مقـدِّمة
تعرِّيف بالاعتزال
ترك معتزلة البصرة وبغداد بصماتهم الخيّرة، في التّاريخ الفكري والدِّيني الإسلاميين. أقول هذا مع أن الغضب عليهم يؤجّج في الصّدور الكراهية والبغضاء ضدهم؛ فتواريخ الملل والنِّحل مليئة بأوصافهم ونعوتهم، فقيل لهم «المعطلة»([1])، و«أبناء السَّبايا»([2])، و«مخانيث الخوارج»([3]) وغيرها مِن النّعوت. ويصعب بمكان مقارنة ذلك الحضور المتقدّم، قبل قرون من الزَّمن، مع ما يظهر والبشرية تعدّت القرن الثالث للميلاد من انحسار في دور العقل، وتراجع عما كان في تلك القرون الغابرة، من ظهور جماعة مثل المُعْتَزلَة بمقالاتهم وأفكارهم، التي فتحت كوّة من النُّور، مازالت مثيرةً للإعجاب، وتُغري الأجيال بمنطقها العقليّ.
من بين مخلّفات التَّاريخ يبرز الاعتزال، بمقالات شيوخه، محفزًا نشطًا في استلهام دلالات العقل مقابل النَّقل، والتّحرر من أسر رتابة النُّصوص، بسبب أنَّ هذا الفكر يمتلك رؤية حيوية حيال معرفة الوجود، طبيعةً ومجتمعًا، وعلاقتهما بالله، رؤية تُمكّن الإنسان، إلى حدّ ما، مِن حرّية التَّصرف في شأنه الاجتماعي، ومِن التَّأثير الواعي على الطَّبيعة، وتوجيهها لمصلحته، مع أخذ عصرهم وأدواته بنظر الاعتبار، ولسنا مع المبالغة في هذا الدّور.
حاول المُعْتَزلَة، في مختلف مراحلهم الكلامية والفلسفية، تأكيد مسؤولية الإنسان عن أفعاله، وذلك يقود، بمعنى مِن المعاني، إلى تفعيل دور العقل في تنظيم الحياة الاجتماعية، والاستفادة من الطَّبيعة بشكل خلّاق، بعد فهم قوانينها عن طريق تراكم التَّجربة الإنسانية. هذا، ويبرر أحد رموز الاعتزال البَصْريّون القاضي عبدالجبار في «طبقات المُعْتَزلَة» اعتبار العقل الأصل الأول في الإيمان والحياة، حتى قبل القرآن والسُّنَّة النَّبوية، فبه يُميّز الحسن مِن القبيح؛ ولأن به يُعرف أنّ الكتابَ حِجةً، وكذلك السّنّة والإجماع»([4]).
كذلك تبنى المُعْتَزلَة، وقبلهم متكلّمون من تيارات أخرى، مسألة «المفكر قبل ورود السّمع»([5])، والمقصود بورود السّمع هو النَّص المنقول، رواية كان أو وحيًا، وهذه المسألة أو المقولة تأتي عند الجهم ابن صفوان(قتل 128هـ) الجبري: «إيجاب المعارف بالعقل قبل ورود السّمع»([6]).
طرح المُعْتَزلَة، في هذا المجال، أفكارًا بالغة الأهميّة، تجلّت في رؤيتهم الخاصّة لمكانة العقل، في تحديد العلاقة بين الله والإنسان، ورؤيتهم المتطورة تجاه طبائع الأشياء وخصوصيتها. يُفهم من هذه الأَفكار أنَّ المُعْتَزلَة مالوا إلى القول بعدم تدخل الله في الكون، بعد خلقه، إلا من خلال تلك الوسائط، «هي القوى الطبيعية في الأشياء»([7]). نضيف أنه بتقديمهم العقل، يحدد النَّاس نظامهم الاجتماعي والسِّياسي، ويتطلب ذلك التحرر من سطوة القدر، حيث مقالة نفي القدر البارزة في الفكر المُعْتَزلِي.
من جانب آخر، حاول مؤرخون، عديدون، إعطاء الاعتزال أبعادًا سياسية بحتة، بدءًا من ربط وجود الاعتزال، كفكر وفلسفة، بالذَّين اعتزلوا الخلافات في السّلطة الإسلامية بين مركز الخلافة وأطرافها، سواء كان ذلك في معركة الجمل، أو معركة صفِّين، مستفيدين من اشتقاق تسمية معتزلة من العُزلة([8])، وتحدّث بعض المؤرخين عن الدّور السِّياسي الثَّوري للقدرية وهم أبناء المُعْتَزلَة في مواجهة السُّلطة الأَموية([9]). وبالغ مؤرخون محابون في اعتبار المُعْتَزلَة حماة الدِّين ضدّ فرق إسلامية، وديانات، وفلسفات منها المانوية، وديانات إيرانية، وهندية، ويونانية انطلاقًا من فلسفة التوحيد المُعْتَزلِي الخاصة في تنزيه الذّات الإلهيّة من الصِّفات، ومن إشغالهم لموقع فكري كادت تلك الدِّيانات والفلسفات أن تحتله([10]).
وفي هذه المهمة عُدُّوا من المجدّدين في الإسلام، ومخلِّصيه من غلاة ومشركين! والظّاهر أن هذه الآراء وغيرها، التي ظنّها المؤرخون والباحثون، في شأن المُعْتَزلَة، أتت من محاولات الدِّفاع عنهم ضدّ ما نُسب إليهم في التّاريخ بما في الملل والنِّحل من مثالب وكفريات، ووفقاً لذلك سُميت أفكارهم بالفضائح والشَّنائع والأكاذيب، لكن تلك الآراء، سَّليمة النِّية، طغت على الجوهر الفلسفي للاعتزال في النَّظر للإنسان كائنًا حرًا مسؤولًا عن أفعاله، والنَّظر إلى ظواهر الكون، وهي متناسقة بضوابط العلاقات والقوانين.
أما مؤرخو الملِل والنِّحل من المُعْتَزلَة فقد تبنوا الدِّفاع عن جماعتهم، بطريقة لا تُعقل أيضًا، حينما نسبوا إلى طبقات الاعتزال، طبقة جليلة إلى حد التّقديس عند المسلمين، وهم الخلفاء الرَّاشدون الأربعة، وعمر بن عبدالعزيز (ت 101 هـ)، وأبناء وأحفاد علي بن أبي طالب، وصُلحاء الصَّحابة، والتَّابعون إلى الاعتزال([11]). وبالتّالي فإن فكر هذه الجماعة (المقدّسة) وسلوكها انطلقا من فكر وسلوك النَّبي. لقد أساءت محاولة التَّأصيل هذه إلى مصداقية الرِّواية التَّاريخية عند المُعْتَزلَة؛ بما فيها من اختلاق، على أنّ السّلف المذكورين كانوا يتبنون الفِكر المُعْتَزلِي.
بيد أنَّ الاعتزال يرجع، في أُصوله، إلى منْ قُتلوا صبرًا وما زالوا متهمين، كمعبد الجهني، والجعد بن درهم، والجهم بن صفوان. ورد ذلك من أعداء الاعتزال من المؤرخين، ومع واقعية ما ذهبوا إليه في أصل الاعتزال، إلا أنَّ هذا لا يعفيهم من حشو التَّاريخ بالأَغاليط ضد المُعْتَزلَة وغيرهم.
ظهرت دعوة المُعْتَزلَة أول الأمر بالبصرة، ثم تأسس فرع بغداد، في بداية القرن السَّابع الميلادي أو (الثاني الهجري)، والمقدّم فيه كان بشر بن المعتمر. أما تسميتهم بالمُعْتَزلَة فقد توهم مؤرخون، وتبناه معاصرون مثلما تقدّم، أنَّ لها صلة بمعتزلة القتال في معركة الجَمل (36 هـ)، ثم صفِّين (37 هـ)، ومنهم «سعد ابن مالك، وهو سعد بن أبي وقاص، وعبدالله بن عمر بن الخطاب، ومحمد بن سلمة الأنصاري، وأُسامة بن زيد بن حارثة الكَلْبي … وصاروا أسلاف المُعْتَزلَة إلى آخر الأبد»([12]).
