواصل. لكنّها لا تضمن في ذاتها تحوّل الوضع إلى الأحسن أو إلى الأسوأ. والحاسم في الأحداث ليس الثورة في ذاتها، وإنما طريقة إدارتها والاستفادة منها. والثورة مجرد وسيلة بينما الإصلاح هو الغاية، والثورة ليست أفضل السبل للإصلاح لأنها تؤدّي إلى الكثير من المساوئ والعنف، لكنها تفرض نفسها كلّما تعطّلت سبل الإصلاح.
ليس من الضروري أن نختار بين الإمكانيتين المطروحتين، ولا من المنطقي أن يبرّر كلّ شيء باسم الثورة، إلاّ لدى الشعبويّين الذين نسوا بسرعة أننا كنا قد عشنا موجة ثورية في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، أشبعتنا شعارات ووعوداً لم يتحقق منها شيء، وبمثل ذلك يبشر مصير الثورات الحالية. فالسؤال الرئيس ليس الموقف من الثورة بل تقييم ما تحقق من التغيير في البنى العميقة التي كانت تحول دون تقدّم المنطقة في تحقيق طموحات أبنائها. من هنا يمكن أن يحاسب كل طرف حسب مساهمته في تحقيق المقصود أو تعقيد الأمور بما يصبح حائلا دونه.
خدعة السياسات القطرية تنزّلت في الخلط الذي لم يقع الاهتمام في البداية بتداعياته وخطورته. في البداية، كان ثمة في هذه السياسات ما يغري المواطن العربي الذي ينشد التغيير، والذي تدغدغه في الآن ذاته بقايا الخطابات الثورجية القديمة التي عاش على وقعها عقودا. لكن في المحصلة، هل استفاد هذا المواطن من هذه الخطابات؟ وهل أفادته هذه الخطابات في تحقيق ما يصبو إليه؟ أم إنه ظلّ أسير الثورجية التي تجاوزها العالم بسقوط حائط برلين؟
لم تكن السياسات القطرية سياسات تتسم بالازدواجية فحسب، بل كانت سياسات تدفع المتلقّي العربي إلى أن يصاب بالسكيزوفرينيا (ازدواج الشخصية)، فهو معرّض لاستهواء المقاربات العاطفية والانفعالية والمزايدة في قضاياه الكبرى، يشعر معها بالحياة والنخوة، لكنه يظل أسير الشعارات لا يخرج منها إلى الفعل العملي وإنجاز المأمول.
نحن على أعتاب مرحلة جديدة، مرحلة «ما بعد قطر»، وقطر ستكون جزءا منها عندما تتخلّى عن أوهام العظمة وتعود إلى محيطها الطبيعي، الخليجي والعربي، فقد انتهت «صلاحية» خطابات الشحن العاطفي والأيديولوجي وادعاءات القيادة الموهومة.
وسطيٌّ زائفٌ ومتطرفٌ حقيقي.. «نجم الجزيرة» ليس كما نراه براقاً
تناول توماسو فيرجيلي (Tommaso Virgili) -باحث إيطالي متخصص في الوقاية من التطرف والإرهاب- في هذه الورقة المبادئ الرئيسة للقرضاوي، مشيرا إلى وسطيته المزعومة باعتبارها مجرد انعكاس لخطط التدرج أو التمكين التي يعتمدها الإخوان المسلمين، في حين أن مضمون أيديولوجيته تعرض بشكل واضح وجهات نظر متطرفة تتخفى باسم الإسلام.
ويرى فيرجيلي أن يوسف القرضاوي بعيد كل البعد عن كونه صوتاً وسطياً يمثل الإسلام؛ إذ إنه ينشر أيديولوجية الانقسام والراديكالية من خلال أبواق قناة الجزيرة، وشبكة المواقع الواسعة النطاق، والمنظمات في جميع أنحاء العالم، بدعم كبير من قطر. إنه يتبنى رؤية صارمةً للشريعة الإسلامية تستبعد أي ابتكار محتمل لجعل الإسلام متفقاً مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان. كما أنه ينشر فكرة التكفير بين المسلمين، التي تجرّم أي مسلم لا يلتزم بهذا الفهم المحافظ والمُسيّس للدين. بل إنه يعزز من الشكل الراديكالي لجماعة الإخوان المسلمين، فهو يحتضن أهدافها وخططها ويتبناها بالكامل. ومن ثم فهو يدعم الوسائل السلمية، ويرفض الجهاد فقط بقدر ما يكون ذلك محققاً للهدف النهائي: ألا وهو دولة عالمية تحكمها الشريعة.
ويحذر فرجيلي من هؤلاء الأيديولوجيين ومن يؤويهم ويرعاهم. ويقول: إنهم لم يكونوا يوماً دعاة صادقين للسلام، بل سيحاولون دائماً خنق أصوات المسلمين الذين يسعون جاهدين للتوفيق بين الإسلام والحرية، وذلك دون استخدام الوسائل القوية ذاتها، وعلى حساب المخاطر الجسيمة التي قد تطال أفراد المجتمع عامة.
