تقديم
يواصل مركز المسبار للدراسات والبحوث في كتابه «مسارات التسامح في الإسلام والمسيحية» (الكتاب الخمسون بعد المئة، يونيو (حزيران) 2019) تقديم سيرة تاريخية وفكرية حول التسامح، متخذًا من العلاقات المسيحية- الإسلامية مثالاً لدراسة التطورات التاريخية والأطر الدينية والنظرية المرتبطة في هذا المجال الحيوي.
يتسق الكتاب في مقصده مع مبادرة عام التسامح التي أطلقتها دولة الإمارات العربية المتحدة، إيماناً منها بأنّ الحوار الديني الإيجابي بين الأديان، يناسب لتأسيس وعي متصالح مع الآخر، في هذا الزمن الذي تضيق فيه فرص التلاقي، ويتراجع فيه الوعي بقيمة التعددية الدينية.
قدم المدخل التاريخي قراءة نقدية إيجابية للمصادر المتحيّزة، التي ركزت على فهم سياق التأريخ للأديان، فرأت دراسة «المَسِيحيَّة في المصادر الإسلامية» أنّ نمط التدوين يحمل وجهاً لـــ«تاريخ المعاملة أكثر منه تاريخ ديانة»، فرُصدت هذه المصادر التي قدمت التصور التاريخي للعلاقة، بدءاً من القرآن الكريم، مروراً بكتب الخراج والأحكام السلطانية وصولاً إلى معاجم الرجال والتراجم. تختلف طرق التدوين هنا عمّا نجده في كُتب الأموال والحسبة، وكُتب الرُّدود المشتركة حول الأمور العقائدية؛ التي تنافست على تعيين الحقائق الدينية. بينما تناولت كتب الأدب العامة والدَّيارات، فنون العمارة وأخبار الديار، وشعراء المسيحيين، وفيها يظهر التسامح في المجالين الأدبي والعمراني. يلي ذلك المصادر التي أرّخت للأطباء والعلماء المسيحيين بنفسٍ إيجابي. حاولت الدراسة دون تصريح أن تشجع على منهجية جديدة في التأريخ، تقدِّم قراءة جديدة للتعايش، تعيد تدوين التاريخ المشترك بين الديانتين.
تنحاز دراسة “خطابات وسياسات متسامحة في تاريخ الإسلام” للاعتزال والفلسفة والتصوّف في المجال الإسلامي، وتعتبر أنّ الخطاب المتسامح في الدين الإسلامي ينبع من هذه الثلاثية. تسعى دراسة أخرى للإشارة إلى أنّ المدونة التاريخية حملت استثناءات تدل على أن جذور التعايش بين أبناء الأديان التوحيدية قديمة على مستوى الاجتماع، وهذا ما يدفعنا إلى التعامل بحذر مع الروايات والأفكار التي تتحدث عن إقصاء الآخر الديني أو العرقي، الأمر الذي يتيح لنا التفكير بإمكانات تاريخية متاحة لإحياء قيم التسامح كتجارب سابقة، على الرغم من اغتراب المصطلح عن الوعي العربي عموماً.
إن أحد النماذج المعبرة عن رحابة الحضارة الإسلامية نجد تمثلاته في بناء الكنائس في العصرين الأموي والعباسي. وتأكيداً لأهمية الكنيسة في النسيج الاجتماعي والحضاري الإسلامي في زمن الأمويين احترم خلفاء بني أمية العهود والاتفاقات التي كانت بين المسلمين ومسيحيي البلاد المفتوحة، والتي تحفظ حرمة الكنائس ووجودها، ولم يجرؤ أغلبهم على تغيير بعض الأوضاع الموروثة بالرغم من السلطة التي كانت لهم.
تبدو تجربة الحضارة الإسلامية في الأندلس تجربة تاريخية فريدة في مجال العيش والتلاقي بين الأديان، مع تأكيد الاستثناءات فيها. لذا، أوّلى الكتاب أهمية لجانبها الإيجابي الذي تطور إلى مستوى المناظرات العقائدية، التي تعزز التعارف بين المسلمين والمسيحيين، والمتأسسة على معرفة كل منهما بالآخر من حيث: اللغة والثقافة والدين، فقد كانت هذه المناظرات في معظم الأحيان تتم بين القساوسة وفقهاء المسلمين. يرشدنا هذا النوع من الدراسات إلى أن التاريخ لا تؤسسه الصراعات والحروب فحسب، بل يقوم على التاريخ الاجتماعي والثقافي الذي يتطلب منا بذل المزيد من الجهود في سبيل إخراجه من بطون المصادر.
في سبيل دعم المشتركات الدينية بين المسيحية والإسلام، تطرق الكتاب إلى السيد المسيح في دراستين، الأولى: «ميلاد المسيح في الأناجيل وسورة مريم: دراسة مقارنة»، والتي هي شاهد على التقارب الذي يؤثر في فهم النص الديني، فقدمت رواية الأناجيل القانونيّة، وتقاربها مع النصوص القرآنيّة الكريمة، وضمّت أيقونات الميلاد التي برز بعضها في منمنمات إسلاميّة، تحاكي الرواية القرآنية لميلاد «الناصري». أما الدراسة الثانية، تطرقت إلى تمثلات السيد المسيح في التصوف الإسلامي، باعتباره مثالاً للتربية الروحية التي ينادي بها المتصوفة، ومقاماً للإرشاد الذي يتمناه الحواريون والمريدون، وعنواناً للمحبة التي تشفي النفوس الشقية وتهذبها، فتتبعت الدراسة صورة المسيح في التراث الصوفي الإسلامي بدءاً من «الفتوحات المكية» لابن عربي، ومن «منطق الطير» للشاعر المتصوف فريد الدين العطار، و«مثنوي» جلال الدين الرومي.
درس الكتاب المساحات المشتركة والتبادلات الدينية، بين الأقباط والمسيحيين في مصر، على مستوى الرمز والأعياد والتقاليد، وبرهن على حجم التماهي بينهما، مما يحفزنا على تكثيف البحث العلمي في الأنثروبولوجيا الدينية.
في الختام، يتوجه مركز المسبار بالشكر لكل الباحثين المشاركين في الكتاب، ويخص بالذكر الزميلة ريتا فرج التي نسقت العدد، مع زملائها، ونأمل أن ترضيكم ثمرة جهدها وفريق العمل.
هيئة التحرير
يونيو (حزيران)2019