صحيح أنَّ التَّسمية جاءت مِن قِبل الخصوم بدلالة سلبية، لكنَّ المُعْتَزلَة وافقوا عليها وباركوها، وفي قناعتهم بهذا اللّقب، أو التّسمية، قال وزير المأمون محمد بن يزداذ الأصبهاني (تـ: 230 هـ) في كتابه «المصابيح»: «إنَّ كلَّ أرباب المذاهب نفوا عن أنفسهم الألقاب إلا المُعْتَزلَة؛ فإنهم تبجحوا به، وجعلوا ذلك علمًا لمن يتمسك بالعدل والتّوحيد، احتجوا في ذلك أنه تعالى ما ذكره إلا في الاعتزال مِن الشَّر»([13]). «ولا يكون مُعْتَزلِيًا إلا مَن آمن بأصولهم «ليس يستحق أحدٌ منهم اسم الاعتزال حتَّى يجمع القول بالأصول الخمسة: التّوحيد والعدل والوعد والوعيد والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، فإذا كملت في الإنسان هذه الخِصال الخمس فهو مُعْتَزلِي «([14]).
صحيح أن التَّسمية جاءت مِن قِبل الخصوم بدلالة سلبية؛ لكن المُعْتَزلَة وافقوا عليها وباركوها، وبينما كانت أسماؤهم: العدليّة والموحدة، وأهل التّوحيد والعدل»([15]). كانوا «يتبجحون بتسميتهم المُعْتَزلَة، ويقولون ما ورد إلا في اعتزال الشَّرِّ»([16]). واستدلوا بكلِّ آية ذُكرت فيها العزلة أو الاعتزال([17])، وكغيرهم مِن أرباب الفرق والمذاهب اعتبروا أنفسهم هم الفرقة النَّاجية، وفق ما رووه مِن الحديث: «ستفترق أمَّتي على بضع وسبعين فِرقة أبرَّها وأنقاها الفئة المُعْتَزلَة»([18]). جاء ذلك برواية أحد أبرز المُعْتَزلَة في القرن الخامس الهجريّ أبي سعد المحسن ابن محمَّد الجشميّ (تـ: 494هـ).
من رواد الاعتزال الأوائل بالبصرة كان واصل بن عطاء الغزال، وعمرو بن عبيد الباب، وعثمان الطَّويل، وأبو الهذيل العلّاف، وإبراهيم بن سيّار النَّظام، ومعمر بن عباد السُّلمي، وأبو عثمان الجاحظ، وثمامة بن أشرس، وأبو يعقوب الشَّحام، وأبو علي الجُبَّائي، وبشار بن برد الشَّاعر، وأبو الحسين بن الرَّاوندي، وضِرار بن عمرو، وأبو الحسن الأشعري (قبل خروج آخر أربعة من الاعتزال إلى مذاهب أخرى)، وغيرهم. أما ببغداد فمنهم: بشر بن المعتمر الهلالي، وراهب المُعْتَزلَة أبو موسى صبيح المردار، وجعفر بن حرب، وجعفر بن مبشر، وأبو عبدالله الإسكافي، وعبدالرَّحيم الخياط، وأبو القاسم البلخيّ.
كان واصل بن عطاء على صلة بالحسن البَصْريّ، الذي ينحدر مِن دست ميسان (العمارة جنوب العِراق حاليًا). كانت صلة المريد بالشَّيخ، أو التَّلميذ بالأستاذ. فالحسن البَصْريّ كان صاحب حلقة دراسية في مسجد البصرة، يتحلّق حوله عدد من الزُّهاد، والمنقطعين إلى العلوم الدِّينية والتَّأمل، حلقة بعيدة عن السِّياسة إلى حد ما، فشيخها كان خائفًا من الحَّجاج بن يوسف الثقفي (75 -95 هـ) طيلة ولايته التي استمرت عشرين عامًا على العراق، وكانت فترة مُرعبة بالنِّسبة لهذا الشَّيخ والعراقيين كافة، وعلى الرَّغم مِن هذا الانزواء، عن السياسة، والخوف المتأصل في النَّفس فالحجَّاج قال عنه يومًا: «غلبني علجٌ([19]) تواريه أخصاص (بيوت القصب) البصرة»([20]).
حاول بعض المؤرخين نسبة الاعتزال إلى الحسن البَصْريّ، فقد عدّه مؤرخو الملل والنّحل المُعْتَزلِيون من طبقة الاعتزال الثَّالثة([21])، ومن مجلسه ظهر الاعتزال. لكنّ المعروف، تاريخيًا، أنَّ الاعتزال ظهر خلاف رغبة هذا الشَّيخ، بعد انشطار حلقته، بمخالفة واصل بن عطاء له في القول بصاحب الكبيرة، عندما قال: لا مؤمن ولا كافر، إنما منزلة بين منزلتين([22]). مع أن الحاكم الجشميّ عدّه مِن طبقة الاعتزال الثّالثة مع ما عدّد من التابعين، وذكر الحسن بن أبي الحسن([23]).
كان إعلان الاعتزال، الظَّاهري، بالقول بـمبدأ «المنزلة بين المنزلتين» الذي يشير إلى أنَّ منزلة صاحب الكبيرة وسط بين الإيمان والكفر، على أساس أنَّ الإيمان ثابت والكفر زائل. أعلن واصل ذلك خلافًا لقول الخوارج في صاحب الكبيرة إنه كافر، وخلافًا لقول المرجئة إنه مؤمن، وخلافًا أيضًا لقول الحسن البَصْريّ إنه منافق([24]). إنَّ الموقف من أصحاب الكبائر لم يعد موقفًا فقهيًا عاديًا، حسب التَّصور العام، بقدر ما كان سياسيًا خطيرًا؛ لأنّه يتعلق بالموقف من أهل السُّلطة، وهذا هو بيت القصيد من تحديد الموقف من صاحب الكبيرة، حيث جاء موقف المُعْتَزلَة وسطًا بين الخوارج وتشدّدهم، والمرجئة ومرونتهم.
التحق بواصل بن عطاء عمرو بن عبيد الباب، ليصبح قطبًا من أقطاب الاعتزال، ثم رئيسًا للمذهب بعد وفاة واصل سنة131هـ. هكذا أُعلن عن تأسيس الاعتزال، مذهبًا فكريًا، من خلال طرح مبدأ «المنزلة بين المنزلتين»، في زاوية من زوايا مسجد البصرة، بعد استكمال مستلزمات التأسيس وسط مذاهب متعددة من شيعة، ومرجئة، وخوارج، وإباضية، وجبرية، وقدرية، ومفكرين محايدين.
شيدَّ المُعْتَزلَة كيانهم الفكري من الجدل بين تيارين معروفين: تيار نفاة القدر وتيار مثبتيه، ونفاة القدر يقولون بنفي الصّفات (تنزيه الله مما تتصف به مخلوقاته)، وبخلق القرآن (القرآن كلام الله المخلوق أو المُحدث، وليس القديم). كان نفي القدر ونفي الصّفات، عن الذَّات الإلهيّة، فكرتين أساسيتين عند المُعْتَزلَة، وعليهما تعتمد مقالاتهم الكلامية والفلسفية، وما القول في «المنزلة بين المنزلتين» إلا الشكل الظّاهري الذي أعلن به واصل اعتزاله عن مجلس شيخه الحسن البَصْريّ، كما أسلفنا.
ووجد المؤرخون القدماء ومنهم معتزلة في تسمية تيار نفاة القدر بالتّيار القدري، عدم اتفاق بين الاسم والمُسمى، فالتَّسمية تعبّر عن التَّيار المناقض وهو الجبري؛ ولذا مُيَّز المؤرخون، مخالفي الجبر، بتسمية نُفاة القدر. أقتبس المُعْتَزلَة مِن نُفاة القدر فكرة «نفي القدر»، لتصبح جوهرًا في فلسفة العدل المُعْتَزلِي، فشرعيّة الحساب في الآخرة تتطلب التَّصديق بنفي القدر أولاً، إذْ يسفر ذلك عن حرّية الإنسان ومسؤوليته عن أفعاله.