الخطاب الديني في قطر: السلفية في خدمة الإسلام السياسي
يشير الباحث المصري المتخصص فى شؤون الحركات الإسلامية: علي بكر، إلى أن قطر سعت إلى استغلال علاقاتها بالتيار السلفي، الذي تربطها به علاقات تاريخية، في توطيد علاقاتها بالتنظيمات المتطرفة في المنطقة، تحت ذريعة أنها سلفية النهج والاعتقاد، وذلك من أجل تحقيق أهداف سياستها الخارجية، ولا سيما أن هذه التنظيمات صارت تدين بالكثير من الولاء لحكام الدوحة بسب هذا الدعم، وهذا ما يدفعها إلى الدفاع عنها، وتصويرها بالدولة التي تدافع عن الإسلام في وجه أعدائه، مخالفة بذلك توجهاتها وأيديولوجيتها، حيث وظفت هذه التيارات خطابها لخدمة قطر، والدفاع عن مواقفها السياسية، وهو ما يمكن وصفه بالتحالفات فوق الأيديولوجية، وهو ما يعني القفز فوق الفكر والنهج من أجل تحقيق مصالح سياسية ومكاسب دينية.
وقد كشفت أزمة مقاطعة قطر، عن مدى الدعم الذي قدمته التنظيمات الإرهابية، التي تزعم بأنها تنضوي تحت مظلة «السلفية الجهادية»، والذي تمثل في دفاع رموز التطرف والإرهاب باختلاف توجهاتهم عن قطر في تلك الأزمة، وكذلك الدعم القاعدي الواضح لها، إضافة إلى المساندة الإخوانية، ثم دعم المؤسسات الدينية غير الرسمية، التي يسيطر عليها المنتمون للتوجه السلفي، الأمر الذي يشير بقوة إلى توظيف قطر للتيارات السلفية، في تحقيق أهدافها السياسية، وكيف أنها وظفت الفكر السلفي الذي يمكن وصفه بالسائل، في تحقيق أهدافها، لكن في المقابل فإنها أسهمت في نشر العنف والتطرف والإرهاب على نطاق واسع، من خلال استغلال الخطاب السلفي، في دعم تنظيمات إرهابية، نسبت نفسها لهذا الخطاب من أجل الحصول على الدعم والتمويل القطري، لتحقيق طموحات أكبر منها بكثير.
قطر ومصر: من دعم الإخوان إلى العداء السياسي… كيف أدار مبارك الملف؟
يقسم معتز سلامة، مدير برنامج دراسات الخليج العربي ورئيس وحدة الدراسات العربية والإقليمية بمركز الدراسات الاستراتيجية بالأهرام (مصر)، علاقة مصر بقطر في عهد مبارك إلى مرحلتين، حيث يصعب التوصل إلى فواصل زمنية قاطعة بينهما لأنهما متداخلتان، خصوصاً من ناحية استمرار خصائص المرحلة الأولى خلال المرحلة الثانية، وهما: مرحلة الارتياب والعداء الشخصي التي سادت منذ عام 1995 وحتى 2005، والتي شهدت في بداياتها محاولة انقلابية على الأمير حمد بن خليفة في نوفمبر (تشرين الثاني) 1996 وجه فيها الاتهام إلى مصر ودول أخرى، ونشأة قناة الجزيرة في الشهر ذاته والسنة نفسها، وهي القناة التي تناولت الشؤون المصرية بالنقد الشديد. وهذه المرحلة ظلت مؤثرة على الدوام، واستمرت ملامحها خلال المرحلة التالية. ومرحلة المنازعة على الدور الإقليمي، وسعي قطر لسحب البساط من تحت أقدام الدور المصري العربي، والتدخل في الشؤون الداخلية لمصر. ويمكن تحديد بدايات هذه المرحلة مع بدايات صعود الدور الإقليمي لقطر الدولة في تسوية المنازعات الإقليمية، والقيام بأدوار وساطة في الصراعات العربية، وتعود بجذورها إلى عام 2005، واستمرت حتى سقوط مبارك في فبراير (شباط) 2011.
ومن خلال استعراض أشكال وأنماط العلاقة بين مصر وقطر على مدى الأعوام من 1995 وحتى 2011، تبرز ثلاث خلاصات كبرى:
الأولى: أنه لم يتضح في الفترات المبكرة من تلك العلاقة (بين 1995 و2005)، أنه كانت هناك رابطة قطرية خاصة مع جماعة الإخوان المسلمين داخل مصر، ولم يكن هذا الموضوع في ذهن أي من المسؤولين المصريين عند التعامل مع النظام القطري، وكان أقصى ما يتحدث عنه النظام المصري في شأن العلاقات الدولية للإخوان خلال تلك الحقبة هو الحديث عن التنظيم الدولي للجماعة، دون تحديد لعلاقة الجماعة بدولة عربية محددة، وهو ما يشير إلى أن علاقة قطر بالإخوان تم بناؤها بشكل تدريجي، وأن قطر اكتشفت رؤيتها ومصلحتها من تلك العلاقة مع الزمن، ولم تكن لقطر رؤية مستقلة أو تصور عن تلك العلاقة أو عن تحالف سياسي بين الاثنين مسبقا، لكن المصالح من وراء هذا التحالف تشكلت تدريجيا وبالتكشف الذاتي، وربما جمعت بين الجانبين في محطات مختلفة أدوات التواصل مع الشبكات الخارجية والدولية، والتي دفعت إليها وعبرت عنها بوضوح أوراق سياسات في مراكز دراسات عالمية.
