تقديم
يتناول مركز المسبار للدراسات والبحوث في كتابه «مراجعات الإسلامويين: البُنيَة والتحولات وأسباب الفشل» (الكتاب الحادي والعشرون بعد المئتين، مايو (أيار) 2025) المراجعات التي قام بها طيف من الإسلامويين في جماعات مصريّة وفلسطينيّة وتونسيّة ومغربيّة، يتقصّاها منذ ثمانينيات القرن المنصرم حتى الوقت الراهن، قارئًا منطلقاتها الفكرية، وأسسها التنظيمية، وخلفياتها السياسية، ومدى جديّتها المبدئية؛ فيعالج ثمرتها بنهج نقدي، آخذًا بالاعتبار المناورات الأيديولوجية الحركيّة، واتساع براغماتية التحورات داخل الحركات الإسلاموية، في استجابتها للظروف؛ وإدارتها للأشواق والطموحات. وتتبدى للقارئ حصيلةٌ غير مطمئنة في المجمل، تشي بمراجعاتٍ لا تصمد أمام اختبار الواقع، بعجزها عن فك الارتباط بالعنف؛ فمع الفوران الأول، ينبت جذر التطرف الفكري في قلبها من جديد، وينسف ظرفيتها المصلحيّة. فتصبح راهنيتها مرتبطةً بقدمٍ واحدة؛ ما يؤدي بها إلى العطب، والفشل، إلا في حالاتٍ فرديّة نادرة.
ظلّت الهالة الإيجابية التي تحيط بكلمة مراجعات، والتي تقرأ مرادفةً لكلمة توبة وأوبة وعودة وتصالح وتطور، مضللةً؛ يقرؤها المتشائمون على أنها مراوغة ومناورة. وقد أثير حولها حوار كبير قبل خمسة عشر عامًا للتفريق بين المراجعة والتراجع، بيد أنّ المقصود هو تحولات؛ ورجوع من قاعدة فكرية إلى أخرى، أو تقدم؛ فبعض المراجعات أدت إلى مواقف أكثر تشددًا، والأخرى، كانت مؤقتة.
فاتحة دراسات الكتاب قدمها الباحث العراقي حسام كصّاي، في قراءة تحليلية لمرحلة سجن سيد قطب (1906-1966) وتداعياتها الخطرة؛ وصولاً إلى سجن البغدادي. تُركّز الدراسة على «تنظيم السجون» بقيادة محمد الطوخي ومحمد هراس، وترصد تأثير سيد قطب فيه، نظريًا وهيكليًا. لقد ضمّ التنظيم العشرات من الذين أُفرج عنهم في 1964، بعد إنهاء محكوميتهم، وأدت «مراجعاتهم»؛ إلى تطوير الفقه الحركي، وإنتاج الفكر الجهادوي، وتشريع منظمات الجهاز السري، وتظهير قياداته كعبدالفتاح إسماعيل، ومصطفى مشهور وعلي عشماوي.
أسس قطب النظرية السياسية، التي لا تزال تتلبس قادة التنظيم الإخواني وعناصره. وتمثل محطةً محورية لديهم سواء في التراجع عنها أو الرجوع إليها، في مسالك يسيرة الدخول والخروج حسب الظرف السياسي.
يبرز الباحث؛ تأثير مؤلفات سيد قطب، التي أذكت حالة من العزلة الفكرية العنيفة فطبعت أجيالاً من مناصري الحركات الإسلاموية بفكرة العزلة الشعورية؛ ومهّدت فعليًّا لبروزٍ جديد للنظام السّري؛ بقيادة تنظيم «نبيل البرعي» عام 1964، انضم إليه كل من: إسماعيل الطنطاوي، محمد عبدالعزيز الشرقاوي، وأيمن الظواهري؛ وامتدت الدراسة إلى إرهابيي تنظيم القاعدة في السجون الأجنبية مثل: غوانتانامو، وبوكا. وحسب الباحث لم تؤدِ تجربة تنظيم السجون إلى تفاقم العزلة الشعورية فحسب، بل ساهمت في تطوير العدة الأيديولوجية الإسلاموية، لتشكل -غالبًا- طبقةً أشد تطرفًا من تنظيرات قادة الجماعة في الخارج، تركّزت منتجاتها على مسائل مثل: «التكفير» و«الجاهلية» و«الأممية» و«الهجرة» و«الجهاد» و«الطاغوت» و«الخلافة»، والانقلاب العسكري. يشير بعض الباحثين إلى أنّ قطب أنشأ العنف في الجماعة؛ وواقع الحال أنّه، أخرج إلى العلن، المكبوت في أضابير النشرة السرية التي يتعرّض لها فرد التنظيم السري، ولم يدخل على جماعة الإخوان، شيء لم يكن فيها.