كان من أشهر نفاة القدر: معبد الجهني، وغيلان الدّمشقي أو القبطي، وكلاهما قُتل بسبب أفكاره. أما التَّيار الجبري، فمفكروه كانوا ينظّرون إلى وجود الحكم تحقيقًا لإرادة إلهيّة، ليس من حق النَّاس تبديلها، أو حتى الاعتراض عليها. لكن هذا التَّيار لم يكن متجانسًا، فهناك العديد من منظّريه، وإن كانوا يقولون بالإجبار، أي الفعل خيره وشره من الله، ويبالغون في إلغاء الأسباب الطَّبيعية والاجتماعية، فإنهم تبنوا فكرة «نفي الصِّفات» عن الذَّات الإلهيّة، ومقالة «خلق القرآن» المتصلة بها([25])، إذ نُظر إلى الكلام كأنه شريك مع الله بالقِدم، وإلا فإنها تُعدّ من أصل العدل، مثلما هو الحال عند القاضي عبد الجبار الأسد آبادي([26]).
لهاتين الفكرتين خطرهما على القائلين بهما، ولا تقلان خطورة عن فكرة «نفي القدر». ومن أبرز هؤلاء المفكرين في هذا المجال: الجعد بن درهم، والجهم بن صفوان، اللذان قتلا من قبل الولاة الأمويين بالعراق وإيران. وبسبب حضور الفكر القدري «نفي القدر» سمي المُعْتَزلَة بالقدريين، كما سُموا بالجهميين نسبة إلى الجهم بن صفوان. كذلك عَدَّ بعض مؤرخي الملِل والنِّحل كل مَنْ ناقش في القدر مُعْتَزلِي، حتى قبل ظهور الاعتزال.
أصبحت فكرة «نفي القدر» جوهرًا في فلسفة العدل عند المُعْتَزلَة، وغدت فكرة «نفي الصّفات» عن الذّات الإلهيّة جوهرًا في فلسفة التَّوحيد لديهم. أما مبادئ أو أُصول المُعْتَزلَة الأُخرى: «المنزلة بين المنزلتين» و«الوعد والوعيد» و«الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، فما هي إلا تطبيقات لمبدأ العدل كشروط لتحقُّقه اجتماعيًا. إلا أن المُعْتَزلَة لم ينفردوا، من بين التَّيارات والفرق الفكرية، في تبني فكرة نفي القدر، أو فكرة نفي الصفات، أو القول بخلق القرآن، بل ظهرت واضحة ورئيسة عند الإباضية الذين ظهروا بالبصرة قبل ظهور المُعْتَزلَة بكثير، وحتّى الوقت الحاضر([27]).
ومازال مذهب الإباضية سائدًا بعُمان حاليًا([28])، وهو مذهب سياسي وكلامي لا يحبذ أتباعه تسميتهم بالخوارج، بل يؤكدون أنهم الشُّراة والحرورية الأوائل، وإن الخوارج، مثل الأزارقة والنِّجدات، قد انشقوا عنهم. تأخذ مسألة أسبقيتهم على المُعْتَزلَة، زمنيًا، بنظر الاعتبار عند تحديد الفضل الفكري في تبني مسألتي: «نفي القدر»، و«نفي الصّفات»، لكن الشَّائع عن تلك الأفكار أنها مُعْتَزلِية، تبناها في ما بعد الإباضية.
كذلك ظهرت فكرتا «نفي القدر» و«نفي الصّفات» عند المذهب الشِّيعي الزَّيدي، فيما بعد، لكن الزَّيدية استبدلوا مبدأ «المنزلة بين المنزلتين» بأصل الإمامة، الذي ضمه المُعْتَزلَة لأصل العدل، ومن المعروف أن للزَّيدية صلات متينة بالمُعْتَزلَة، منها الصّلة القديمة بين واصل بن عطاء وزيد بن علي، ثم التَّداخل بين معتزلة بغداد والزَّيدية؛ بالاتفاق حول القول بإمامة المفضول قبل الفاضل، أي تقديم أبي بكر الصِّديق على علي بن أبي طالب، على الرّغم مِن أنَّ الأول المفضول والثاني الفاضل على حد اعتقادهم. والقدر حسب المذهب الشّيعي الإمامي فهو «لا جبر ولا تفويض ولكنْ أمر بين أمرين»([29]). لا جبرية ترى أنَّ الله هو الفاعل لأفعال المخلوقين، ولا مفوضية ترى: أن الله فوّض الأفعال إلى المخلوقين([30]). أما قولهم في الصِّفات، فهي عين ذات الله، صفات الكمال والجمال، ليست صفات زائدة، ووجودها مرتبط بوجود الذَّات([31]).
استند الفريقان إلى آيات قرآنية، فنفاة القدر استندوا إلى: «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ»(الزِّلزلة: 7-8)، و«إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا» (الإنسان: 3)، و«وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ» (البَقرة: 273) وغيرها. ومن جانبهم استند مثبتو القدر، أو الجبريون، إلى: «قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ»(التَّوبة: 51)، و«وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ»(البقرة: 212)، و«وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ»(فاطر: 11) وغيرها.
كذلك الحال بالنّسبة إلى نفاة الصّفات ومثبتيها، فهناك آيات تؤيد القول بالفكرتين، فمن الآيات المؤيدة لأصحاب النَّفي: «فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ»(الشورى:11). وأما مثبتو الصِّفات فيجدون صحّة رأيهم في آيات تدل على تشبيه الذَّات الإلهيّة بالأجسام، منها: «إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ»(الفتح: 10)، و«وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ»(الرحمن: 27)، كما يستدلون ببعض أسماء الله التسعة والتسعين دليلاً على صحّة قولهم بثبوت الصِّفات.
وفي سبيل تجاوز التَّناقض بين الآيات القرآنية وبين فكرة نفي القدر، أو نفي الصِّفات، أو القول بخلق القرآن، عمدَ المُعْتَزلَة إلى تأويل تلك الآيات، وتحميلها من التَّفسير ما يختلف عن دلالة لفظها الظّاهرة، ولهم في مجال تفسير أو تأويل القرآن تجربتهم الخاصة. وقد قدم إبراهيم بن سيّار النَّظام نقدًا شديدًا إلى مفسري القرآن من الفرق والمذاهب الأُخرى، مشيرًا إلى خطئهم في التَّفسير على اللّفظ الظَّاهر، وعجزهم عن فهم واستيعاب كلمات القرآن ومدلولاتها العامة، وعن كشف المعاني الصّحيحة لآياته.
يقول النَّظام في نصيحته لأهل المعرفة بخصوص المفسّرين: «لا تسترسلوا إلى كثير من المفسرين، وإن نصّبوا أنفسهم للعامة، وأجابوا في كل مسألة، فإن كثيرًا منهم يقول بغير رواية على غير أساس»([32]). وإضافة إلى انفرادهم بتفسيرهم الخاص للقرآن انفرد المُعْتَزلَة، من بين الفرق الإسلامية الأُخرى، بموقف خاص من رواية الحديث النَّبوي. فمثلما وجدوا طريقًا إلى تأويل القرآن، والتّخفيف من قدسية الأحكام النَّاتجة عن التَّفسير، وقفوا إزاء رواية الحديث موقف الشَّك والرَّفض، فالرِّوايات عن النَّبي كثيرة، وما قيل فيه من بعض المُعْتَزلَة كان عددًا محدودًا، بل وهناك منهم من رفض الحديث كلية.
كان دافع هذا الموقف من التَّفسير والحديث هو التَّخفيف من سطوة النَّقل على العقل؛ فمن المعروف أنَّ السُّنَّة النَّبوية، أي أقوال النَّبي ووصاياه وممارساته، مُلزمة للمسلمين كافة بعد القرآن، فكثير مِن الأحكام أخذت شرعيّتها من الأحاديث النَّبوية، لا من القرآن، مثل قتل المرتد، والختان أو الطُّهور، وعقوبة شارب الخمر، وعدم مصافحة النِّساء، واختلاف صلاة المسلمين من مذهب إلى آخر.