أما في الفترة الممتدة بين 2006 و2010، فقد تمثل التلاقي القطري مع إخوان مصر على نحو غير مؤسسي أو تنظيمي، ولكن على شكل تلاقي مصالح عن بعد، من خلال مساعي قطر للإضرار بنظام مبارك؛ فبرزت الجزيرة كصوت للمعارضين السياسيين وكأداة لفضح جوانب الخلل والتزوير في الانتخابات المصرية، وتناولت أوضاع البائسين والفقراء في ظل حقائق اختلال الثروة، وغياب العدالة الاجتماعية والفساد، فشكلت بذلك أكبر داعم لتيار الإخوان، من خلال مساعدتها للجماعة على إيجاد أرضية تعاطف قيمية مهدت الطريق للإخوان بعد ثورة 25 يناير (كانون الثاني). وبشكل عام، كان عداء قطر لنظام مبارك يفوق تأييدها أو تعاطفها مع الإخوان أو المعارضة المصرية، وكان مشروع قطر ضد النظام أكبر من مشروعها لمساندة الجماعة.
الثانية: أنه للفترة الأكبر من عمر العلاقة مع نظام حمد بن خليفة، لم تكن لمصر رؤية لإدارة علاقة صراعية معلنة مع النظام القطري، ولم يدرك نظام مبارك حجم ما يمكن أن يشكله النظام القطري من تحدٍ مستقبلي، وتعاملت مصر مع قطر في سياق إدارتها الشاملة لعلاقاتها العربية، ومن منطلق مبدئي، يستهين بإمكان أن يشكل بلد عربي بحجم قطر تهديدا للأمن القومي لمصر، ومن خلال رؤية مصرية تعتبر أن مصر كبيرة وليست بالدولة التي يمكن أن تتعرض للخطر من جراء سلوكيات قطرية. وذلك ما تكشفه بجلاء النظرة الشخصية للرئيس مبارك لقطر، والتي عبر عنها أكثر من مرة بأشكال مختلفة، وهي إشارات لم تعدم تكرارها على لسان أقرب معاونيه والمسؤولين في عهده، فحتى في ظل أقصى فترة سخطه على قطر-في خطابه سالف الذكر في 24/1/2010- تأبّى على مجرد ذكر اسم قطر. وفي أغلب تصريحاته عن قطر أبدى ترفعه عنها وعن قناة الجزيرة، وهناك رواية عنه كثيرا ما تُجرَى الإشارة إليها تفيد بأنه عندما زار «الجزيرة» قبل سنوات من الإطاحة به، نظر إلى المبنى، وقال: «كل هذا يخرج من علبة الكبريت هذه». ويتذكر صحفي البي بي سي «فرانك جاردنر»، قول الرئيس مبارك وهو يشكو من خلاف له مع أمير قطر: «لماذا أهتم ببلد تعداد سكانه يعادل حجم نزلاء فندق صغير». ولم يكن مبارك استثناء من نظرة رئيسي مصر السابقين عليه لقطر، وهي الدولة التي طالما توترت علاقتها مع مصر.
الثالثة: أن نظرة مصر لقطر؛ كدولة ضمن المنظومة الخليجية في مجلس التعاون الخليجي، شكلت معطى مهما في السياسة المصرية تجاه قطر، خصوصاً في وقت لم يكن قد اتضح بعد طبيعة الخلافات الخليجية مع قطر، في ظل رؤية مصرية كانت متيقنة، أنه لا يمكن أن ينحاز الخليج لمصر على حساب قطر. وذلك ما يشير إليه الفقي، الذي يؤكد أن لمصر علاقات وثيقة مع دول الخليج عموماً، ولكنها تدرك في الوقت ذاته أن من غير الواجب ولا المستحب التصعيد في حدة الخلاف مع دولة قطر، لأن ذلك سيؤثر بالضرورة على علاقات الخليج بمصر، لأن «اللُّحمة» الجغرافية والتاريخية بين دول الخليج أقوى من علاقة أي دولة فيه مع طرف عربي آخر.
