تقديم
منذ وصول حمد بن خليفة آل ثاني إلى الحكم في قطر عام 1995 بانقلاب أبيض على والده خليفة بن حمد آل ثاني، بدأت الإمارة الخليجية برسم دور جديد لها يتجاوز نشأتها الحديثة؛ كدولة لا تمتلك عمقاً تاريخياً يؤهلها لفرض وجودها في مجالها الحيوي عموماً، وفي العالم العربي خصوصاً. وفي موازاة تراجع الحضور الفاعل لمصر والعراق وسوريا كدول مؤثرة في المنطقة العربية، وإزاء التحولات الكبرى في الإقليم في السنوات الأخيرة، وما تركته من ارتدادات سلبية بفعل الأحداث التي تفجرت بدءاً من عام 2011، وفي ضوء حال المراوحة في السياسات الدولية في شأن «الملفات العالقة» عربياً وشرق أوسطياً، لا سيما بعد عام 2003، برزت قطر بفاعلية من خلال التدخل «السافر الصامت» في القضايا الحيوية، عبر استنهاض أقانيم عدة لعبت فيها فضائية الجزيرة دوراً تجييشياً وتحريضياً في تغطيتها لـــ«أحداث الخريف العربي». ولم يكن توظيف أذرع الحركات الإسلامية بطرفيها السياسي والجهادي بمنأى عن محاولات التلاعب القطري في المجتمعات العربية. كل ذلك وغيره رافقه ضخ مالي غير مسبوق ساعد على إبراز «قطر» كدولة مؤثرة.
«ما بعد قطر» توصيف لحقبة إقليمية آيلة للأفول. إن «التعملق السياسي» لدولة قطر أسهم -إلى حد كبير- في رسم هذه النهايات، ليس من باب السخرية، وإنما لأسباب ترتبط بالنهج «التخريبي» الذي سعت قطر إلى تدشينه من خلال أقوى أذرعها: الإسلام السياسي والجهادي في أكثر من دولة عربية؛ والتشابك الخفي مع منظمات إرهابية؛ إلى جانب ازدواجية المعايير في السياسات الخارجية، ودعم المعارضات السياسية، مقابل تكميم أفواه المعارضين القطريين. كل هذه العوامل وغيرها، تجبر المراقب على طرح مجموعة من الأسئلة حول السياسات القطرية الخطرة: ما هدفها؟ وما تكاليف الازدواجية على الداخل القطري؟ وما الأرباح التي حصدتها الدوحة نتيجة هذه السياسات؟ وكيف انعكس ذلك على محيطها الجغرافي؟ وهل قطر قادرة على الاستمرار في مواجهة جيرانها والدول العميقة تاريخياً؟ وما انعكاسات سقوط حكم الإخوان على النظام القطري؟ وما أهداف الدعم القطري للفصائل المسلحة في سوريا؟ وما خطوط التلاقي والتصادم بين الدوحة وطهران تحديداً بعد الأزمة الخليجية؟
يحاول كتاب: «ما بعد قطر: السياسات القطرية وحافة الهاوية» (الكتاب الثاني والثلاثون بعد المئة، ديسمبر (كانون الأول) 2017) الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها. يتناول الكتاب ملفات رئيسة على علاقة مباشرة بالتوجهات القطرية في المنطقة العربية في حقبتي حكم حمد بن خليفة وتميم بن حمد.
