مقدمة
الطَّبعة الأولى
تأتي دراسة فكر وفلسفة مذهب الاعتزال جزءاً لا يتجزأ من كيــــان الفكر الإسلامي؛ انطلاقاَ مما حققه هذا المذهب في الفكر الدِّيني والاجتماعي بشكل عام. فبعد أن كان الاتجاه السَّائد في التَّفكير يشجع على تقديم النص وإهمال العقل، إلى حد ما، فإن المعتزلة جعلوا لهذا العقل الأولوية في الفكر.
ربَّما تكون هذه هي البداية، وهذا هو الأساس الذي بنى المعتزلة عليه فكرهم الكلامي ثم الفلسفي، خلافاً لمستوى عصرهم، وما ساد من الأفكار آنذاك. بطبيعة الحال، تقدمت عليهم بمثل مقالاتهم فرق أخرى، مثل ما ورد في فكر الشّراة أو الحرورية (الخوارج) من نفي الصُّفات وخلق القرآن، ومما مازال مذهب الإباضية بعُمان عليه حتى اليوم.
قال أبو الحسن الأشعري: «فأما التَّوحيد فإنَّ قول الخوارج فيه كقول المعتزلة… والخوارج جميعاً يقولون بخلق القرآن»([1])؛ ومعلوم أنَّ الخوارج نشأوا السَّنة 37 هجرية، أي عِقب حادثة التحكيم بمعركة صفين، بمعنى أنهم تقدموا على ظهور المعتزلة بعقود. فإتباع المعتزلة للخوارج، في هذه أو غيرها، جاءت الإشارة إليهم، مِن قِبل خصومهم «بمخانيث الخوارج»([2]). لكنْ لا نعلم إذا ما جاء تبلور مقالات الخوارج، في القدر والتَّوحيد وغيرها، متأخراً.
إلا أنَّ المعتزلة تخصصوا في هذا المجال، وبنوا عليه كل هيكلهم الفكري، حتى تبلورت من مقالاتهم الكلامية فلسفة نظرت في مجالات الوجود كافة، بينما الخوارج، على اختلاف فِرقهم أخذتهم السّياسة، وطلب الحُكم بعيداً عمّا نُسب إليهم مِن مقالات.
ما يخص الإمامة، بمعنى الخلافة، وهي بالتَّالي السِّياسة، فبما أنَّ الإنسان هو الوحيد الذي يملك هذا العقل المبدع، وأفضل المخلوقات عند الله شدد المعتزلة على سيادة الإنسان في الكون، وأنه أروع ما في الوجود – «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ»(التّين: 4)- قائلين بإمكانية التَّصرف في حياته، وأنه مسؤول عن أفعاله، خيرها وشرّها، بعد أن اعتبره الفكر الجبري مسلوب الإرادة، لا يملك غير الخضوع للقدر خيره وشره. لقد أسس المعتزلة آيدولوجية ذات تطلعات تتسم بالتَّفكير الحر، قلما سبقتهم إليها مذاهب في الفكر الفلسفي المرتبط بالفكر الدِّيني بشكل عام.
ذلك إذا علمنا أن مفكري المعتزلة، كانوا فقهاء ورجال كلام وفلسفة في آن واحد؛ وانطلاقاً من سلطة العقل، ومسؤولية الإنسان عن أفعاله أو أعماله، أكد المعتزلة على تحقيق العدل الاجتماعي، بقياس عصرهم لا عصرنا، لذا نراهم مناهضين للظلم والتعسف الاجتماعي. تجسد ذلك في مواقفهم المعروفة ضد سلطات زمانهم، قبل أن يكون أداة بيدها، في عهد الخليفة عبد الله المأمون (ت. 218 هـ)، واشتركوا بشكل فعلي في التحريض الاجتماعي ضدها، حتَّى إن بعض فقهائهم اعتبر مجالسة السُّلطان الجائر فسقاً، مثلما سيأتي ذِكر ذلك، وارتبطت تنظيماتهم السرية بالفئات والطبقات الاجتماعية الفقيرة.
ربط المعتزلة، بشكل فعلي، بين حرية الإنسان والعدل الاجتماعي، ذلك لأنه من التَّناقض أن تكون مواجهة الظّلم والاستبداد، مصحوبةً بتقييد حرية الإنسان بالقدر وسيطرته عليه؛ وما يتبع ذلك من استغلال لهذا الأمر ، في فرض السُّلطة على الإنسان، ومصادرة حقِّه في الاحتجاج؛ بالوقت الذي اعتبرت فيه الأيديولوجية الرَّسمية، في ظل السُّلطتين الأمويَّة والعباسيَّة، بأن السلطة جاءت بالتفويض اللإلهي، فإن المعتزلة حولوا وجهة هذا التفويض إلى الإنسان، الذي أصبح له الحقُّ في اختيار حكامه، ونؤكد بقياس عصرهم، الشّورى والبيعة، لا بقياس ديمقراطيات اليوم، أو نظريات الحُكم الحديث.
لا يفوتنا القول إنَّ آراء المعتزلة، بخصوص العدل، وجدت أصداءها بشكل ملحوظ في الفلسفة الأوروبية، مثل ما جاء به الفيلسوف الألماني غوتفريد لينتز (لايبنتس)(1646- 1716)، في ما كتبه عن العدل الإلهيّ(1710)، بطلب مِن ملكة بروسيا، رداً على مَن فصل بين الدّين والأخلاق([3]). أما على المستوى الفلسفي في مسألة الوجود، فإن أهمية البحث في نظريات المعتزله، تأتي كونهم ركزوا على البحث الشَّامل في الوجود من الناحيتين الأنطولوجية والمعرفية.
إنَّ الأساس في نظرياتهم هـذه، يأتي انعكاساً للمسـألة المركزية في فلسفتهـم، وهي العلاقة بين الله والعالم، أي بين الله والطَّبيعة، لذا نرى أنَّ فكرهم في الوجود يدور أساساً حول هذه المسٍألة، ويقودهم هذا أحياناً إلى التَّداخل الواضح بين الله والعالم، وخصوصاً في مسألة العدم، الذي يأتي كواسطة بين الله الخالق والموجودات المخلوقة. هذا ما يؤكد وجود الأفكار «البنتائية» في فلسفتهم.
إنَّ اهمية هذا البحث، بخصوص الوجود، تأتي مباشرة من إمكانية معرفة ما يريد قوله المعتزلة، من خلال تفسير إشاراتهم غير المباشرة أحياناً لقضايا مهمة جداً؛ منعهم من التصريح بها الفكر السائد آنذاك، وكذلك خشية الاتهام بالزَّندقة أو الكفر.