كذلك احتج المُعْتَزلَة بصعوبة وصول روايةٍ سليمةٍ عن النَّبي؛ من دون إضافة أو تحوير أو تصحيف، فقد ميز أئمة الحديث بين أنواع من الأحاديث: الصَّحيح والحسن والضَّعيف والموضوع، إضافة إلى الأحاديث القدسيّة، كلام الله على لسان النَّبي من غير القرآن. فمن بين آلاف الأحاديث النَّبوية توّصل بعض المُعْتَزلَة إلى الالتزام بثمانين حديثًا فقط. ومن رأي كبار مفكريهم في رواة الحديث نذكر قول إبراهيم النّظَام: «كيف نأمن كذب الصَّادق، وخيانة الأمين، وقد ترى أن الفقيه يكذب في الحديث، ويدلس في الإسناد، ويدعي لقاء منْ لم يبلغه (…) ولولا أن الفقهاء المحدثين والرُّواة والصُّلحاء المرضيين يكذبون في الأخبار، ويغلطون في الآثار لما تناقضت آثارهم ولا تدافعت أخبارهم»([33]).
ومن شروط المُعْتَزلَة في قبول الرّواية عن النَّبي هو أن يكون الحديث من نصّ قرآني لا يعارض التَّأويل؛ أو من إجماع الأمة على نقل خبر واحد لا تناقض فيه، أو من جهة العقل وضرورته. والحقيقة أن هذه الشروط تحول دون اعتماد حديث نبوي على الإطلاق. وفي ما يتعلق أيضًا في قول المُعْتَزلَة بتقديم العقل على النّص، ينصحون علانية في البُعد عن التّقليد، وأخذ المعرفة والإيمان بالنّظر والاستدلال، أي تأكيد قاعدة «الفكر قبل ورود السَّمع»، سَّالفة الذّكر.
انتقل المُعْتَزلَة بفكرتي «نفي القدر» و«نفي الصِّفات» من بساطة القول إلى الفلسفة، فقد ربطوا «نفي القدر» بفكرتهم في العدل الاجتماعي، وبالتالي فإن الله، من وجهة نظرهم، عادل لا جائر، ولهذا قد اتهمهم البعض بالثَّنوية، أي الإيمان بأن للخير صانعًا هو الله، وأن للشِّر صانعًا آخر هو إبليس. وهنا تجدر الإشارة إلى أن الفكر الدِّيني، بشكل عام، لا يخلو من ثنائية الخير والشَّر، والاعتقاد بأن مصدر الأول هو الله، ومصدر الثاني هو إبليس!
ولماذا التَّشدّد في الحذر من غواية الأخير! إذا كان غير مقتدر على خلق الشِّرور، أو إذا كان الإنسان لا يملك من أمره لا خيرًا ولا شرًا! وحسب هذا المنطق قد لا يجد حرجًا منْ يتقي شر إبليس، بطريقته، كما تذهب إلى ذلك تقاليد بعض الدّيانات، أو يُعاذ من شروره برَّب العالمين عند ديانات أُخرى.
أما مقالة نفي الصِّفات عن الذَّات الإلهية، فقد بانت بسيطة أيضًا عند واصل بن عطاء، الذي أخذها من بيئة البصرة الفكريّة، ومن اتصاله بجهم بن صفوان، ثم بدت عند خلفائه معقدة وفلسفية. وكان إدخال الفلسفة عليها بداية برأي أبي الهذيل العلّاف، حين وحّد بين الذَّات الإلهيّة والصّفات بفكرة «أن الله قادر وقدرته هو هي، وحي وحياته هو هي، وكريم وكرمه هو هو»… إلخ، مثلما سيأتي الحديث عنه في محله. وبالتالي ألغى العلّاف الثنائية بين الذَّات الإلهيّة وصفاتها، فلا يصحّ أن تكون قديمة بقدم الله، أو أن يتصف الله بمعاكسها من الصِّفات، وهذا هو التَّنزيه المطلق الذي يذهب إليه التَّوحيد المُعْتَزلِي.
هناك من المُعْتَزلَة، بينهم إبراهيم النَّظام، منْ أكدوا صفة الذَّات جزءًا منها لنفي الصّفة المعاكسة عنها، فالقول «إنَّ الله كريم نفى البُخل عنه، والقول إنه حيّ نفى الموت عنه، والقول إنه عادل نفى الظلم عنه، وهكذا». وإلى جانب ذلك فلسف مفكرون آخرون العلاقة بين الذَّات الإلهيّة والصَّفات بآراء أُخرى، فقد جعل معمّر بن عبّاد الصِّفات معانيَ لذَات الله بقوله: «إن الله عالم بعلمٍ، وإن علمه كان لمعنى، والمعنى كان لمعنى لا إلى غاية». وفلسف أبو هاشم الجُبائي العلاقة بين الله والصّفات بتحويل الصّفات إلى أحوال للذَّات الإلهيّة، ورد ذلك بقوله: «الله هو عالم لذَاته بمعنى ذو حالة هي صفة المعلومية».
إن الكلام عن نفي الصَّفات وغيرها من المسائل بدا تعقيدًا لفظيًا وفكريًا مقصودًا، من قبل معتزلة ومتكلمين آخرين، لكن المتفق عليه في تبرير هذا التَّعقيد أنه الكلام الدَّقيق، وهو الفلسفة قبل أنْ تصبح هذه الكلمة مصطلحًا في متناول هؤلاء المفكرين. وتعريف الخياط المُعْتَزلِي لدقيق الكلام أو الفلسفة: «غامض الكلام ولطيفه». ولا يخلو الكلام الدَّقيق في نفي القدر ونفي الصِّفات من مكانة ومعنى في الفكر؛ وربما تتوقف عليه أمور كثيرة في معرفة الوجود.
ومع ذلك، هناك جدل خاضه كبار المتكلمين، ورد مثل رياضة عقلية، لا يُرجى منها نتائج فكرية، بقدر ما أثارتها صعوبة فهم المسلّمات الدِّينية العقائدية، ومنها، على سبيل المثال لا الحصر، الجدل بعلم الله ومكانه، وطبيعة أهل الجنَّة وأهل النَّار، هل هم متحركون أم ساكنون؟ وغيرها. ويصف الخياط هذا النوع مِن الجدل بقوله: «إنما كان العلّاف يتكلم في هذا الباب، الذي ذكرناه، عن طريق النَّظر، ويشحذ به الإفهام ويستخرج قوى المناظرين»([34]).
ترتبط فكرة «خلق القرآن» بنفي الصِّفات ارتباطًا مباشرًا، من حيث أنَّ الكلام صفة وله صلة بالتَّوحيد، لكن تبدو أنها من أصل العدل، نزل على مصالح العباد([35])، عندما تتعلق بالأفعال، والظاهر أن أول القائلين بها في المصادر الإسلامية هما الجعد بن درهم والجهم بن صفوان، ويبقى الباب مفتوحًا أمام ما تتوصل إليه البحوث في أصل هذه الفكرة، فلعلَّ الإباضية هم السَّابقون، كما وردت الإشارة سلفًا، وهناك منْ يحيل تاريخها إلى ديانات أخرى سبقت الإسلام. ويتفق المُعْتَزلَة كافة على أن القرآن ليس كلام الله، وأنه مخلوق من الله، شأنه شأن المخلوقات الأُخرى، قد ينطق به نبي أو يظهر في شيء آخر. والحجة في ذلك، أن الكلام صفة من صفات المخلوق (الإنسان)، وإذا كان الله متكلمًا فمعنى ذلك أن الكلام قديم بقدمه، وما الفرق إذن بينه وبين مخلوقاته، وهذا يتعارض مع جوهر التوحيد المُعْتَزلِي.
أتاحت فكرة خلق القرآن للمعتزلة فرصة تأويل القرآن؛ لأنه كلام الله المخلوق المحدث لا كلامه القديم بقدمه. فالأمر مختلف بين أن يكون القرآن كلام الله القديم بقدمه، لا جدال في نصوصه، وبين أن يكون مخلوقًا من مخلوقاته، ونزل على مصالح العباد، يمكن الاختلاف حوله، وتحديد ما يناسب وما لا يناسب منه عصرًا من العصور.