وإذا كان «تنظيم السجون» في مصر قد تَشكّل تحت تأثير قطب وأفكاره المتطرفة، بعدما أصبح حلقة الوصل الأولى للخلايا الأخرى؛ فإن الحديث عن المراجعات التي قام بها عدد من رموز الحركة الإسلاموية المصرية خارج السجن، لا يصمد كثيرًا أمام القراءة النقدية والحقائق والوقائع، التي تكشف عن استعصاء هذه المراجعات على التطبيق، وصعوبة فكّ ارتباطها بالعنف والإرهاب.
قسّم الباحث والأكاديمي المصري عمرو عبدالمنعم، المراجعات والمبادرات الحوارية، إلى مراحل وتصنيفات ذاتية وجماعية بل وجيليّة، بدأها بالنقاشات الداخلية حول القاعدة الصلبة للتنظيم العسكري؛ وجدل سرية التنظيم وعلنية الدعوة؛ وتصنيفات العدو القريب والبعيد التي أدّت إلى استهداف رجال الدين التقليديين، بوصفهم أعوانًا للحاكم. ولتدعيم فكرة المراجعات الذاتية، أدرج الباحث تجربة حسن شافعي، في خمسينيات القرن المنصرم التي قادت إلى مبادرة الاختلاف مع الجماعة في الهدف والوسيلة، إذ خلصت تجربته إلى أنّ [إقامة] الحكم ليست هدفًا بل المطلوب استئناف الحضارة، وأنّ العمل السري للجماعات ليس وسيلة مرتضاة. أما داخل الجماعة الإسلامية حسب الباحث؟ فالتراجع عن تكفير من لم يكفر الرئيس المصري جمال عبدالناصر كان مرحلةً للمراجعات! خلقت الجماعة من قاعدة قطبية؛ تتراجع عنها كلما اقتربت من صفقة سياسية، وتعود إليها عند الحشد والغضب وغلبه شهوة التنوير.
تناولت الدراسة مبادرة الحوار مع أقطاب تنظيم الفنية العسكرية التي أجراها «المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية» في مصر، ثم مبادرة تأسيس إدارة المعالجة الفكرية والإعلامية في الأجهزة النظامية المصرية بمبادرة من اللواء حسن أبو باشا (ت 2005)، وقد تمخض عنها برنامج «ندوة للرأي» في 1981 الذي استمر لعقد ونصف، فأخرج الأفكار إلى العلن، وصولاً إلى المناظرات. فتهيأت البيئة لمراجعات الجماعة عام 1997، وعلى أدبياتها اِنْبَنَت المراجعات الحديثة في الألفية الثالثة، وقد باءت كلها بالفشل.
استكمل الباحث المصري إسلام عبدالعزيز قراءة المراجعات مطبقًا إياها على مبادرات «شباب الإخوان» في السجون (2021) ووثيقة أولويات جماعة الإخوان السياسية (2022)، والوثيقة السياسية لجبهة لندن (2022) ومبادرة القيادي الإخواني حلمي الجزار الأولى (2023) والثانية (2024) ومبادرة ملتقى رشد (2024). وهي تكرر المسائل الأولية ذاتها، من حيث موقع السياسة في المشروع الإخواني، وأولوية الحكم وتحديد السبيل إليه.
في مضمار المراجعات الإسلاموية الخاصة أو الذاتية، اختار الكتاب نموذجين: تجربة القيادي السابق في الجماعة الإسلامية ناجح إبراهيم، قُدِّم على أنه «الأب الروحي» الحقيقي للجماعة؛ وتجربة القيادي السابق في ما يعرف بتنظيم الجهاد كمال حبيب. ركّز الباحث المصري هاني ياسين على النموذج الأول ودوره في المراجعات ومبادرة الجماعة الإسلامية في وقف العنف عام 1997، آخذًا بالاعتبار ما فرضته التبدلات السياسية والإقليمية على الجماعة وقادتها، من إعادة تموضع وإعادة الهيكلة خصوصًا بعد أحداث عام 2011. عرض ياسين للتحولات التي مرّ بها ناجح إبراهيم قبل مرحلة انفصاله عن الجماعة الإسلامية وبعدها، ملاحظًا انفتاحه على المجتمع بكل مؤسساته. أما الباحث المصري علاء سعد حميده، فدرس النموذج الثاني مقدمًا قراءة في مراجعات كمال حبيب، عارضًا أطروحاته الفكرية المؤسسة لتحوله -كما يزعم- مفصلاً موقفه من التنظيمات الإسلاموية والعنف المسلح، ورأيه في نظرية الاجتهاد للأمة، ونظرية الاستطاعة وعبثية إراقة الدماء من خلال عسكرة الشباب بحجة «الجهادوية».