كان النَّاس، بشكل عام في ذلك العصر، يفهمون الآراء الدِّينية من نصوص واجتهادات كحقائق مطلقة، لا مجال لمناقشتها أو المساس بها. ومن خلال آراء ونظريات المعتزلة يمكن القول : إنهم كانوا يملكون فهماً مترابطاً حول الوجود، وإنَّ إمكانية معرفة العالم كانت متاحة في الفكر المعتزلي، كون هذا الفكر اعتمد العقل في الاستدلال على الحقائق. من خلال ذلك تأتي مسألة اختيار البحث بهذا الموضوع، بعد أن سعى الكثير مـن الباحثين العرب والمستشرقين إلى عدم التمييز بين مرحلة الكلام والفقه؛ ومرحلة الفلسفة، والذي تؤكده المصادر. إنَّ مرحلة الاعتزال الفلسفية تأتي امتداداً للمرحلة الكلامية. لكن كثيراً من المهتمين أغفلوا المرحلة الفلسفية في الفكرالمعتزلي، التي تميزت بالبحث العلمي والعقلي، وتأسس فيها كيان نظري بحث بمجالات الكون الشاملة.
أشار إلى هذا الإغفال الأكاديمي والباحث في الفلسفة حسام الدِّين الآلوسي ([4]) عندما قال: «لقد أحال مؤرخو الفلسفة اليونانية النتف الضئيلة المتبقاة من أقوال الفلاسفة الطبيعيين وجميع الفلاسفة قبل سقراط وحتى عدم الانسجام الموجود في كتابات أفلاطون وأرسطو في كتبهم المختلفة إلى مذاهب موحدة المنهج والهدف، ولكن هذا لم يتوافـر بعد لآراء متكلمينا وفلاسفتنا إلا في حدود ضيقة وخاصة» ([5]).
إنَّ إبراز مسألة الوجود، في دراسة خاصة ليؤكد قبل كل شيء إنتاج المعتزلة الفلسفي، ومن بعد يشير إلى هذه الجماعة في تجاوز الفكر السائد، الذي سعى إلى الانغلاق على الأمور الفقهية واللغوية فقط. ويتضح هذا من خلال نظرياتهم التي تبحث في أسباب الوجود انطلاقاً من الوجود نفسه.
لقد رأينا أن الدُّخول بأفكار الفلسفة المعتزلية مباشرة، من دون الرجوع إلى تاريخها؛ وأسسها النظرية ومبادئها، قد لا يوفر الدراسة الوافية لهذه الفلسفة، حيث إن دراسة فلسفة مذهب المعتزلة تختلف بعض الشَّيء عن دراسة فلسفات عالمية أخرى كالفلسفة الهندية أو الفلسفة اليونانية وغيرها، والسبب في ذلك يعود إلى التشابك القوي بين تراثهم الثقافي الديني وتراثـهـم الفـلسفي، حيث بـدأ الاعتـــزال مذهبـاً من مـذاهب الديــانة الإسلامية، وليست ديانة جديدة. لذلك لم يستقل هذا المذهب في فلسفته عن التأثير الديني الإسلاميّ الواقع عليه.
سنرى من خلال هذه الدراسة، أن نظريات المعتزلة الفلسفية كافة، جاءت مرتبطة تماماً مع مبادئهم الدينية والاجتماعية. لذا كان من المفيد الكشف عن فترة التأسيس، والتي وردت كمقدمات لظهورالمعتزلة. ثــم كان البحث في المبادئ الأساسية كالتوحيد والعدل، وما يرتبط بهما من فروع مبدئية أخرى، وما ارتباط ذلك مقالاتهم في الوجود.
إنَّ البحث بفلسفة المعتزلة مباشرة يقدم نظريات غامضة قد تفتقر إلى الأسس والدوافع التي عن طريقها شق المعتزلة طريقهم إلى فلسفة الوجود. مع مقالات الاعتزال في الوجود كان منطلقها نظريات المذهب في التوحيد، وكان حافزهم الاجتماعي إلى إلغاء القدر المفروض على الإنسان هو العدل. كان تاريخ المعتزلة حاضراً في أدق أفكارهم الفلسفية، لهذا لا يمكن تجاوزه عند دراسة هذه الأفكار.
من ناحية المصادر، فقد اعتمدنا على المصادر القديمة، أكثر من غيرها إلى حد ما، بسبب قربها الزَّمني من الحدث، فهناك من مؤلفيها من كان معاصراً للمعتزلة، ومنهم من كان معتزلياً، وقد أُخذ بنظر الاعتبار، كون المصدر معادياً أومحابياً. وفي مقدمة هذه المصـادر يأتي كتاب «مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين» لأبي الحسن الأشعري ( ت.941 ميلادية 324هـ). على أن هذا المؤلف كان معتزلياً في بداية الأمر، ثم اعتزل شيخه أبا علي الجبائي (ت 916 ميلادية 303 هـ) ليؤسس مذهبـاً معارضاً للاعتزال؛ ومع ذلك تمسك الأشعري بالحياد في نقل الرواية أو الفكرة نوعاً ما، عندما أرخ للفرق التي اختـلف معهـا، حيث عكس آراء المعتزلة بشكل منطقي في كتابه هذا، قياساً بمؤرخين آخرين.
ثم يأتي من حيث الأهمية في مصادر البحث كتاب «الملل والنِّحل» لأبي الفتح عبد الكريم الشهرستاني (ت. 1152ميلادية 548هـ)، والذي بدوره قدم آراء جديرة بالاهتمام، ساعدت على تفسير كثير من آراء مفكري المعتزلة. وإضافة إلى عدد من المؤلفات الكلاسيكية الأخرى، سعينا إلى أخذ المختلف وترك المتشابه منها، كراهة للتكرار.
على الرغم من تحامل الشهرستاني ضد المعتزلة، وغيرهم من الفرق الأخرى من غير فرقته، كونه كان خصماً أشعرياً، إلا أنه لا يصل بتحامله إلى تحامل عبد القاهر البغدادي (ت. 1037 ميلادية 429هـ) في كتابه «الفرق بين الفرق». وقبله ابن الحسين الملطي (ت. 987 ميلادية 377هـ) في «التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع».
ربّما يُلفت النَّظر، إلى أنَّ أغلب المؤلفين في تاريخ الملل والنحل كانوا مِن الأشاعرة؛ ولا ندري، إذا ما كان فسح المجال أمامهم في التعبير عن آرائهم من قبل السلطات دوراً في هذا الاستحواذ، أي حريتهم في الكتابة في هذا المجال. تعطي هـذه المصادر، التي اصطلحنا عليها بالكلاسيكية الأساس الذي يستند عليه الباحث في دراسته، حيث اعتمد المؤرخون بشكل مباشر على كتب المعتزلة الأساسية، ككتب محمد بن الهذيل العلاف، وكتب إبراهيم بن سيار النظام وسواهما، أو الكُتب التي رد أصحابها عليهم، والتي لم تصلنا.