ولعلَّ فكرة خلق القرآن، إضافة إلى مسألة التَّأويل، شجعت إبراهيم النَّظام على الاعتراف بالإعجاز الغيبي دون الإعجاز اللُّغوي([36])، وفي مصادر مُعْتَزلِية أُخرى. واعترض القاضي عبد الجبار على ذلك القول، رغم أنه صادر من شيخ من شيوخه، بقوله: «عجز العرب عن معارضة القرآن؛ لذا التجؤوا إلى القتال»([37]).
أما معارضة مسلمة الحنفي (الكذاب) للقرآن فيصفها القاضي بالمعارضة «الرَّكيكة»([38]). وتضع من إصرار الآخرين على أنَّ القرآن كلام الله وقديم بقدمه، تجسيد قدسية النَّص، والوقوف ضد التَّأويل الذي تبناه المُعْتَزلَة منهجًا في التَّفسير. تحولت مسألة خلق القرآن، في ما بعد، إلى محنة فرضها الخليفة عبد الله المأمون (تـ: 218هـ) على فقهاء عصره، ولم يكن لشيوخ المُعْتَزلَة دور سلطوي فيها، ما عدا انتساب القاضي أحمد بن داؤد إليهم، وقام بتنفيذ أوامر المأمون والمعتصم ثم الواثق في هذه المحنة أو غيرها. أما شيوخ الاعتزال فقد كان دورهم الاستشارة والتأييد.
ومن الأحداث الطَّريفة التي حدثت خلال هذه المحنة، أنَّ أحد الفقهاء لم يجد في القرآن ما يبرر القول بأنَّ القرآن مخلوق، ليستعين به في الهروب من هذا الموقف، غير النَّص القرآني: «جعلناه قرآنًا (…)» فقال لممتحنيه إني أقول: إنَّ القرآن مجعول، والجعل هو الخلق. لكن هذه الحيلة لم تنطل عليهم، فالمطلوب أن يكون اللّفظ صريحًا بالخلق لا بالجعل([39])!
بدأت محنة القول بــ«خلق القرآن» يسيرة أيام المأمون(تـ: 218هـ)، ثم اشتدّت أيام أخيه محمَّد المعتصم(تـ: 227هـ)، عسكري التّربية والمراس بعيدًا عن الفكر والمناظرات، فأخذ مخالفي «خلق القرآن» بالقوة مباشرة. وعند استخلاف جعفر المتوكل (تـ: 247 هـ) أصبح أئمة الحديث في الواجهة، ومن بينهم الممتحنون من قبل، فحُرّم القول بخلق القرآن ونفي الصِّفات، بعد أن كان عقيدة للخلافة، فدارت الأيام على المُعْتَزلَة وأصبح الانتماء لأفكارهم محفوفًا بالمخاطر. ففي ظل صدارة المُعْتَزلَة للحياة الفكرية ببغداد تحقق انفتاح ملموس على الفرق الإسلامية والدّيانات والثقافات الأُخرى، وما عُرف عن محنة الإمام أحمد بن حنبل (تـ: 241هـ) وجماعته، أيام المأمون، كان لا يتعدى دعوتهم إلى التَّناظر مع مخالفيهم، في بداية الأمر، وهؤلاء كانوا يُحرّمون الجلوس مع المُعْتَزلَة وغيرهم على بساط واحدٍ.
إن حقيقة موقف الحنابلة المتشدد من المناظرات الفكرية في عصر المأمون، امتدّ إلى قرون لاحقة، وقد يفيد في هذا الأمر ما سنفصله في سيرة بشر بن المعتمر عن أبي بكر الباقلاني أحد شيوخ الأشاعرة في زمانه. وكان هذا قد ذكَّرَ شيخه الحسن الباهلي بموقف ابن حنبل وجماعته من مناظرات المُعْتَزلَة والمأمون، عندما طُلب من الباقلاني والباهلي المشاركة في مناظرات عضد الدَّولة البويهي وقاضي قضاته المُعْتَزلِي، وكان الحاكم البويهي قد افتقد فقهاء ومتكلمي الأشاعرة والحنابلة، فبعث قاضي القضاة إلى أبي الحسن الباهلي وإلى القاضي أبي بكر الباقلاني كتابًا دعاهما فيه إلى المشاركة، فكان ردّ الباهلي كما هو رد ابن حنبل، لا مجلس ومناظرة مع كفّار([40])!
أصبحت المناظرات الفكرية، في ظلّ الانفتاح الفكري في عصر المأمون، تقليدًا اعتادَ على ممارسته مفكرون من مختلف الاتجاهات، بعد تأمين التَّناظر السَّليم والإذعان لنتيجة المناظرة. هذا ويذكر أبو الحسن المسعودي (تـ: 346 هـ) مجلس المناظرات في حضرة الخليفة عبد الله المأمون، قائلاً: «يجلس للمناظرة في الفقه يوم الثُّلاثاء، فإذا حضر الفقهاء، ومَنْ يناظره من سائر أهل المقالات أُدخلوا حجرة مفروشة، وقيل لهم: انزعوا أخفافكم، وأحضرت الموائد فقيل لهم: أصيبوا من الطعام والشَّراب، وجدّدوا الوضوء، ومَنْ ضاق عليه خفه فلينزعه، ومَنْ ثقلت عليه قلنسوته فليضعها. حتى إذا فرغوا أتوا بالمجامر فبخروا وتطيبوا، ثم خرجوا، فاستدناهم حتى يدنوا منه، ويناظرهم أحسن مناظرة وأنصفها وأبعدها من مناظرة المتجبَّرين. فلا يزال كذلك إلى أن تزول الشَّمس، وتُنصب المائدة ثانيةً فيطعمون وينصرفون»([41]).
ففي واحدة من المناظرات، بحضور الخليفة، جرت حول التَّشيع، فنصرَ محمد بن أبي العباس الإمامية ونصر علي بن الهيثم الزَّيدية، واختلفا، فنهر ابن أبي العباس ابن الهيثم قائلاً: «يا نبطي ما أنت والكلام!([42]). قال: فقال المأمون وكان متكئًا فجلس الشَّتم عيٌّ والبذاءة لؤمٌ، وقد أبحنا الكلام وأظهرنا المقالات، فمن قال بالحق حمدناه، ومن جهل وقفناه، ومن ذهب عن الأمر حكمنا فيه بما يجب»([43]).
انفتاح المأمون تعدى ما بين مذاهب المسلمين إلى الأديان والفلسفات الأُخر؛ حتَّى من التي كان يُحاسب عليها أسلافه بالقتل، مثل المانوية، مِن ذلك قيل أحضر المأمون، من أجل المناظرة، رئيس المانوية يزدان بخت من الرَّي «فقطعه المتكلمون، فقال له المأمون: أسلم يا يزدان بخت، فلولا ما أعطيناك إياه من الأمان لكان لنا ولك شأن. فقال له يزدان بخت: نصيحتك يا أمير المؤمنين مسموعة، وقولك مقبول، ولكنك ممَنْ لا تجبر النَّاس على ترك مذاهبهم. فقال المأمون: أجل. وكان أنزله بناحية المحرّم، ووكل به حفظةً، خوفًا عليه من الغوغاء، وكان فصيحًا لسُّنًا»([44]).
ظهرت مؤلفات في أدب الجدل والمناظرة([45])، تشير بوضوح إلى مبادئ عديدة فعندما سُئل الإمام محمَّد بن إدريس اِلشَّافِعِيِّ(تـ: 204هـ): مَنْ أَقْدَرُ النَّاسِ عَلَى الْمُنَاظَرَةِ؟ فقَالَ: «مَنْ عَوَّدَ لِسَانَهُ الرَّكْضَ فِي مَيْدَانِ الْأَلْفَاظِ، وَلَمْ يَتَلَعْثَمْ إِذَا رَمَقَتْهُ الْعُيُونُ بِالْأَلْحَاظِ، وَلَا يَكُونُ رَخِيَّ الْبَالِ، قَصِيرَ الْهِمَّةِ، فَإِنَّ مَدَارِكَ الْعِلْمِ صَعْبَةٌ لَا تَنَالُ إِلَّا بِالْجَدِّ وَالِاجْتِهَاد، وَلَا يَسْتَحْقِرُ خَصْمَهُ لِصِغَرِهِ فَيُسَامِحُهُ فِي نَظَرِهِ، بَلْ يَكُونُ عَلَى نَهْجٍ وَاحِدٍ فِي الِاسْتِيفَاءِ وْالِاسْتِقْصَاءِ؛ لِأَنَّ تَرْكَ التَّحَرُّزَ وَالِاسْتِظْهَارَ يُؤَدِّي إِلَى الضَّعْفِ وَالِانْقِطَاعِ»([46]).