ولذلك كان الرئيس المصري يتعامل مع قطر، وهو مدرك تماما لحدود حركته مع النظام القطري، مؤثرا عدم الرغبة في الإضرار بعلاقات مصر الخليجية. وذلك ما يفسر جانباً من تراوح السياسات المصرية خلال فترة مبارك لملف قطر بين الاحتواء والتصعيد المحسوب، وهو ما كان أمراً ملموساً في إدارة مبارك للملف.
اعتناق توجه التغيير… قطر والربيع العربي
كريستيان كواتس أولريشسين (Kristian Coates Ulrichsen)، المتخصص في شؤون الشرق الأوسط، بمعهد بيكر للسياسة العامة في جامعة رايس بالولايات المتحدة الأمريكية، سعى في دراسته إلى تحليل كيفية وسبب توظيف القيادة القطرية عام 2011 للثورات المندلعة في مناطق من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كفرصة لنشر نفوذها الإقليمي، بدلاً من أن ترى فيها تحدياً لبنى اقتصادية أو ديمقراطية وسياسية.
ويرى أن هناك ثلاثة عوامل جعلت من التغيير السريع في السياسة القطرية ممكناً في المنطقة. أولها: هو التركز الكبير لعملية صنع القرار من أعلى الهرم إلى أدناه في قلب النخبة الحاكمة في الدوحة. حيث تفاعلت دائرة صنع القرار المحدودة هذه مع الهيكلية الشخصية للغاية للسلطة في الدوحة، لتسمح بحدوث تغيير مفاجئ في الاتجاه دون الحاجة لتصفية الاقتراحات عبر طبقات من البيروقراطية أو طلب موافقة تشريعية. كما كان حجم قطر الصغير عاملاً لعب لمصلحتها، إذ يعني ذلك أن عدد المصالح أقل، أو أن الفصائل المتنافسة ضمن دوائر صنع القرار أقل مما هو الحال عليه في دول أكبر مثل المملكة العربية السعودية. وقد ارتبط ذلك بالتفسير الثاني لحرية قطر الكبيرة في التصرف، والتي تتمثل في غياب الضوابط المحلية على صناع السياسات. فهيكليات النخبة صانعة القرار غير مرتبطة بمطالب محلية مهمة، مما سهل بشكل كبير إعادة توجيه السياسة القطرية بعد يناير (كانون الثاني) من عام 2011. وتقاطع كل ذلك مع عامل ثالث، هو الاتجاه الأولي «لمسار» الثورات العربية والمتوازي مع السمعة الدولية الضخمة التي تملكها قطر كلاعب حيوي في الشرق الأوسط، يبحث عن منصة عالمية ليعلن نفسه منها.
قطر والقضية الفلسطينية: اختزال القضية بـ”حماس” والعلاقات مع إسرائيل
الباحث والصحافي الفلسطيني عبدالغني سلامة، يقول في دراسته: إنه معروف لدى أي مراقب، أن قطر، ومنذ تولّي الأمير حمد الحكم، وهي تُولي القضية الفلسطينية اهتماماً زائداً، وتضعها في صلب سياستها الخارجية، حتى صارت طرفاً فاعلاً ومهماً في المعادلة السياسية القائمة، ونجحت بإقامة علاقات مع الأطراف كافة: مع إسرائيل، مع السلطة الوطنية، مع حماس.. الأمر الذي يدعونا لطرح السؤال: ما دوافع قطر للتعامل مع القضية الفلسطينية؟ وما محدداتها وأهدافها السياسية؟ وكيف كان أثر ونتيجة تدخلها في الشأن الفلسطيني؟
اليوم، وفي ظل الحصار المفروض على قطر، والضغوطات الدولية عليها لوقف تمويلها لحماس، وبعد إنجاز المصالحة الفلسطينية وإنهاء الانقسام، لم يعد لقطر الدور السابق، ولا سيما أن المصالحة تمت في القاهرة، وبرعاية مصرية، وبإشراف ومتابعة حثيثة من قبل المخابرات المصرية، ومع التحول المهم في توجهات وخيارات حماس، التي باتت تحت قيادة جديدة (يحيى السنوار)، وهي قيادة نشأت في ظروف وسياقات مختلفة عن القيادات السابقة التي كانت تقيم في الدوحة، ومع اقتراب الأزمة السورية من الحل (مع بقاء نظام الأسد)، واستعادة مصر لدورها.. كل هذه الأسباب وغيرها ستؤدي إلى تفكيك التحالف القطري الحمساوي، أو على الأقل إضعافه، للحد الذي يقلل كثيرا من أهمية وحجم الدور القطري.
اختصرت قطر القضية الفلسطينية بحماس، كما لو أنها كل الشعب الفلسطيني، أو ممثله الشرعي والوحيد. ودعمت ومولت الانقسام، وكانت كلما أوشكت فتح وحماس على الاقتراب من حل ينهي الانقسام، تأتي قطر وتقدم مزيدا من الإغراءات لحماس بمشاريع إسكانية ودعم مادي ووعود بحلول لمشاكل الكهرباء والموظفين، حتى إنها الوحيدة التي لها سفارة في غزة، وما زالت ترفض تقديم أي دعم لغزة من خلال السلطة، ولم تكتف بتوريط حماس بالانقسام، فقد ضغطت عليها وأغرتها لمغادرة دمشق.