أما المصادر المعاصرة، فعلى الرغم من كثرتها، لكنها لم تتناول مسألة الوجود لدى المعتزلة بشكل مفصل، والأغلب منها اهتم بالسرد التاريخي مكتفياً بذكر فرق المعتزلة، وملخص عن آرائهـم، دون التوقف عند دقائق آرائهم ومجالات فلسفتهم، ومن أهم الدراسات المعاصرة التي تميزت عن غيرها من الدراسات التقليدية، عن فكر المعتزلة، كان كتاب «المعتزلة» لزهدي جار الله، الذي صدر في نهاية الأربعينيات، وكتاب «فلاسفة الإسلام الأسبقين» للباحث ألبير نصرى نادر، الذي صدر العام 1950، فقد قدم المؤلفان المعتزلة كفلاسفة، واتسم بحث الثاني بالدقة في مسألة الوجود، ومسألة مقالاتهم بعملية المعرفة، على وجه الخصوص.
بعد فترة طويلة من غياب مثل هذه الدِّراسـات المعمقة؛ جاء كتاب «النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية» للعلامة حسين مروة (اغتيل: 1987)، والذي صدر العام 1978. اعتبر فكر المعتزلة كمقدمة لوجود فلسفة عربية إسلامية، ابتدأت بفلسفة أبي يعقوب الكندي «ت. 873 ميلادية 269 هـ».
كان حسين مروة قد شق طريقه إلى البحث في التراث الإسلامي؛ من خلال دراسته في مدارس الحوزة الدينية بمدينة النجف، في مقتبل حياته؛ والتي وفرت له قاعدة متينة في هذا المجال، ثم تكليفه من قبل حزبه الحزب الشِّيوعي اللبناني للبحث في الموضوع أعلاه، وقد استغرق البحث فيه نحو عشرة أعوام في جامعات الاتحاد السوفيتي([6]).
بطبيعة الحال، هناك دراسات عدة كان لها السّبق والأهمية أيضاً، مثل دراسة أحمد أمين (ت. 1954)، التي صدرت تحت عنوان «ضحى الإسلام»، ودراسات علي سامي النشار (ت. 1979) في تاريخ الفلسفة الإسلامية، وهادي أبو ريدة(ت. 1991)، في حياة وفكر إبراهيم النظام، وحسام الدِّين الآلوسي في الحوار بين الفلاسفة والمتكلمين وغيرهم.
من أبرز المصادر غير العربية، التي توفرت، كان كتاب «تاريخ فلسفة الإسلام» لديبور، الذي قدم آراء المعتزلة في الوجود والعدم بشكل ملخص، ولكنه يسعى كغيره من المستشرقين إلى إبراز تبعية المعتزلة، وفلاسفة الإسلام كافة إلى الفكر الفلسفي اليوناني، وهذا يعتـبر من وجهة نظرنا تعطيلاً لإبداع المعتزلة الفلسفي والفكري، وكذلك غيرهم من فلاسفة الإسلام، مع القبول بالتأثير اليوناني. كذلك يأتي كتاب هانس ديبر «معمر بن عباد السلمي» كشف موثق لهذه الشخصية الاعتزالية الخطيرة. ويأتي من هذه المؤلفات ما هو بحثا في مصدر فكر المعتزلة أكثر مما هو بحث في فكر المعتزلة نفسه.
يأتي في مقدمة المصادر الاعتزالية المعتمدة كتاب شيخهم أبي الحسين عبد الرحيم بن محمد الخياط (ت. 912 ميلادية 300 هـ) «الانتصار والرد على الملحد ابن الرواندي»، وهو عبارة عن نقد حاد لكتاب ابن الرواندي «فضيحة المعتزلة»، الذي ردّ به على كتاب الجاحظ المفقود «فضيلة المعتزلة»، وربما لولا عداء ابن الرواندي للمعتزلة، وهو معتزلي سابق، ما سجل الخياط مقالات شيوخه، وأترابه من المفكرين، فقد وصلتنا بسبب هذا الكتاب، وكان مثلما ذكرنا رداً على كتاب الجاحظ (ت 255 هـ) «فضيلة المعتزلة»([7]). كذلك ما زالت المكتبة محتفظة بكتب قاضي القضاة عبد الجبار الهمداني (ت. 1024ميلادية 415هـ) كـ «شرح الأُصول الخمسة»، و«المغني في التوحيد والعدل».
مِن الكتب التي بحثت في تراجم المعتزلة، مثل «طبقات المعتزلة» و«المنية والأمل في شرح الملل والنحل» لأحمد بن يحيى المرتضى (ت. 1437 ميلادية 841هـ)، و«فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة» للقاضي عبد الجبار(ت. 1025 ميلادية 415 هـ)، وأبي القاسم عبد البلخي (ت. 931 ميلادية 319 هـ)، والحاكم الجشمي (ت. 1071 ميلادية 464هـ)، والكتاب لم يؤلف جماعياً بل جمعت مخطوطات ثلاثة كتب بين دفتين. ولا يفوتنا ذِكر كتاب ابن رشيد النِّيسابوري (ت. 1067 ميلادية 460هـ) «المسائل في الخلاف بين البصريين والبغداديين».
إن البحث في مسألة الوجود عند المعتزلة، يعد من الدِّراسات ذات الأولوية في الفكر المعتزل؛ي بل وفي علم الكلام عامة، بما تنطوي عليه من أهمية في الكشف عن استقلالية هذه الفلسفة بتأكيد المسائل، التي جاءت كإبداع لهم في هذا المجال، من دون إلغاء فضل الفلسفات الأخرى في ما قدموه مِن أفكار ومقالات، وهي مما لا يخلو منه فكر إنساني. كذلك كشف الصراع الفكري داخل المذهب المعتزلي نفسه، وكان السعي إلى كشف الأفكار الأساسية التي حظيت باهتمام كل مفكر من مفكريهم، وتشخيص النظريات التي تميز فيها هذا المفكر عن غيره من المفكرين.
امتاز الفكر المعتزلي بازدواجية العناصر المادية، والعناصر المثالية، فجاءت أهمية التركيز على كشف هذه الازدواجية دون استخدام المعيار المعروف؛ الذي طالما استخدم كثيراً في هذه المسألة، ألا وهو العلاقة بين المادة والوعي، أيهما الأصل وأيهما الفرع، أو أيهما أسبق من الآخر، على أن تكون الفلسفة إمّا مادية صرفة وإمّا مثالية صرفة، لأن استخدام مثل هذا المعيار يجعلنا في قطيعة مع العصر الذي تبلورت فيه تلك الأفكار الفلسفية. فعلى الرغم من أنَّ المسألة الأساسية أو المركزية في فكر وفلسفة المعتزلة، هي تحديد العلاقة بين الله والوجود، وهذا ما يعبر عنه المعيار اللينيني في الفلسفة.