كان من تراث المُعْتَزلَة الفكري والفلسفي، في تأمل الكون، أشياء وعلاقات، نظرياتهم في الأجسام وتركيبها وعلاقتها بالأعراض، أي ما يطرأ عليها من تغيرات، وما فيها من خصائص تتميز بها. وفي هذا المجال توصل معمر السُّلمي وبشر بن المعتمر إلى القول في ذاتية حركة وتطور الأجسام وإيجاد أعراضها، من لون ورائحة وطول وعرض، وكل ما يطرأ عليها. وتوصل إبراهيم النَّظام إلى القول بالمداخلة والكمون في ظهور الأشياء بعضها من بعض بتدرج قانوني، وأن حركة الأجسام دائمة مطلقة، وأن السُّكون لا وجود له إلا في اللّغة، فهو القائل: «الحركات هي الكون لا غيرها»، وهي العرض الوحيد، وباقي الأعراض ما هي إلا أجسام شفافة، وأن الجسم يتكون من أجزاء لا نهاية في تجزئتها.
كذلك بحث المُعْتَزلَة أمورًا اجتماعية ومعرفية كأصل اللّغة، فمنهم مَنْ قال إنها اصطلاح ومواضعة، ومنهم مَنْ قال إنها توقيف. وتأملوا حالة الدَّولة (الإمامة) ومستقبلها، فلم يجعلوها أصلاً من الأُصول، أي لا شرط لوجودها على الدَّوام، كما ذهبت إلى ذلك المذاهب الأُخرى. ولعلَّ هشام الفُوْطي وأبا بكر الأصم ذهبا بإشارتيهما إلى أن الإمامة ليست بواجبة، إلى القول باضمحلال دور الدَّولة السياسي والاجتماعي، بتعليل، جاء فيه: «لو تكاف النَّاس عن التظالم لاستغنوا عن الإمام»([47]).
ترك المُعْتَزلَة تراثًا فكريًا، لا يتحدد بما نقلته كتبهم أو ما نقله الآخرون عنهم فقط، بل يتحدد أيضًا في امتداد أفكارهم وصلاحيتها لعصور آتية، كونهم وضعوا العقل وسيطًا بين السَّماء والبشر، وجعلوه في مقدمة الأصول الأخرى. وعندما يجري التلويح بالنّصوص كثوابت في تحديد علاقات النّاس عند المنحدرات الحادة، التي تعترض طريق الإبداع يحضر الفكر المُعْتَزلِي كشاهد على تاريخ الرفض والمقاومة، ومن داخل المؤسسة الفقهية. فكان شيوخ الاعتزال من الفقهاء المتكلمين والفلاسفة، وبالتالي تبدو عبارة سفيان الثَّوري، الفقيه الحنفي حاضرة في الأذهان، جاء في روايتها وسندها، بقلم ابن عبد البرِّ(تـ: 463هـ): «حَدَّثَنَا أَبُو ذَرٍّ عَبْدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْهَرَوِيُّ، فِيمَا كَتَبَ بِهِ إِلَيَّ إِجَازَةً، أنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ الْبَلْخِيُّ، ثنا أَبُو الْعَبَّاسِ مَحْمُودُ بْنُ عَنْبَرِ بْنِ نُعَيْمٍ النَّسَفِيُّ بَنَسَفَ قَالَ: ثنا أَبُو نَصْرٍ فَتْحُ بْنُ عَمْرٍو الْوَرَّاقُ، ثنا أَبُو أُسَامَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ، يَقُولُ: إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَنَا الرُّخْصَةُ مِنْ ثِقَةٍ، فَأَمَّا التَّشْدِيدُ فَيُحْسِنُهُ كُلُّ أَحَدٍ»([48]).
قد يسأل سائل: لماذا الخوض في المُعْتَزلَة وهي فرقة صارت في ذمّة الماضي؛ أيّ لا وجود لكيان منفرد بهذا الاسم؟ نقول: ما زالت المعركة قائمة، بين الاعتزال وخصومه، وإنْ صار في ذمّة الماضي، فعنوان كتاب موضوعه لمواجهة المُعْتَزلَة «المُعْتَزلَة بين القديم والحديث» يشعرنا أن المعركة مستمرة، وما زال التّأليف ضدّ أهل الكلام، والمُعْتَزلَة في المقدّمة، جاريًّا، مِن قبل أتباع أهل الحديث والسّلفيّة، وعلى الكتاب المذكور مِن الأمثلة، وكان قد صدر (العام: 1996) مع أن النَّاظر في عنوانه يظنّ أنه دراسة حياديّة، على أساس أن أمر المُعْتَزلَة، كفرقة، صار مِن الماضي، لكن مادة الكتاب كانت مثقلة بالذّم والتَّحذير، وكأنّ مؤلفي الكتاب ردا على معتزلة جدد، وهما يسبقان النُّقاد، على مواجهة فكر صار في ذمّة التَّاريخ، بالقول: «فقد يظنّ البعض، أنَّ الحديث عن فرقةٍ بادت أو كادت ترف عقلي، أو رياضة فكريَّة، تنبئ عن ملء حيزٍ مِن الفراغ في الوقت والفكر جميعًا… إنّ إعادة الحديث عن مذاهب مضت، وبيان ما فيها مِن بطلان، وإظهار عوارها هو منهج مستمدّ مِن كتاب الله تعالى»، ثم تجدهما يبرران التأليف بالقول: «إنَّ الأفكار لا تموت بموت أصحابها». هذا، وقد شبها فكر المُعْتَزلَة بالجراثيم «تنتقل عدواها فتصيب النَّاس بمثل ما أصابت به صاحبها»([49]). المعنى مِن ذِكر هذا الكتاب، أنّ المعركة لم تنته بعد؛ لذا لنا القول: إن كتابنا هذا يدخل ساحة المواجهة، لكن لنصرة المُعْتَزلَة، بتقديم سيرهم ومقالاتهم، مِن أفواههم وأفواه خصومهم.
تمت في هذا الكتاب دراسة ثلاثة وثلاثين من الشَّخصيات الكلامية، من نُفاة القدر والصِّفات، والقائلين بخلق القرآن من غير المُعْتَزلَة، ومن شيوخ الاعتزال البارزين، إضافة إلى الإمام أبي حنيفة. كان في مقدمتهم الفقيه الحسن البَصْريّ، الذي لا تربطه رابطة بالاعتزال، كما يُشاع عنه ذلك، سوى أنَّ مؤسسي الاعتزال واصل بن عطاء الغزال وعمرو بن عبيد الباب كانا من مرتادي مجلسه في مسجد البصرة، ولعلَّ بحث تفاصيل حياته يكشف عن ظروف الحركة الفكرية والكلامية آنذاك، ويكشف أيضًا موقفه وفقهاء عصره من الاعتزال.
أما الإمام أبو حنيفة النُّعمان، والمقتولون الأربعة: الجعد بن درهم، ومعبد الجهني، وجهم بن صفوان، وغيلان الدِّمشقي([50]) فأمرهم له صلة بمقدمات ظهور الاعتزال الفكرية، فالمذكورون تبنوا تلك الأفكار بدرجات مختلفة من الوعي والمساهمة.