أهداف الدعم القطري للفصائل المسلحة في سوريا
يرى الباحث والصحافي السوري محمد الخطيب في دراسته أن المجموعات المسلّحة المعارضة والجهاديّة في سوريا حاولت إبقاء ارتباطاتها بالجهات الإقليميّة والدوليّة غامضة وسريّة. حتّى عام 2014، لم تكن ارتباطات هذه المجموعات واضحة بجهات إقليميّة ودوليّة، حيث كان التوجّه السائد لدى الدول الداعمة لها خلال العامين الأوّلين من الحرب السوريّة، هو دعم كلّ الفصائل المسلّحة باستثناء بعض التفاوت الذي تفرضه طبيعة الفصيل المدعوم ومنطقة نفوذه وتوجّهاته الفكريّة.
وجاء حرص الداعمين في تلك المرحلة على تقديم المال والسلاح إلى كلّ المجموعات المشكّلة، بهدف استقطاب مختلف الشرائح، وتشجيع الانشقاقات في صفوف الجيش السوريّ. وقد نجح الدعم القطري في فرض إيقاعه منذ البداية عبر تقوية نفوذ الجماعات السلفيّة الجهادية والإخوانية، وخصص القسم الأكبر من الدعم لمجموعات فاعلة، مرتكزة على أسس عقائديّة جهاديّة مثل حركة أحرار الشام وجبهة النّصرة، فرع تنظيم القاعدة في سوريا، والتي غيّرت اسمها أخيراً إلى «جبهة فتح الشام» ثم إلى «هيئة تحرير الشام»، أو«لواء التّوحيد» التابع لجماعة الإخوان المسلمين، وكان يتلقّى دعماً كبيراً من قطر وتركيا.
لعبت قطر دوراً بارزاً في دعم «المجلس الوطني السوري»، ثم ائتلاف قوى الثورة السورية، اللذين أسسا تباعاً كمظلة سياسية لتمثيل المعارضة السورية، حيث أنفقت الدوحة ملايين الدولارات على المجلسين وكذلك على شخصيات وأطراف سياسية داخل هذين المجلسين. وكشفت مصادر مُطلعة عن الدعم الذي قدمته الدوحة إلى الائتلاف السوري المعارض، حيث بلغ حجم الدعم (22.5) مليون دولار أمريكي، ومبلغاً مثله تم منحه لـحكومة المعارضة الموقتة، وخصوصاً بعد زيارة رئيسها –آنذاك- أحمد طعمة إلى قطر، و(10) ملايين دولار أمريكي لوحدة تنسيق الدعم. وبلغ حجم إنفاق قطر على فصائل عسكرية، وعلى رأسها جبهة فتح الشام (جبهة النصرة سابقًا) ما يقارب (130) مليون دولار أمريكي بين عامي 2013 و2016.
قراءة في ثنايا الدور القطري في اليمن
يرى مطهر لقمان، الباحث والمستشار القانوني اليمني، أن اليمن ظل على مدى عقود متعاقبة ساحة مهيأة لكل الأطراف –دولاً أو تيارات أيديولوجية– الإقليمية والدولية التي دخلت في مراحل معينة حالة صراع نفوذ مفتوح على مستوى المنطقة، ودائماً ما كان هدف الحصول على موطئ قدم في اليمن عند جميع هذه الأطراف يأتي في قلب استراتيجية صراعها المفتوح مع السعودية.. ابتداءً من حركة القوميين العرب والتيارات اليسارية، والتي تمكنت في ستينيات القرن الماضي، وفي سياق صراعها الطويل والمفتوح على مستوى المنطقة مع المملكة العربية السعودية، من تأسيس دولة في جنوب اليمن.
ومروراً بالحركات الإسلامية التي بدأت أولى خطوات تأسيس حضورها في اليمن في أربعينيات القرن الماضي، ثم مرحلة صراع النفوذ «الساخن» الذي شهدته المنطقة خلال فترة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي بين السعودية من جهة ومصر عبدالناصر الذي –كما هو معلوم– كان اليمن ساحته الأهم، من جهة أخرى.
ووصولاً إلى ما يشهده اليمن اليوم، إن في سياق الصراع الإقليمي «الساخن والمدمر» الذي تمر به المنطقة بين السعودية وإيران، والذي يمثل اليمن فيه بالنسبة لإيران اليوم ساحة من أهم ساحات الصراع مع السعودية، أو في سياق صراع النفوذ المرير المفتوح على مستوى المنطقة بين قطر والسعودية أولاً، وتالياً مع السعودية والإمارات، والذي يمثل اليمن فيه بالنسبة لقطر أيضاً ساحة من أهم ساحات الصراع التي استخدمتها في السابق ضد السعودية، وتستخدمها اليوم ضد السعودية والإمارات.