تطرق الباحثون المشاركون بعد المادة التمهيدية إلى الملفات التالية: مصادر القوى الناعمة التي حاولت عبرها الدوحة تعويض غياب عمقها التاريخي؛ فلجأت لصنع آلة دعائية ممثلة في الجزيرة، وعبرها استخدمت رجالاً مثل يوسف القرضاوي منظِّر الإخوان المسلمين و«نجم الجزيرة»، محاولةً عبره الإفادة من جذور سلفية تدعيها الإمارة. ناقش الكتاب العلاقات المصرية – القطرية في فترة حكم حسني مبارك ومحمد مرسي بوصفها واحدة من مفاصل الأزمة الراهنة. كما مرّ على دور قطر المؤجج في «الخريف العربي»، وحاول تتبع التأثير القطري في القضايا الجارية، بداية من القضية الفلسطينية التي تمارس قطر فيها الازدواجية عبر العلاقات القطرية – الإسرائيلية واستضافة حماس. ويدرس الكتاب الدور القطري في سوريا التي تتلقى جماعاتها المسلحة دعماً قطرياً، واليمن التي تموّجت أنماط الدعم فيه وأطيافه لتلتقي عند طرفي الإسلام السياسي اليمني المتمثل في أنصار الله (الحوثي) وحزب الإصلاح (الإخواني)، ثم محاولة تقويم الأزمة الخليجية كظاهرة سياسية، ومقارنتها بأزمة الاتحاد الأوروبي، عبر تطبيق نظريات العلاقات الدولية.
يهدف الكتاب إلى دراسة السياسات القطرية في السنوات الأخيرة وارتداداتها في الإقليم، إذ ترغب قطر في زيادة نفوذها. غير أن هذا النفوذ أنتج أخطاء استراتيجية وفجر تحديات وضغوطاً إقليمية ودولية. ثمة أربعة رهانات خاطئة أوصلت قطر إلى هذه الخسائر الإقليمية: الرهان على تأجيج الحركات الاحتجاجية العربية، تورطها في سوريا ودعمها للجماعات الإرهابية، تأييد ودعم الإخوان المسلمين في مصر، وازدواجية التعاطي في ملفات الإرهاب.
دعمت قطر الحركات الإسلامية في دول عربية عدة وساندت وباركت ما سمي بـ«الربيع العربي»، فما الذي أنتجه هذا الدعم؟ تخلص المادة التمهيدية من الكتاب إلى أن الدعم السخي لحركات الإسلام السياسي كان دون فائدة، لأن هذه الحركات عاجزة عن إدارة الدولة، أو تقديم حلول للمشاكل الاجتماعية التي دفعت إلى الاحتجاج (احتجاجات الخريف العربي)، فضلاً عن أنه فتح الباب للمزايدة داخل هذه الحركات، وفسح المجال للأجنحة الأكثر تطرفاً وعنفاً كي تستفيد من أجواء الحرية لتخزين الأسلحة وتدريب الإرهابيين. وترتب على تنامي العنف والإرهاب في المنطقة مزيد من تكبيل اقتصاداتها بالنفقات الأمنية، وانهيار قطاعات أساسية منها مثل السياحة والاستثمار الخارجي، فتفاقمت حدة المشاكل التي كان يرجى حلها، وتحولت الأوضاع في أكثر من بلد إلى حرب أهلية. فهل ما يشاهد اليوم أمام أعيننا وأعين العالم، من دمار وآلاف القتلى وملايين المهجرين وانهيار بلدان بكاملها، يمكن أن يعد لدى العقلاء «ربيعاً»؟
لا يحمِّل الكتاب تبعات وتداعيات ما يجري في المنطقة العربية لدولة واحدة، فلا ريب أن الفراغات الإقليمية خصوصاً بعد تراجع دور القاهرة، والاضطرابات المتلاحقة، أقله منذ الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، أديا إلى هذا التصدع في دول عربية عدة، في ظل تمدد إيراني يتخطى ما يسمى بـ«الهلال الشيعي». لقد عملت الدوحة على توظيف «الفراغات» و«الاضطرابات» وأفادت منهما لتوطيد نفوذها في المنطقة، فأنتجت السياسات القطرية السلبيات في إدارة الملفات أكثر بكثير مما تراه «نجاحاً إقليمياً»، مما دفع الدول الخليجية التي تتقدمها السعودية إلى مواجهة «التغول السياسي القطري».
في الختام، يتوجه مركز المسبار بالشكر لكل الباحثين المشاركين في الكتاب، ويخص بالذكر الزميلين: إبراهيم أمين نمر، ورشا العقيدي، اللذين نسقا العدد، ونأمل أن ترضيكم ثمرة جهدهما وفريق العمل.
رئيس التحرير
ديسمبر (كانون الأول) 2017