لم تغب عن البال، ونحن نشرع بكتابة هذه المقدمة، وصية المُعْتَزلِي الأديب عمرو بن بحر الجاحظ(تـ: 250 هـ) للمؤلفين: «ينبغي لمن يكتب كتابًا ألا يكتبه إلا على أنَّ النَّاس كلّهم له أعداء، وكلُّهم عالم بالأمور، وكلُّهم متفرغ له، ثم لا يرضى بذلك حتَّى يدع كتابه غُفلاً، ولا يرضى بالرَّأي الفطير، فإن لابتداء الكتاب فتنة وعجبًا، فإذا سكنت الطَّبيعة، وهدأت الحركة، وتراجعت الأخلاط، وعادت النَّفس وافرة، أعاد النَّظر فيه، فيتوقف عند فصوله، توقف من يكون وزن طمعه في السَّلامة، أنقص مِن وزن خوفه مِن العيب»([51]).
كان الكتاب قد صدر، وعُدل عدة مرات، بتعدد طبعاته، ووصية الجاحظ السَّالفة حاضرة في الذِّهن، ونضيف لها مقالة إسماعيل بن يحيى المُزنيّ صاحب الإمام الشَّافعي(تـ: 364هـ): «لو عُورض كتابٌ سبعين مرة لوجد فيه خطأ، أبى الله أن يكون كتابًا صحيحًا غير كتابه»([52]). فيا ترى مَنْ يقدر على التَّمام، وعلى ردّ نقد الجميع!
صدرت الطبعة الأولى من الكتاب (1997) خالية من أهم شخصيتين من شخصيات الاعتزال، البَصْريّ والبغداديّ، لعبتا دورًا في الحفاظ على الفكر المُعْتَزلِي، بتسجيل مقالاته وشرحها، وهما قاضي القضاة أبو الحسن عبد الجبار ابن أحمد الأسد آبادي(تـ: 415 هـ)، والشَّاعر وشارح «نهج البلاغة» عزُّ الدِّين عبد الحميد بن هبة الله المدائني، المعروف بابن أبي الحديد(تـ: 656 هـ).
كان قاضي القضاة عبد الجبار الأسد آبادي(تـ: 415هـ) مِن كبار مفكري وفقهاء عصره، وبلغت مؤلفاته أكثر من أربعين كتابًا، وعن طريق كتبه تعرف المتأخرون على مقالات وسير شيوخ الاعتزال الأوائل، وكان كتابه الموسوعيّ «المُغني في أبواب التَّوحيد والعدل» من أهم ما تضمنته ثروته الفكرية، وقد ظهر محفوظًا في المكتبات الزَّيدية باليمن بعشرين جزءًا.
أما ابن أبي الحديد(تـ: 656هـ) فقد عاش لحظة انهيار الخلافة العباسية، وشهد اجتياح المغول لبغداد، وأسهم في حفظ خزائن الكتب، وإنقاذ ما تفرق في الآفاق منها، وجمعها من جديد تحت إشراف العالم الفلكي نصير الدِّين الطُّوسي(تـ: 673 هـ)، ومن أهم آثاره كان كتاب «شرح نهج البلاغة»، مثلما سيأتي في سيرته.
جاءت الطَّبعة الخامسة بإضافة فصل للاعتزال البَصْريّ، شخصيات مؤثرة مع عدم وجود مقالات خاصة بكلّ منهم، لكنّهم امتداد لشيوخهم الأسبقين، والأصل فيهم القاضي عبد الجبار، وهم: أبو الحُسين البَصْريّ (تـ: 436هـ)، وأبو رشيد النّيسابوريّ (تـ: 440هـ)، والحاكم الجشميّ (تـ: 494هـ)، وأبو القاسم الزّمخشريّ (تـ: 538هـ)، كانوا متهمين في الاعتزال كافة، وشكلوا واسطة بين الاعتزال القديم والمتأخر، ولعبوا دورًا في نقل مقالات الأقدمين مِن شيوخ الاعتزال، وبينهم مَن اعتمده رواد أشعريون مثل المفسر الفخر الرّازيّ(تـ: 606هـ)، وحتّى الآن لم يُستغنِ عن تفسير «الكشاف» للزّمخشري، الذي واجه ردودًا عنيفة ضدّه مِن قبل أهل الجبر وأهل الحديث.
هذا، ولم يستوعب الكِتَابُ مفكري الاعتزال من بصريين وبغداديين كافة، إلا أنه تناول الرُّؤوس، مع أبرز الذين تمرّدوا على الاعتزال، من أمثال: ضرار بن عمرو، وابن الرَّاوندي، وأبي الحسن الأشعري، مع كلمتين بحقِّ مدينتي الاعتزال: البَصْرة وبغداد.
حاولنا في هذه الطَّبعة تجاوز عثرة الطّبعات السّابقة، بما وجب التّنقيح واقتضت الزّيادة، مثلما تقدمت الإشارة.
ما نودّ توضيحه، أنّ خصوم المُعْتَزلَة عندما كتبوا تاريخ الاعتزال ومقالاته، جعلوا رجاله فرقًا لا طبقات على الوقت أو المقالات، فما جرى داخل الملل والنّحل الأُخرى يمكن أن يُعبر عن اختلافاتهم ومواجهاتهم بمصطلح «الفرقة»، فالزَّيديّة داخل الشِّيعة غير الإسماعيليّة والإماميّة، وكذلك الحال بالنّسبة لغيرهم، لكن ما كان مِن اختلافات داخل الاعتزال لم يُصعد إلى تشخيصه بالفُرَقِ، إنما طبقات، وهذا ما أخذ به مدونو تاريخ الاعتزال مِن المُعْتَزلَة أنفسهم. خُذْ أمثلة للفرق بين الاتجاهين: كتاب «الملل والنّحل» للشهرستاني، أو كتاب «الفرقُ بين الفرقِ» للبغدادي، و«اعتقادات فرق المسلمين والمشركين» لفخر الدين الرّازيّ، ومِن الاتجاه الآخر، خذ مثلاً «طبقات المُعْتَزلَة» للقاضي عبد الجبار(ضمن كتاب فضل الاعتزال)، وكتاب «طبقات المُعْتَزلَة» لابن المرتضى.
لفت الباحث الفلسطينيّ زُهدي جار الله الانتباه إلى عدم دقة تسمية المُعْتَزلَة بالفرق؛ فقد اعتبرهم مدرسة، ويرى أن الأولين عبروا عن اختلافاتهم بالفِرق، لعدم تفريهم أو تمييزهم بين معنى المدرسة، كتيار فكري، والفرقة، فالفرقة «تُشكل لنفسها أنظمة دينيَّة خاصة، تُعرف بها»([53])، وشيوخ المُعْتَزلَة لم يختلفوا بأنظمة دينيَّة، فهم مدرسة داخل الإسلام.
لابد من لفت انتباه القارئ الكريم إلى أنه سيجد ما هو مكرر في قائمة المصادر، بطبعات مختلفة، هذا ما فرضه على المؤلف الاختلاف إلى المكتبات وبمناطق متباعدة، خلال تهيئة مادة الكتاب، وإعادة تنقيحه وزيادته.
أقول: مع تكرار التَّصويب أو التَّصحيح فسيعثر القارئ على خطأ فيه، هكذا قالها الأولون مِن تجربةٍ. قال الأديب والكاتب إبراهيم بن العباس الصُّوليّ (تـ: 243هـ): «المتصفح للكتاب أبصرُ بمواقع الخلل فيه مِن منشئه»([54]). ورويت بما لا يختلف: «والمتصفح للكتاب أبصرُ بمواضع الخلل مِن مبتدئ تأليفه»([55]).
تجدر الإشارة إلى أنَّ مقدّمة الكتاب، بطبعته الأولى، تعرضت للسَّرقة كاملةً، مِن دون زيادة أو نقصان، وهي التي نعتمدها أصلاً لطبعة هذه المقدمة. حيث ظهرت كما هي في كتاب الرَّاهب سُهيل قاشا «المُعْتَزلَة.. ثورة الفكر الحر»، وكانت جريدة «الشَّرق الأوسط» نشرت مادة وافية عن السَّرقة، في ملحقها الثَّقافي، العدد: 11965 والمؤرخ في 5 كانون الأول (ديسمبر) 2010.