لكنْ، ليس معنى هذا أن يكون هناك إيمان خالص بالله؛ أو إيمان خالص بالتكوين الذاتي للوجود؛ بل هناك مَنْ جمع بين التكوينين عندما اعتبر العالم أزلياً، وأن العدم شيء من الأشياء مثلما ورد لدى بعض شيوخ المعتزلة. إن التَّداخل بين العناصر المادية والمثالية في الفلسفة الإسلامية بشكل شامل هو واقع لا يمكن نكرانه. كذلك لا بد من الاعتراف بتنـوع التَّأثر الفكري والفلسفي في المعتزلة، أي الاتجاهات الفلسفية. إلى جانب التأكيد على الترابط بين أفكارهم، وتوضيح ما جرى من تطور بين الفلاسفة وتلامذتهم.
لقد سعى المعتزلة إلى وحدة الوجود المادية، من خلال قولهم: إنَّ الجواهر من مصدر واحد، وكذلك من قولهم بالتَّداخل بين أشياء الوجود بعضها بعضاً. ارتباطاً بهذه الوحدة تأتي مسألة الحركة التي لا تنفصل عن الأجسام المادية بمكان؛ مثلما ذهب إلى ذلك إبراهيم النظام. ولأهمية هذه الموضوعات نرى ضرورة إجراء تقييم جديد للفلسفة الإسلامية ومنها فلسفة الاعتزال، وأن يجري ذلك على ضوء دراسة هذه الفلسفة ارتباطاً بمكانتها التاريخية، وارتباطها بالدين والفلسفات الأُخر، وأن لا تؤخذ خالصة دون مؤثر.
كذلك لا تؤخذ أفكارهم تابعاً مقلداً عديم الإبداع، أو هامشاً للأفكار الأُخر. هذا من جهة، ومن جهة ثانية أنَّ البحث في هذه الفلسفة، يبدأ بتأكيد بداياتها التاريخية، وهذا ما أكدته هذه الدراسة بشكل مباشر، من خلال نظريات المعتزلة الفلسفية حول الوجود بشكل عام.
إنَّ أعمال أغلب الباحثين، الذين سعوا إلى التمييز بين المرحلة الكلامية، والتي امتازت بالمجادلات والنقاشات الفقهية، ومرحلة الفلسفة الإسلامية، حيث اعتبرت هذه الأعمال نظريات المعتزلة ضمن المرحلة الكلامية على الرغم من أنَّ المرحلتين مرتبطتان، فمرحلة الكلام هي الطريق إلى الفلسفة، وأن للمعتزلة رؤاهم الفلسفية التي لا تنكر.
عكست لنا آراء المؤرخين بأن الفكر المعتزلي قد مرَّ بمرحلتين: الأولى وكان التركيز فيها على الجانب الدِّيني والسّياسيّ، وهي المرحلـة التأسيسيـة، التي مثلهـا واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد. أما المرحلة الثَّانية، والتي كان التفلسف فيها واضحاً، كانت ممثلة بمحمد بن الهذيل العلاف، وإبراهيم النظام وغيرهما، وقد تميزت هذه المرحلة بالتأليف أو التصنيف الفلسفي عن الوجود.
لذا تعتبر المرحلة التي بدأها العلاف هي بداية الفلـسفة الإسلاميـة، وهي لا تنفصـل عن المرحـلة الكلاميــة، وممثلوها لا يدعون بالكلاميين إذا كان معنى الكلام مقتصراً على المجادلات الفقهية، والذي يطلق عليه اسم اللاهوت في فلسفة القرون الوسطى الغربية.
من ناحية الاسم والمصطلح فإن تسمية المعتزلة، حسب تصور المؤرخين، كـانـت بين أمرين: الأول ما يتعلق بالاعتزال السياسي، الذي مارسته مجموعة من الصحابة خلال الخلاف بين الإمام علي بن أبي طالب (اغتيل 660 ميلادية 40هـ) وأمير الشام معاوية بن أبي سفيان (ت.679 ميلادية 60هـ)، فقد اعتبر البعض هؤلاء المعتزلة هم أسلاف معتزلة الفكر والسياسة. الأمر الثاني يتعلق باعتزال واصل بن عطاء عن شيخه الحسن البصري (ت. 728 ميلادية 110هـ) في مسألة فقهية فكرية. لا يصمد الأمر الأول أمام الحجة التي تؤكد عدم العلاقة بين معتزلة السياسة ومعتزلة الفكر والفلسفة كما سلف ذلك.
أما الأمر الثاني فهو خروج أو انشقاق، لا اعتزال، لأن الاعتزال بمعناه الدَّقيق هو الاستقالة والانزواء، أي تعطيل الَّنشاط، وواصل بن عطاء خرج أو اعتزل شيخه ولم يعتزل قضيته فقد ظل امتداداً لفكره وفقهه، مؤسساً لمذهب يُعد من أخطر المذاهب الفكرية والسياسية في تاريخ الإسلام فــيما يخص مسألة التوحيد ومسألة العدل؛ وما تفرع عنهما من مقالات، ثم مسألة الإمامة، وما تبع هذه المسائل من فلسفة وفكر سياسي.
من هذا يأتي اسم المعتزلة تحصيل حاصل إشارة من الخصوم، مثله مثل اسم الخوارج، فإذا ما عاينا التسميتين نجدهما متقاربتين في المعنى والهدف، وهو الخروج وعدم الانسجام مع السائد من فكر أو سياسة، وبشأن التسمية أيضاَ هناك مسألة جديرة بالذكر، نبه إليها صاحب «الحُور العين» وهي إنما عرفوا بالمعتزلة لقولهم بالمنزلة بين المنزلتين في أمر أهل الكبائر([8]).
كانت ثمار نشاط هذا المذهب واضحة، في دعم التطور العلمي والفكري أيام خلافة عبد الله المأمون (ت. 833 ميلادية 218هـ)؛ وذلك عندما ساد الفكر العقلي كفكر شبه رسمي للدولة، وتقدم نشاطهم في المناظرات والمجالس على غيرهم من الفِرق الأخرى، وكان يجري تحت إشراف الخليفة المأمون نفسه، ووقوفهم ضد التيار الجبري النَّصي، ويوم كان يمثله الإمام أحمد بن حنبل (ت.855 ميلادية 241هـ) الذي كان ذا حظوة ومنزلة لدى جعفر المتوكل (ت.861 ميلادية 247هـ) في ما بعد، مع حذر الإمام مِن السلطة، واستخدام الخليفة لأهل الحديث في مقارعة المعتزلة .