وباستعراض نشأة وتطور الدور القطري في اليمن، نجد أنه اتخذ مسارين رئيسين لتعزيز هذا الدور، الأول: «رسمي» تمثل في تطوير العلاقات بين قطر واليمن كدولتين، والثاني: «غير رسمي» وتمثل في إقامة علاقات مع الفاعلين غير الرسميين في اليمن، كالتحالف مع حزب الإصلاح «فرع الإخوان المسلمين في اليمن» والعلاقات مع حركة أنصار الله (الحوثيين) وأيضاً مع الجماعات الجهادية/ القاعدة في اليمن، إلى جانب فتح قنوات اتصال مع بقية الكيانات السياسية والاجتماعية والدينية الأخرى.
إيران وقطر والأزمة الخليجية
كتبت دينا إسفندياري (Dina Esfandiary) -باحثة سويسرية من أصول إيرانية تعمل في مركز العلوم والدراسات الأمنية التابعة لجامعة كينغز في لندن- في دراستها أنه لطالما حافظت إيران وقطر على علاقة عمل براغماتية بينهما على الرغم من الخلافات العديدة. وممّا لا شك فيه أنّ الدول العربية الخليجية تنظر إلى طهران، في ظلّ حكم الجمهورية الإسلامية، على أنّها قوة تدميرية في المنطقة، بسبب دورها في النزاعات الإقليمية المرتبطة بالأقليات الشيعية. حافظت قطر منذ تأسيسها على علاقات متينة مع دول الخليج، ممّا وضعها في موقف معارض لإيران. هذا إلى جانب فروقات دينية وسياسية واجتماعية سبّبت التوترات وعدداً من التقلبات في العلاقة بين الدوحة وطهران، ولكن حقل الغاز في الخليج العربي، والذي تتقاسمه إيران وقطر، قد يرغم البلدين على وضع خلافاتهما جانباً والعمل معاً، حتى في الفترات التي تتشنج فيها العلاقة بين إيران ودول مجلس التعاون.
وتشير إسفندياري إلى أن المنظور الإيراني يرى العلاقة مع قطر من خلال مؤشر السياسة البراغماتية الضرورية لغرض إدارة مصدر طبيعي مشترك، وأيضاً، لتعزيز الحوار والتعاون في المنطقة. ولكن من المستبعد أنْ تسعى إيران لتحقيق المزيد لأنّها تدرك، أولاً: أنّه لا يمكن تحقيق التحالف مع قطر، كما أنّ مثل هذا التحالف بالنسبة لإيران هو غير مرغوب فيه على المستوى العلني. ترغب إيران بالاحتفاظ بعلاقة عمل مع البلدان الأخرى، ممّا يتيح لها الحفاظ على المرونة في سياستها الخارجية في حال تغيّرت الظروف. أمّا في الوقت الحالي، وعلى الرغم من مطالبتها بالتهدئة، تواصل إيران جني الفوائد من الانشقاق الحاصل في مجلس التعاون، وتنشئ محوراً بديلاً للقوى الإقليمية عبر تعزيز العلاقات مع قطر، وتركيا، والإخوان المسلمين، وتواصل مساعيها لتقديم نفسها كلاعبٍ إقليمي سلمي وعقلاني في منطقة بحاجة إلى حل الأزمات عبر الحوار. سوف تستمر هذه الشراكة الناشئة طالما امتلك الطرفان مصلحة فيها في المستقبل القريب. إنّ وجود حقل الغاز المشترك يعني أنّ قطر وإيران ستحتفظان بنوع من العلاقة العملية المطلوبة لأجل إدارة الحقل بشكل كفؤ.
الأزمة الخليجية والأذرع الإعلامية
اهتمت ورقة أستاذ الإعلام في جامعة بيرزيت في فلسطين: محمد أبو الرب، بتتبع أكثر المواقع الإلكترونية تصفحاً في المنطقة العربية، بالتركيز على توجهاتها وسياستها التحريرية، ومدى نفوذ قطر أو الدول المقاطعة لها في منطقة الخليج، في محاولة لفهم تشكلات الرأي العام في المنطقة العربية على الشبكة العنكبوتية. كما تبحث في أماكن نفوذ المنصات الإلكترونية التابعة لقطر، أو تلك التابعة للدول المقاطعة لها، خصوصاً بعد الأزمة، وتسلط الضوء على التنافس الحالي في استقطاب الرأي العام في مناطق شمال أفريقيا.
ويشير أبو الرب في ورقته إلى أن الإعلام القطري الرسمي والمتحالف معه ينشطان بقوة منذ الأزمة الخليجية في الخامس من يونيو (حزيران) 2017، وعلى الرغم من أن كثيراً من وسائل إعلام قطر كانت توصف بأنها موالية، أي إنها توالي السلطة القطرية، حتى وإن لم تروج لها صراحة، لكن أزمات المنطقة العربية وآخرها الأزمة الخليجية دفعت بهذه الوسائل لتكون أكثر وضوحاً في تأييدها لقطر ودفاعها عنها، إذ انتقلت من تصنيف الإعلام الموالي والإعلام السلطوي إلى التعبوي، وهو حال غالبية المنصات الإعلامية التي تموّلها قطر، وستأتي هذه الورقة على تفصيلها.