ختاماً، عثرتُ وأنا أعمل على إعداد هذه الطَّبعة، مِن الكتاب، على رسالة من الباحث والأديب والشطرنجي العراقيّ، صاحب البرنامج الشهير بالعراق، زهير القيسيّ(تـ: 2012)، حملها لي النَّاشر المُغيب، منذ أربع سنوات(فبراير 2020)، مازن لطيف، فيها إشادة بالكتاب، مع ما أتحفني به مِن تصويبات مهمة، أضفتها لهذه الطّبعة، فالذكر الطيب والشّكر الجزيل لزهير القيسيّ، ودماثته وحرصه، وكذلك لمازن لطيف، حيّاً أو راحلاً.
رشيد الخيُّون
1 أيلول(سبتمبر) 1997
20 تشرين الأول(أكتوبر) 1999
8 كانون الأول (ديسمبر) 2010
25 تشرين الثّاني(نوفمبر) 2023
[1] لأنهم ينفون الصّفات، وعُرف بالتعطيل (انظر: الشَّهرستاني، الملل والنِّحل 1 ص 92). وصُفت كتب عديدة حملت عناوينها هذه الصفة، مثل: «التمهيد في الرّد على الملحدة المعطلة والرّضافضة والخوارج والمعتزلة» لأبي الطيب الباقلانيّ الأشعريّ (تــ: 403هـ)، وكتاب «اجتماع الجيوش الإسلاميَّة على غزو المعطلة والجهميّة» لابن قيم الجوزيّة (تـ: 751هـ)، وكتابه أيضاً «الصَّواعق المرسلة على الجهميَّة المعطلة».
[2] انظر: البغداديّ، الفرقُ بين الفرقِ، ص 101-102. قالها البغداديّ عن أحد مؤسسي الاعتزال المتكلم عمرو بن عبيد الباب «ما ظهرت البدع والضَّلالات في الأديان إلا مِن أبناء السّبايا» (المصدر نفسه، ص 101).
[3] قيل عنهم ذلك؛ لأنهم تابعوا الخوارج في مقالة الخلود في النَّار لصاحب الكبيرة وإنه كافر، أما المعتزلة فقالوا بخلوده في النّار ولم يقولوا بكفره (المصدر نفسه، ص 99).
[4] البلخيّ والقاضي عبد الجبار والجشميّ، فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة، ص 139 .
[5] الشَّهرستاني، الملل والنّحل 1 ص 58.
[6] االمصدر نفسه 1 ص 88.
[7] الآلوسي، حوار بين الفلاسفة والمتكلمين، ص 91.
[8] انظر، أمين، فجر الإسلام، ص 291 و295. مروة، النّزعات الماديّة في الفلسفة العربيّة الإسلاميَّة 1 ص 622.
[9] انظر: مروة، المصدر نفسه 1 ص 578 وما بعدها. عمارة، المعتزلة والثَّورة، ص 53 وما بعدها، وص 61 وما بعدها.
[10] انظر: أمين، ضُحى الإسلام 3 ص 17.
[11] انظر: البلخيّ، والقاضي عبد الجبار والجشميّ، فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة، ص 214 وما بعدها. الجشميّ، عيون المسائل، ص 97 وما بعدها.
[12] النوبختي، فِرق الشِّيعة ص 5. الأشعري، المقالات والفِرق، ص 4.
[13] البلخي والقاضي عبد الجبار والجشميّ، فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة وطبقات المعتزلة، ص 165.
[14] الخيَّاط، كتاب الانتصار والرَّد على ابن الرّاَوندي الملحد، ص 126.
[15] الجشميّ، عيون المسائل في الاُصول، ص 93.
[16] المصدر نفسه.
[17] المصدر نفسه.
[18] المصدر نفسه.
[19] تعني الفلّاح من السّكان الأصليين (جمال جودة، العرب والأرض في العراق ص109). وورد في كتاب الخراج للقاضي أبي يوسف (ص24-25): «فإذا قسمت أرض العراق بعلوجها، وأرض الشام بعلوجها فما يسد الثغور، وما يكون للذرية والأرامل بهذا البلد وبغيره من أرض الشّام والعراق». وفي القاموس: العلج يعني الرَّجل من الكفّار من غير العرب، والظّاهر أن هذا اللّقب أو النَّبز ظلّ يُطلق على فلّاحي البلدان المفتوحة حتى بعد إسلامهم.
[20] الجاحظ، البيان والتبين 1 ص 398.
[21] البلخيّ والقاضي عبد الجبار والجشميّ، فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة، ص 214.
[22] انظر: الملل والنِّحل 1 ص 48.
[23] الجشميّ، عيون المسائل، ص 100.
[24] انظر: المصدر نفسه.
[25] انظر: الأشعريّ، مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين، ص 280.
[26] القاضي عبد الجبار، شرح الأُصول الخمسة، ص527. المغني في أبواب التوحيد والعدل، كتاب خلق القرآن 7 ص 3. وأتينا على ذلك في كتاب جدل التنزيل، باب الباب الثاني خلق القرآن، الفصل الأول تاريخ المقالة.
[27] انظر: الخليليّ، الحقّ الدَّامغ، ص 105 وما بعدها.
[28] راجع كتابنا لا إسلام بلا مذاهب، فصل: المذهب السّابع.
[29] المظفر، عقائد الإمامية، ص 29.
[30] المصدر نفسه، ص 27 -28.
[31] المصدر نفسه، ص 21.
[32] الجاحظ، كتاب الحيوان 6 ص 343.
[33] الحميري، الحُور العِين، ص 284.
[34] البلخيّ والقاضي عبد الجبار والجشميّ، فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة ص 70. قال البلخيّ: «كتب بذلك إليّ أبو الحسين الخياط». انظر ما يشبه هذا الكلام: الخياط، كتاب الانتصار والرَّد على ابن الراوندي الملحد، ص 7.
[35] القاضي عبد الجبار، المغني في أبواب التَّوحيد والعدل كتاب خلق القرآن 7 ص 3 و 224.
[36] ابن الراونديّ، فضيحة المعتزلة، ص 111.
[37] القاضي عبد الجبّار، شرح الأُصول الخمسة، ص 588.
[38] المصدر نفسه، ص589.
[39] الطّبريّ، تاريخ الأمم والملوك 7 ص 525-526.
[40] الخصيبي، ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك 3 ص 590-591، ابن عساكر، تبيين كذب المفترى، ص 119.
[41] المسعودي، مروج الذَّهب 4 ص 314-315 .
[42] المعروف عن النّبط أنهم سكان البطائح في جنوب العراق بين الكوفة والبصرة، وكانت مفردة النّبطي أو العلج تعني الشتيمة، وقد حلت محلها، في العصر الحاضر، مفردة معيدي أو شروكَي.
[43] ابن طيفور، كتاب بغداد، ص 22.
[44] النَّديم، الفهرست، ص 401 -402.
[45] انظر: المصدر نفسه، ص 217. كذلك انظر: الأصفهانيّ، محاضرات الأدباء ومحاورات الشُّعراء والبلغاء(ما جاء في المذاكرة والمجادلة)
1 ص 72 وما بعدها.
[46] البغداديّ، الفقيه والمتفقه 2 ص 56.
[47] الأشعريّ، مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين، ص 460.
[48] ابن عبد البرِّ، جامع بيان العِلم وفضله 1 ص 784 ومختصره، ص 115 (القاهرة) و205 (بيروت). ابن الأزرق، بدائع السِّلك في طبائع المُلك 1 ص 213.
[49] انظر: محمد العبدة وطارق عبد الحليم. المُعتزلة بين القديم والحديث، ص2-3.
[50] أتينا على تفاصيل سيرهم وظروف قتلهم ضمن كتاب «صرعى العقائد.. المقتولون بسبب ديني إسلاميّ قديمًا وحديثًا(مركز المسبار ودار المدى 2023).
[51] الجاحظ، كتاب الحيوان 1 ص 88.
[52] البغداديّ، موضح أوهام الجمع والتّفريق 1 ص 14.
[53] جار الله، المعتزلة، ص 1.
[54] الثّعالبيّ، الإعجاز والإيجاز، ص 113.
[55] الحَمويّ، معجم الأدباء(إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب) 1 ص 11.