إنَّ الاعتزال كمصطلح لمذهب له منهجه الفكري، الساعي إلى تحرير الإنسان من قيود القدر؛ لا يمت بصلة لجوهر معنى التَّسمية، وبقياسات المنطق يظهر التَّناقض بين الاسم والمسمى، كما هو بين اللَّفظ والمعنى، وما هو جدير بالإشارة إنَّ العديد من تسميات المذاهب والفرق الإسلامية؛ تدل على الأفراد لا على الأفكار والمبادئ، فيصبح المذهب أو الفرقة مجموعة أفراد لا منظومة أفكار ومبادئ اجتمع حولها الأفراد؛ حيث العلاقة بينهم عند نشوء الفرق أو المذاهب. من هذا المنطلق سعينا إلى تجنب استخدام عبارة أصحاب أو أتباع فلان، كما يقال الهذيلية أصحاب الهذيل العلاف، والخياطية أصحاب الخيـاط وهكـذا دوالـيك.
على الرغــم من الخطـــأ التاريخـــي في الاسم والمصطلح، وإمكانية التصرف بمدلول كلمة الاعتزال من قبل المناوئين لهذا المذهب، كاعتـزال الديـن أوالحـقِّ، أو يفهم بأنه الاستقالة والانزواء، ففي هذه اللحظة لا يمكننا تجاوز المتعارف عليه، لأنَّ الأمر مرتبط بعملية شاملة لإعادة كتابة التاريخ الذي يهم بالدَّعوة لها بين الحين والآخر عدد من الباحثين والمؤرخين، لكنّ مِن دون جدى، فالتَّاريخ كُتب ورسخ في الذَّاكرة، ولا أراها ناجحة في هذا الأمر بالذات. عندما يختص الأمر في المعتزلـة، فالتـاريخ يحفــظ لهذا المذهب تسميات أُخر ذات صلة بدعوتهم ومقالاتهم كالموحدة والعدلية وغيرها، كمجال لوضع التسمية التي تعبرعن المشترك بين فروع المذهب المختلفة.
لم يعتزل المعتزلةُ الناسَ والسياسةَ، بل اشتركوا في الثورات، وكذلك لم يعتزلوا الفكر والدين، لكنهم اعتزلوا فكرةً ممثلة بالحسن البصري، من هذا المنطلق ظلت تسمية المعتزلة تلاحقهم مثلما أنهم رفضوا القدر، ومع ذلك سموا بالقدرية، والأجدر أنهم «نفاة القدر». يعلل المستشرق الإيطالي كرلو نللينو(ت 1939) هذه التسمية «لفقر المعجم العقيدي عند المسلمين في تلك الآونة المبكرة»([9]).
بطبيعة الحال، كانت التسمية بالقدرية مناسبة لوضع الأحاديث النَّبوية في الطعن على المعتزلة؛ مثل: «القدرية مجوس هذه الأمة»، و«القدرية خُصماء الله في القدر»([10]). معلوم أن الاسم يناسب مقالة الجبرية لا القدرية، بينما المعتزلة كانوا من نفاة القدر لا إثباته، ولو كان إطلاق الاسم صحيحاً ومطابقاً للمسمى لما ظهرت مثل تلك الأحاديث، وعلى العموم استغلت تلك التسمية، مِن البعض، للتشويه والإساءة.
إلا أن السُّؤال الذي يطرح نفسه: هل بالإمكان أن يعرف هذا المذهب بغير هذا الاسم، الذي تمتد جذوره إلى عمق اثني عشر قرناً ويزيد، أم يبقى الأمر خطأ شائعاً خيراً من صحيح ضائع؟ وحسماً للأمر نرى المعتزلة قد رضوا بهذا الاسم وأقروه بعد تأويله([11]) . يحسم الوزير محمد بن يزداد الأصبهاني في كتاب «المصابيح»، الذي لم نعثر عليه، الأمر في قبول التَّسمية قائلاً: «إنَّ كلَّ أرباب المذاهب، نفوا عن أنفسهم الألقاب، إلا المعتزلة، فإنهم تبجحوا به، وجعلوا ذلك علماً لمَن يتمسك بالعدل والتَّوحيد، واحتُج في ذلك إنه تعالى ما ذكره إلا في الاعتزال الشَّر… وذكر أن المعتزلة هم المقتصدة، فاعتزلت الافراط والتَّقصير، وسلكت طريق الأدلة»([12]).
في الختام أقدم جزيل شكري للباحث والأكاديمي السُّوري طيب تزيني على ملاحظاته المجزية عند الشروع في التأليف، وإلى الأديب العراقي عارف علوان على عونه الجزيل في نشر الكتاب بطبعته الأولى(1993).
كُتبت هذه المقدمة بنسختها الأولى 1990.
مقدمة
الطبعة الثَّانية
في زمن التَّدهور الفكري والروحي لا بدّ للإنسان من إلقاء نظرة إلى ما وراء زمنه باتجاه الماضي؛ سيجد حتماً ما يسره، وما يدفعه إلى الأمل والتفاؤل في الأرض، أرض العراق مثلاً حيث ظهر الاعتزال. في أحوال الحاضر غير المسرة. يبرز المعتزلة كفِرقة فكرية جالت وصالت على أرض بغداد والبصرة، وكانت البداية مناظرة في الموقف من أصحاب الذنوب، أو الكبائر، بالبصرة، ثم تدرج الجدل أو الحوار إلى الكون بأسره، إلى مسألة نفي الصفات عن الذات الإلهية، إلى مسألة خلق القرآن، وإلى نفي القدر، ومسؤولية الناس، حكاماً ومحكومين، عن مفاسدهم ومظالمهم.
الكتاب الذي بين يدي القارئ كُتب قبل حوالى عشرين عاماً (1990-1991)، كأطروحة أكاديمية لنيل درجة الدكتوراه مِن جامعة صوفيا- قسم الفلسفة، وكان الدفاع عنها في 13 حزيران(يونيو) 1991، وظل منتظراً حتى صدرت طبعته الأولى (1994) بالعربية، وبين ذلك الزَّمن والزَّمن الذي نحن فيه (2007) تجددت أحداث، ونجحت انقلابات في الفكر والسياسة، وبالتَّالي اهتزت قناعات وأعيد النَّظر بالمواقف والآراء.
بطبيعة الحال، كلما انتهى المرء من قراءة كتاب زاد افتقاره لكتاب آخر، فإن طالب المعرفة مثل الشارب من ماء البحر يزداد ظمأً على ظمأٍ. وأنا أُراجع الكتاب، لإعداد طبعته الثَّانية عن دار «المدى» (2008) وجدت الهوة بين ما كنت كتبت وفي ما أنا عليه الآن. فقد صدرت لي بعده جملة من الكتب قادني البحث فيها إلى تصحيح رأي وتصويب رواية وتعديل موقف، لهذا ألحقت الكتاب بكتاب «معتزلة البصرة وبغداد» ( 1997و1999 و2011 و2012) سدّ الكثير مما نقص فيه، مثل التعرض لحياة وتراجم شيوخ المعتزلة وملابسات مقالاتهم، وما كانوا عليه مع السُّلطة أو بينهم البين ومقالاتهم جميعاً بالتفصيل.