وتطرّق الباحث محمود عبده سالم إلى تحولات ومراجعات حركة حماس، وقد بنى دراسته على محددين: علاقة الحركة بجماعة الإخوان المسلمين في مصر؛ واستجابتها للتطورات التي شهدتها القضية الفلسطينية، منذ أواخر ثمانينيات القرن العشرين، ثم ما تلاها من مسار تفاوض وتسوية قادته منظمة التحرير الفلسطينية، مرورًا بفوز حماس بالانتخابات التشريعية عام 2006، وسيطرتها الانقلابية على قطاع غزة منذ 2007، وإطلاقها «وثيقة المبادئ والسياسات العامة» في مايو (أيار) 2017، والتداعيات الكارثية لـ«عملية 7 أكتوبر» وما جرته من دمار جيواستراتيجي. ويطرح الباحث تساؤلات نقدية عدة حول ما إذا كانت تلك التحولات في نهج حماس وخطابها تُعبّر عن انعطافة أيديولوجية حقيقية، أم إنها لا تعدو كونها تكيفات براغماتية أملتها موازين القوى وتقلبات الصراع.
وإذا كانت تجربة المراجعات الفكرية داخل الحركة الإسلاموية المصرية يشوبها الكثير من التضليل الإعلامي والفكري، وأثبتت فشلها وعدم قدرتها على فكّ الارتباط بالعنف والتكفير والخروج على الدولة والمجتمع، وتهديد مؤسسات الإسلام التقليدي؛ فإن تجربة الحركة الإسلاموية التونسية التي تناولها الباحث التونسي أحمد نظيف، ليست أقل إرباكًا وغموضًا وبراغماتية حركية؛ فبزعم مقولة «اتجاهات ما بعد الإسلام السياسي»، حلَّل استراتيجية وأهداف «حزب العمل والإنجاز»، المنشق عن حركة النهضة، معرفًا بزعيمه عبداللطيف المكي، بوصفه القيادي الذي عبر من مرحلة إلى مرحلة، متشبثًا بقالب العمل الحزبي، خلافًا لغيره ممن غادروا التجربة الإسلاموية الحزبية نحو الاستقلالية السياسية. سعى الباحث إلى تحليل طبيعة المراجعات، التي قام بها المكي متسائلاً عمّا إذا كان حقًا فكَّ ارتباطه بالجماعة الأم.
أما الباحث المغربي منتصر حمادة فقد بحث في مراجعات الإسلامويين المغاربة، قاصدًا بهم التيار الإخواني والسلفي، فالأول يتفرّع إلى اتجاهين هما: حركة «التوحيد والإصلاح» بحليفها السياسي حزب «العدالة والتنمية»، والثاني غير معترف به رسميًّا، وتمثله جماعة «العدل والإحسان»؛ أما التيار السلفي فيضم: السلفية العلمية، والسلفية الجهادوية. بعدما دَرَس الباحث العديد من تجارب المراجعات لاحظ أنها تبقى نسبية؛ لأنها محكومة بالإكراهات المحلية والإقليمية، أكثر من كونها مراجعات نظرية جادة تهم الرؤى والتصورات المؤسسة للعمل الإسلاموي.
خاتمة دراسات الكتاب قدمتها الباحثة المصرية شيماء عيسى، رصدت فيها قضية المراجعات وفكّ الارتباط بالتطرف، كما عكسه عدد من الروايات والأعمال الدرامية العربية. ومن بين النماذج التي اختارتها ودرستها رواية «المرايا» للروائي الكبير نجيب محفوظ (1911-2006) ورواية «جنود الله» للسوري فواز حداد، ورواية «محاولة للنسيان» للمصري حمدي البطران، ومن بين المسلسلات التلفزيونية المختارة حلّلت الباحثة دور مسلسل «الاختيار» في توعية المجتمع على مخاطر التكفيريين والتطرف والدفاع عن الوطن.
في الختام، يتوجه مركز المسبار للدراسات والبحوث بالشكر للباحثين المشاركين في الكتاب والعاملين على خروجه للنور، ويخصّ بالذكر الزميل عمرو عبدالمنعم، منسق العدد، ونأمل أنْ يسد ثغرة في المكتبة العربية.
رئيس التحرير
عمر البشير الترابي
مايو (أيار) 2025