هذا الانتقال فرض على هذه الوسائل ضريبة أمام الجمهور، ضريبة التحول المباشر والآني وتحديداً قناة الجزيرة، التي كانت تؤيد العمليات العسكرية للتحالف العربي في اليمن، وفجأة أصبحت ضد التحالف وتنشر صوراً لقتلى ومصابين جراء العمليات العسكرية، بل وتبرز تقارير دولية على حساب حجب تقارير أخرى، وترجمات من الإعلام الأجنبي على حساب حجب ترجمات أخرى، وهذا ما انعكس سلباً على جمهورها على منصات الإعلام الاجتماعي، وتصاعد التعليقات السلبية أكثر من ذي قبل.
لكن من جهة أخرى، نجحت الجزيرة والمنصات الإخوانية في التأثير على الجماهير التونسية والجزائرية والمغربية، وتسويق رواية «حصار قطر» ومحاولة مقاربته لحصار الفلسطينيين في قطاع غزة، وتمرير استعارة مطالب إسكات الجزيرة بأنها إسكات لصوت الشعوب، وهذا واضح من حجم التفاعل والتعليقات على منشوراتها من هذه البلدان، على العكس تماماً من محدودية التفاعل المؤيد لقطر على منصات السوشيال ميديا من دول الخليج وبلاد الشام ومصر ودول عربية أخرى.
مستقبل الوجود العسكري الأمريكي في قاعدة العديد في ضوء الأزمة الخليجية
بحث جوزيف براودي، الباحث الأمريكي المتخصص في قضايا الشرق الأوسط، في ورقته هذه، الحسابات الراهنة في واشنطن فيما يتعلق بالوجود العسكري الأمريكي الكبير في قاعدة العديد في قطر، إثر الأزمة الخليجية وآثارها المعقدة على العلاقات الأمريكية-الخليجية.
يستعرض براودي دراسته في ثلاثة أقسام: القسم الأول، يعرض خلفية المناقشة ومعضلة قاعدة العديد، ويغطي التاريخ والأهمية الاستراتيجية للقاعدة من وجهة النظر الأمريكية، فضلاً عن فوائدها السياسية الاستراتيجية لقطر. يستند هذا القسم لمصادر متنوعة بما في ذلك الدراسات والمنشورات العسكرية الأمريكية، ومقابلات مع أمريكيين لديهم معرفة بالقاعدة. ويعرض القسم الثاني مجموعة من التصريحات العامة الراهنة المتضاربة حول قاعدة العديد، والتي صدرت من كبار المسؤولين الحاليين والسابقين منذ بداية أزمة قطر، وكذلك مختلف الكتاب والمحللين السياسيين. أما القسم الثالث، فيجمع المعلومات المستمدة من خلال المقابلات التي أجريت مع الأصوات المسموعة بصفة خاصة في مجال السياسة الاستراتيجية الأمريكية تجاه منطقة الخليج –بما في ذلك رئيس سابق لوكالة استخبارات الدفاع الأمريكية، واثنان من المتخصصين في الشؤون العسكرية لمنطقة الخليج، وضابط احتياط في الاستخبارات البحرية، والذي أقام لمدة سنة واحدة في قاعدة العديد.
المقارنة بين بريكست والأزمة الخليجية: الهوية والليبرالية
ديانا جاليفا (Diana Galeeva) -باحثة لدرجة الدكتوراه في جامعة دورهام بالمملكة المتحدة، بكلية الحكومة والشؤون الخارجية- تنطلق في دراستها من إشكالية أساسية: كيف ساعد مفهوم الهوية الوطنية في إضعاف أو تعزيز العلاقات بين أعضاء الاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون الخليجي؟. وتطرح فكرة أن الاعتراف بالهويات المشتركة لدول مجلس التعاون الخليجي سيكون حاسماً في الحفاظ على وحدة المجلس.
وتناقش الدراسة، استناداً إلى فحص نظريات ليبرالية وبنائية كيفية بناء التعاون والعلاقات السلمية بين الدول والحفاظ عليها. إن المدرسة الليبرالية لا تصف بشكل كافٍ تطور المنظمات الدولية كالاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون الخليجي. وتنص الحجة الليبرالية على أن المؤسسات العالمية جوهرية لضمان التعاون بين الدول. ويجب أن يتم النظر إلى تطور هذه المؤسسات بناءً على المنهج البنائي، الذي يأخذ في الاعتبار الثقافات الاستراتيجية وأهمية المعايير والهويات. وستركز هذه الدراسة أولاً على الخلاف بين الليبراليين والبنائيين، وستتناول الاتحاد الأوروبي ثانياً، مع أخذ بريكست والانتخابات الفرنسية كحالات للبحث، وأخيراً سترصد سياسات مجلس التعاون الخليجي مستعينة بقطر وعُمان كمثالين.