وأنا أقرأ الكتاب «مذهب المعتزلة من الكلام إلى الفلسفة» مرة أخرى، لإعداده لهذه الطبعة الجديدة، وجدت من الأسلم، ومن الأمانة أن أتركه على ما هو عليه قدر الإمكان، مع التغيير في عدد من النَّواحي، لغوية أو ما يخص المصادر، ففي وقتها كنت منسجماً مع ما جاء فيه من وصف المعتزلة بالثَّوريين الخُلص الطَّاهرين، والمناضلين الطَّبقيين، وأنهم ناشدو العدالة بأسسها «الليبرالية»، مثلما حلمنا بها لزماننا لا لزمانهم.
كنت في وقتها أنحى منحى المستشرق الروسي، الفلسطيني الأصل، بندلي جوزي (ت. 1946) وكتابه «الحركات الفكرية في الإسلام» في اعتباره للقرامطة حزباً اشتراكياً أو شيوعياً، وأنهم نهجوا النهج الماركسي اللينيني قبل ظهوره بأكثر من ألف عام.
كنت في الكتاب منساقاً إلى مفاهيم العصر، والتأسيس الفكري الثوري مثلما نراه، الذي لا أتحرج من ذكر فضله في تملكي الجرأة على الدُّخول إلى عالم البحث، في هذا المضمار، وتجاوز ما نشأنا عليه من خضوع للمحذورات، وهو الفكر نفسه الذي جرأنا أيضاً على تجاوزه لصالح البحث والتعقل في ما نقرأ ونكتب.
بهذا وجدت نفسي قادراً على النظر لبندلي جوزي أو العلامة الموسوعي حسين مروة (اغتيل 1987) أنهما أبناء زمانيهما، وما عاد التقسيم الطبقي التاريخي المادي ولا المسألة الأساسية في الفلسفة خارج دائرة النقد والمراجعة.
بل توصلت إلى اتخاذ منهج اللامنهج الفكري في البحث والدراسة، لكني وجدت نفسي مرهوناً إلى المعلومة أو الرواية أو الواقعة التاريخية، فهي الوحيدة التي تشخص لي المسار البحثي، الرواية التي تقول لك: إن القرامطة كانوا أصحاب ثورة وتحقيق عدالة في جانب وقتلة وأشداء واستبداديين وشقاة في جوانب، وكذلك الرواية تقول لك: إن المعتزلة كانوا دعاة عدل وتحرير من هيمنة النُّصوص، وفي جانب آخر كانوا يتجاوزون على حرية الفكر والرأي، ويعضدون الاستبداد.
لكن، كلُّ ما توافر من الرّوايات، حول المعتزلة، يجعلنا نثق بأنها الفِرقة التي نحتاج إلى بعثها من جديد، ذلك للموازنة في الاتكاء على الماضي، إذا كان لا بد من النَّاحية النَّفسية والثَّقافية من مناجاة ذلك الماضي واستحضاره؛ كي يقابل الجانب الآخر من الماضي، والذي يعتاش عليه طائفيون وطُلاب سلطة مِن الجماعات الدِّينية السِّياسية.
أخذ الاتكاء على الماضي نهجاً لاستلاب العقل، وإشاعة القتل، وتدمير الإنسان، وهذا ما تفعله الأصولية بشراهة على مختلف طوائفها. لذا أجد في مقالات المعتزلة فيضاً من التطور الفكري والتقدم العقلي. لا أتردد في القول: إن البصرة، التي هي حالياً، شبيهة بمدينة من مدن أفريقيا في مجاهل تشاد أو الصُّومال، لو استمرت فيها مناظرات المعتزلة وأفكارهم لتقدمت تلك المدينة إلى إنتاج أرقى أدوات المعرفة التقنية الصّناعية اليوم، ولكان الكمبيوتر يظهر بها قبل ظهوره في طوكيو، أو أي مكان آخر من أمكنة العالم الصَّناعي المتمدن.
أنقل هنا نصاً كتبته في فصل من فصول كتاب «المباح واللامباح» (بوسطن: دار مهجر 2005)، وفي «إسلام بلا مذاهب وطروس أُخر»(بيروت- دبي: دار مدارك 2011»، أشار إلى تقدم المعتزلة في الجدل عن جاذبية الأرض، وشكلها أو هيئتها، عندما استخدموا التفاحة في أمثلتهم، والتي ارتبطت في ما بعد بالإنكليزي إسحق نيوتن (ت. 1727).
هنا لا ألوي أعناق الحقائق وأقول: إن الأخير خطفها من معتزلتنا، على أن تاريخنا، حسب دعوى الكثيرين، محتكر لإنتاج البدايات مِن فكر وعلم، بقدر ما أن الإشارة تجدر إلى قدرة ماضي منطقتنا على الإبداع وقدرة حاضرها على الخراب. لقد صان الغربيون تفاحة نيوتن ليخرجوا، بدلالة ما توصل صاحبهم إلى اكتشاف، مِن عالم الأرض إلى عالم الفضاء، وأكلنا نحن تفاحة معتزلتنا، مثلنا مثل ما نقل عن أكلة الآلهة مِن قِبل عُبادها.
عرف المعتزلة الجاذبية أو السُّقوط بالهُويّ، فينقل عن شيخ المعتزلة البغداديين أبي القاسم الكعبي أو البلخي (ت. 319 هـ) أنه قال في «عيون المسائل»، الذي لم يصل إلينا: «لو أن رجلاً قبض على تفاحة (لا حظ كلمة التُّفاحة) في الهواء بإصبعه، ثم باعد إصبعه عنها تهوي إلى الأرض»([13]).
كان سبب سقوطها، حسب البلخي، إبعاد المؤثر عنها أي الإصبع الماسك لها، فهو مولد ذهابها إلى الأرض. وحسب ما تقدم لا تأثير لجاذبية الأرض على الأجسام. خلافاً للرأي السَّابق ذهب البصريون، منهم أبو هاشم الجبائي (ت. 323هـ) إلى فكرة السقوط بفعل ثقل الجسم، فقالوا: «إن المولد للهويّ ما فيه من الثقل، يدل على ذلك أن الهويّ يقع بحسب ثقله، حتى إذا كانت ريشة، فارق في حالها الهويّ حال التفاحة، وإن كان رفع اليد لا يختلف، على أن تنحيّه عنها، ليس لها بالتوليد في جهة الاختصاص، ما ليس بغيرها»([14]).
حسب البصريين تسكن التفاحة في الجو، بعد انفكاكها عن الماسك أولاً، ثم يتولد فعل سقوطها ثانياً. لم يشر النّيسابوري، صاحب كتاب مسائل الخلاف، وهو من المعتزلة أيضاً، إلى مكان مناظرات المتكلمين حول سقوط الأجسام، هل كان تحت ظل شجرة التفاح مثلاً أم مجرد تخيل؟ أما نيوتن فورد أنه شاهد سقوط التّفاحة بفعل ثقلها وهو تحت ظل شجرتها، لذا عرفت بتفاحة نيوتن، التي قادته إلى اكتشاف قوانين الجاذبية(1687).
كانت هناك إرهاصات في آراء المتكلمين نحو اكتشاف قوانين الجذب. فإن ألغى البغداديون فكرة الهويّ، أكدها البصريون بالقول: «قد عرفنا أن هويّ الجسم الثقيل إنما يقف على الثقل، فمتى كان أثقل كان هويّه أسرع، ومتى كان الثقل أقل كان الهويّ أبطأ، فيجب أن يكون الهويّ حادثاً عن الثقل، لأنه بحسبه يحصل»([15]).
أحسب أن المعتزلة، في تقدم، قد تجاوزوا الإرهاص نحو اكتشاف الجاذبية إلى كشفها تماماً بقولهم: «إن الحركة لو ولدت حركة أخرى يوجب أن يذهب الجسم إذا رميناه صعداً أبداً، كذلك وأن لا يتراجع»([16]).
إن فحوى القول الآنف يشير إلى أن حركة الإصبع، التي دفعت التّفاحة إلى السُّقوط، لولا عامل الثّقل لاندفع بها إلى الأعلى، وليس بالضرورة أن يندفع إلى الأسفل. لكنَّ منهم مَنْ فسر حدوث السقوط بإزاحة الهواء وضغطه على الجسم من الأعلى.
أشار البصريون، في مكان آخر، إلى إمكانية وقوف الجسم في الجو، في حال التأثير على ثقله، فيمنع من السقوط لبرهة من الزمن. ورد ذلك بقول أبي هاشم الجبائي: «إن الجسم الذي فيه ثقل، إذا فعل فيه اعتمادات مجتلبة فإن بعضها يكافي اللازم، ولا يولد ويتولد عن الباقي مثله ويبطل الأول، ثم الذي يولد منه قدرٌ من اللازم، فيقف في الجو في ذلك الوقت، ثم يتراجع بما فيه من ثقل»([17]).
حين نفى البغداديون مقالة سكون الجسم في الجو ردَّ البصريون ذلك إلى المشيئة الإلهية؛ فقالوا: «إن يفعل الله تعالى فيه أكثر مما يتولد من الهويّ عن ثقله، فيبقى ساكناً في الجو»([18]). وقالوا أيضاً: «لو قدرنا أن الله تعالى أفنى الجسم المماس لهذه التفاحة لكانت التفاحة تهوي، فيجب أن يقول: إن الفناء يؤكد الهوي (السقوط بفعل الجذب) ([19]).
بحث المعتزلة أيضاً عوارض السقوط، فقالوا: «إن توالي الحركات ممكن في الثقيل والخفيف، ولكنْ إذا رمينا جسماً خفيفاً فإنه لا تكون حركته في السِّرعة كحركته إذا كان ثقيلاً، فلا بد أن يكون ما يعرض في الجو من العوارض يمنع الخفيف من الحركة ما لا يمنع الثقيل، فمتوالي الحركات في الجو في الثقيل أمكن منه في الخفيف»([20]).
ما تقدم من أفكار، وما يجمع معها من مسألة نفي القدر، وآراء متقدمة في الإمامة، وخلق القرآن لإعطاء العقل فرصة التقدم من دون كوابح قدسية النص لجديرة أن تبعث من جديد، وذلك، مثلما سلفت الإشارة، للموازنة مع هذا الاستلاب الجاري، الذي أوصل أطباء يتحولون إلى انتحاريين، ومهندسين يتحولون إلى أئمة للخرافة والشَّعوذة.
تموز(يوليو) 2007
مقدمة
الطَّبعة الثَّــالثة
بعد نفوذ طبعة الكتاب الثَّانية، والصَّادرة عن دار المدى (2008)، هيأتُ الطَّبعة الثَّالثَّة، بإضافات تسد النَّواقص وتصحح الأخطاء التي شابت الطَّبعتين الأولى والثَّانية؛ وليس لي تفسير للإقبال على الكتاب أكثر مِن أهمية وجاذبية موضوعه، وهو «مذهب المعتزلة»، فما زالت مقالات هذه الجماعة، التي وصلتنا مِن الزَّمن الغابر، تثير الجدل، وتجد مَن يتحمس لها، حتى ظهر مَن يفكر بإعادتها كتنظيم «حزبي». اعترض على هذه الفكرة مِن الأساس، على ظن مني أن أي مقالة أو عقيدة أو فكرة ثقافية وحضارية إذا ما تحولت إلى حزب سياسي فهو كفيل بتدميرها، فما أضعف الماركسية كفلسفة اقتصادية واتجاه ثقافي مثل إخفاق الأحزاب السياسية في تقديمها، أو الحفاظ عليها بتجميدها، وقد وصلت بها إلى السُّلطة حتى أوقفتها عن التطور أو التجديد، أي تحولت إلى دين يدان به.
كذلك أن الدِّين نفسه قد عصفت به السياسة والحزبية، عندما تحول إلى جماعات ترفعه شعاراً ، ومِن الدين تأتي محنة المذهب مع الحزبية والسياسة. لكلِّ هذا أقول: لو أُبعدت النَّظريات الفكرية عن تنظيم الجماعات سياسياً، فإذا كان طموح الأحزاب السياسية هي السلطة فمعنى هذا ستفرض تلك الفكرة عن بسوط السُّلطة، وتسقط بسقوطها، وستنتهي عند هذا الأفق. فحتى اليوم مازال خصوم المعتزلة يشهرون بما فعله الخليفة عبد الله المأمون (ت 831 ميلادية 218 هـ)، عندما فرض مقالة المعتزلة في خلق القرآن فرضاً.
بدا لي أن اتخاذ المأمون للاعتزال لم يكن بدافع الاقتناع بها بشكل مجرد، قصدي بلا تأثير سياسي، معلوم أن والده هارون الرَّشيد(ت. 809 ميلادية 198 هـ)، بعد نكبة البرامكة (803 ميلادية 187 هـ)، قد شتت شمل المتكلمين، وأبرزهم المعتزلة، وصعدت حظوط أهل الحديث، وهم الطرف الضد منهم، وبعد الحرب مع أخيه الأمين (قُتل. 813 ميلادية 198 هـ)، وما حصل ببغداد مِن فوضى وكثرة المطاوعة (جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، عاد إلى بغداد بعد أن نقل ولاية العهد إلى شخصية علوية، وحاول التخلص مِن الإرث العباسي والأموي، في قضية الخلافة، مع وجود المعتزلة إلى جانبه عندما كان بخراسان والياً، لذا اتخذ الاعتزال كعقيدة وثقافة للدولة، وأشهر ذلك بإعلان مسألة خلق القرآن. بمعنى هناك سبب سياسي وراء هذا الموقف.