دولة قطر: «المقاول الفضولي» والسياسات القروسطية
يقول محمّد عبدالمطّلب الهوني -مفكر ليبي والمستشار السابق لسيف الإسلام القذافي-: إنه عندما نحاول تحليل السياسة الخارجيّة القطريّة نجد أنفسنا أمام معضلة تبرز لأول مرّة على مسرح السياسة العربية منذ رحيل الاستعمار وتشكل دول الاستقلال، وتتمثل في ظاهرة الخروج عن الأنساق المستقرّة منذ ذلك الزمن، وحتّى وصول حمد بن خليفة إلى الحكم في قطر.
ويجيب الهوني عن تساؤله: هل ثمّة احتمالية أو حتى مجرد إمكانية لنجاح قطر والإخوان المسلمين في مشروعهم هذا؟ يجيب بالنفي لهذه الأسباب:
أولاً: هذا التّحالف يعتمد على قراءة خاطئة للتاريخ، وهي إمكانية إنتاج حالات متشابهة في التجربة البشرية على الرغم من التباعد الكرونولوجي، بتصفية الظروف الذاتية والموضوعية كافة للاجتماع البشري، وبنظرة أيديولوجية متعالية على إكراهات الواقع. ويتبدى ذلك في وهم إمكانية قيام إمبراطورية تحت مسمى الخلافة الإسلامية في القرن الحادي والعشرين. هذا الوهم يشترك فيه أكثر من نظام إقليمي في المنطقة. فتركيا أردوغان تحلم بإقامة إمبراطورية عثمانية ثانية، وكذلك إيران التي ترى أنّها دائنة للتاريخ بحقوق الفرس في حكم الأمة الإسلامية كما حكمها العرب والأتراك. لذلك فإنّ التكتل الإخواني- القطري له حلفاء ومنافسون في الوقت ذاته. فهم حلفاء في محاولة القضاء على الأنظمة القوية في المنطقة حتّى لا تتصدى لأهدافهم، ومؤجلون للصراع في ما بينهم إلى ما بعد الاستحواذ على التركة. لذلك لا يمكننا قراءة مواقفهم السياسية في كثير من الأحيان دون هذه الفرضية، والمثال الأوضح هو محاولة إيران حصار السعودية بمساعدة قطر والإخوان في اليمن، وزرع القلاقل في الكويت والبحرين، وقيام تركيا بإرسال كتائب عسكرية لقطر، وإقامتهم قاعدة عسكرية في الصومال. هذا التحالف الذي هو ليس بالضرورة مكتوبا وموثقا، وإنما توافق ضمني يُستجلى من خلال المواقف السياسية والعسكرية والإعلامية لهذه الدول، قد بدأ يترنح بعد خروج المملكة السعودية من سياسة الاحتواء إلى سياسة المواجهة.
ثانياً: إنّ الإصلاحات الكبرى الّتي دشنها الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده في الفترة الأخيرة، وخروج المملكة العربية السعودية من عصر المواجهات اللاهوتية الّتي اعتمدتها بعد قيام الثورة الإيرانية إلى صراع النماذج الحضارية، وثورة المعرفة التي تعتبر أخطر ما وقع في المنطقة العربية منذ أكثر من قرن، ستقضي في المديين المتوسط والطويل على هذه الأوهام الفارسية- التركية- الإخوانية، وستنقل المعركة الحضارية إلى تلك الأوطان التي ما زالت تغط في سباتها منذ العصور الوسطى.
ثالثاً: لقد أثبتت التجارب التاريخية أنّ القوة العسكرية والأمنية لا تستطيع وحدها خلق تماسك مجتمعي، وأنّ سياسة الهيمنة وتصدير الثورات تستنزف موارد الدول على حساب التنمية، وقد تكون عاملاً في سقوطها مثلما حدث في الاتحاد السوفيتي، الذي على الرغم من قدرته على تدمير العالم مئات المرات، سقط نظامه وتشظت إمبراطوريته المترامية الأطراف بسبب هذا التوجه غير العقلاني، كما حدث ذلك في بعض الأنظمة العربية مثل العراق وليبيا وسوريا.
ويبدو من قراءة المعلومات والإحصاءات في إيران أنّها ذاهبة إلى المصير نفسه، وكذلك تركيا الّتي دخلت في مغامرات غير محسوبة في الداخل والخارج، وفي بداية تآكل المنجزات الاقتصادية الّتي بنى عليها أردوغان مجده، فهي قد توصله إلى الطريق المسدود نفسه. لهذه الأسباب مجتمعة نستطيع أن نرى بوضوح تدرج هذه التحالفات إلى السقوط المدوي، والسبب الرئيس هو اعتمادها في تحقيق أوهامها أسلحة قروسطية لا تصلح في معارك القرن الحادي والعشرين.