في هذه الطبعة، وإن لم نتوقف عند المأمون واتخاذه الاعتزال، إلا أننا وجدنا السبب أو الدافع الذي أخرج جعفر المتوكل (قُتل 861 ميلادية 247 هـ) عن مسار عمه ووالده وأخيه ليقدم نفسه نصيراً لأهل الحديث وعدواً للاعتزال، وبقية المذاهب الفكرية منها أو الدِّينية، فعلى ما يبدو لم يكن عقائدياً بقدر ما كان غضباً شخصياً تحول إلى موقف سياسي وفكري، فقد وجدنا أحد رموز المعتزلة، وهو القاضي عبد الجبار الهمداني (ت 1025 ميلادية 415 هـ) يشير إلى سبب هذا التّحول «لما بينه وبين أخيه الواثق مِن العداوة»([21])، وبعد الاطلاع على حياة المتوكل في ظل خلافة أخيه تجده كان مقصياً ومهاناً، ويتوسط الوزراء والوجهاء بطلب رضاء أخيه عنه، وبعد الوصول إلى الخلافة، ليس عن طريق أخيه بل قدمه أهل الحل والعقد حينها، قد بطش بكلِّ الشخصيات التي كان لها دور في خلافة أخيه، ويأتي في مقدمتهم وجهاء الاعتزال.
القصد مِن هذا، لا نحمل الحوادث أكثر مما يلزم، ونبني للمتوكل مجداً دينياً لأنه اضطهد المعتزلة وجار على أهل الذمة والعلويين معاً. إن المطلع على تفاصيل حياة المتوكل، عبر سيرته أو ترجمته الشخصية، سيجد في الأمر غير ما قُدم به مِن أنه ثأر للدين ونصر أهل الحديث ديانة لا سياسة أو غير ذلك، فطبع الرجل العام كان مخالفاً تماماً لأهل الحديث، فكان مِن أكثر الخلفاء ميلاً للهو والطرب والشَّراب وإظهار الترف ببناء القصور واتخاذ الجواري. هنا نقف أمام نازعة شخصية قد قلبت مسار الدَّولة، وتأتي نازعة أخرى تعيدها وهكذا. هذا مما أضفناه في طبعة الكتاب الثَّالثة.
إذا كان الماضي بتشدده الديني وتعصبه، أو مَن نشط لإحياء الدِّين النَّقي، مثلما يفعل اليوم الأصوليون، جاذباً للعقول والأفئدة، فإن الجانب الآخر من الماضي المتمثل بقوى أهل الرأي ومقدمي العقل على النَّص مازال جاذباً، فرايتا الماضي الغابر مرفوعتان متقابلتان، لهذا لاتبدو الكتابة عن المعتزلة، وإعادة إنتاج مقالاتهم ترفاً فكرياً أو ثقافياً، بقدر ما يدخل في صميم المواجهة.
ختاماً، شمل الكتاب تأسيس المعتزلة والمقدمات الاجتماعية والسياسية والفكرية ونظرياتهم في الوجود والحياة، أما حيوات أصحابها وما نقص في هذا الكتاب فقد تم سده في كتاب «معتزلة البصرة وبغداد»، وإذا لم أتبسط كثيراً في إحدى أهم مقالاتهم «خلق القرآن» سُد النَّقص في كتاب «جدل التَّنزيل ومسألة خلق القرآن»، والكتب الثَّلاثة صدرت بطبعاتها الجديدات عن الدَّار نفسها «مدارك».
شباط (فبراير) 2015
هذا، وأنا أقدم الطّبعة الرّابعة مِن الكتاب(مركز المسبار للدراسات والبحوث 2024)، لا يسعني إلا القول: ليس عذراً للكاتب عن النَّقص، لكنه الواقع، فمهما ومهما حرص المؤلف على تقديم الصّواب لا يجد نفسه إلا عاجزاً. قال الأديب والكاتب إبراهيم بن العباس الصُّوليّ (تـ: 243هـ): «المتصفح للكتاب أبصرُ بمواقع الخلل فيه مِن منشئه»([22]). ورويت بما لا يختلف: «والمتصفح للكتاب أبصرُ بمواضع الخلل مِن مبتدئ تأليفه»([23]). كذلك أستعير قلق إسماعيل بن يحيى المُزنيّ صاحب الإمام الشَّافعي (تـ:ـ: 364هـ)، وقوله: «لو عُورض كتابٌ سبعين مرة لوجد فيه خطأ، أبى الله أن يكون كتاب صحيحاً غير كتابه»([24]).
آذار (مارس) 2024
[1] الأشعري، مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين، ص 124.
[2] البغدادي، الفرق بين الفرق، ص 99.
[3] انظر: أمل مبروك عبد الحليم، العدل الإلهيّ بين ليبنتز والمعتزلة، مجلة التفاهم العُمانيّة(المجلد 13 العدد 47 ص 129- 160)، سلطنة عُمان- وزارة الأوقاف والشُّؤون الدِّينيَّة 2015.
[4] أستاذ الفلسفة ورئيس قسم الفلسفة في جامعة بغداد، توفى 2013.
[5] الآلوسي، حوار بين الفلاسفة والمتكلمين، ص 10.
[6] انظر: مروة، ولدت شيخاً وأموت طفلاً، سيرة ذاتية حاوره عباس بيضون، ص 124-125.
[7] الخياط، كتاب الانتصار والرَّد على ابن الرَّاوندي الملحد، ص 103.
[8] الحميري، الحُور العين، ص 258.
[9] المحاسبي، العقل وفهم القرآن، مقدمة المحقق حسين القوتلي، ص 13 عن كتاب بحوث في المعتزلة 173- 210.
[10] الشَّهرستاني، الملل والنحل 1 ص 43.
[11] انظر: البلخي، فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة، ص 115.
[12] القاضي عبد الجبار، فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة، ص 165.
[13] النيسابوري، مسائل في الخلاف، ص207.
[14] المصدر نفسه.
[15] المصدر نفسه، ص205.
[16] المصدر نفسه.
[17] المصدر نفسه، ص206.
[18] المصدر نفسه، ص195.
[19] المصدر نفسه، ص208.
[20] المصدر نفسه، ص200.
[21] القاضي عبد الجبار، فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة، ص 227.
[22] الثّعالبيّ، الإعجاز والإيجاز، ص 113.
[23] الحَمويّ، إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب(معجم الأدباء) 1 ص 11.
[24] البغداديّ، موضح أوهام الجمع والتّفريق 1 ص 14.