-1-
تكشف اللحظة الاجتماعية الراهنة عن مشكل تناقض مع الفقه وفقه المرأة بوجه خاص. يمثل الفقه في عمومه واحدًا من الروافد “التحتية” للثقافة ويمثل فقه المرأة، علاوة على ذلك، رافدًا فوقيًا، من روافد القانون، وهو ما يمنحه حضورًا إشكاليًا أوضح.
تعاني الثقافة من حالة ازدواجية مربكة، وهي تجمع بين مكوناتها التاريخية الموروثة، ومفردات مكتسبة من الإشعاع الحداثي، صارت تجاور هذه المكونات وتتدافع معها. لم تفلح المكونات التراثية في صد الإشعاع الحداثي، فيما لا يبدو هذا الإشعاع كافيًا -حتى الآن على الأقل- لإزاحة المكونات التراثية.
بوجه عام، ظل المكون التراثي قادرًا على استثارة الحساسيات التقليدية الخاصة بالمرأة، والموروثة من ثقافة الفقه ذات الطابع الذكوري، والتي تكاد تختزل المرأة في مسألة عرض خاص بالرجل، لكن المكون الحداثي ظل قادرًا على إثارة الوعي بالمضامين الإشكالية التي تنطوي عليها المدونة الفقهية.
لا أحاكم النظام الذكوري هنا من منظور قيمي مطلق (أخلاقي/ عقلي) بل من زاوية مقبوليته في ثقافة اللحظة الاجتماعية الراهنة، التي لم تعد هي ذاتها ثقافة التراث التقليدي أحادية التكوين.
بوجه عام، وحتى في ثقافات الاجتماع الأكثر حداثية، لا تزال المفاهيم الذكورية تفرض حضورًا نسبيًا في علاقات الزواج، وتنعكس على الوضعية الاقتصادية والمجتمعية والقانونية للمرأة. لكن في المحيط الإسلامي، وبالمقياس النسبي ذاته، لم تعد لهذه المفاهيم سلطتها الطاغية ومساحتها التقليدية الواسعة.
في هذا السياق يظهر الدور السلبي للتيار الأًصولي في تصعيد الارتباك الثقافي الناجم عن الازدواجية، وتعميق مشكل التناقض: تنطلق الأًصولية من موقف مبدئي مضاد لفكرة الحداثة، ومخاصم لنمط التدين الشعبي. وهي تعبر عن الروح السلفي الساري في المدونة، تستدعي خياراتها الفقهية الأكثر رجعية (تشددًا) خصوصًا في مسائل الأحوال الشخصية والمرأة، التي تحظى بموقع مركزي داخل الخطاب الأصولي، وتبدو أحيانًا وكأنها محور من المحاور الأصلية للدين. وهي مسلكية تحتاج إلى نقاش تفسيري من زوايا علم النفس الاجتماعي والديني والمعرفي.
تاريخيًا، اندمج الفقه بسلاسة مع العرف داخل المحيط الإسلامي طوال المراحل السابقة على الحداثة. وهي ظاهرة مفهومة بما أن الفقه نشأ انعكاسًا لثقافة البنى الاجتماعية التي لم تشهد تغيرًا جذريًا منذ عصر التدوين. لكن العرف، وهو يشتغل من خلال آليات التدين الشعبي، يظل قادرًا على احتواء الفقه وضبطه على موجات الواقع الاجتماعي المتغيرة.
مع الاهتزازات الطفيفة التي جلبتها الحداثة المبكرة في الهياكل التحتية (الاقتصادية/ العقلية/ الاجتماعية) أظهر التدين الشعبي مرونته الطبيعية، وتجاوب ضمنيًا مع حركة التغيير العام التي بدأت منذ القرن التاسع عشر تحت عنوان النهضة، بما في ذلك التحولات النسبية في وضعية المرأة. والموجات الأصولية اللاحقة لم تفلح في إيقاف هذه الحركة، ولكنها نجحت في تبطيء إيقاعاها.
-2-
بنى الفقه في عصر التدوين، نظرية متكاملة في الزواج، تأسيسًا على مرجعيات نصية وغير نصية متعددة. وبسبب المذهبية والتنوع الناجم عن التمدد الجغرافي، احتوت النظرية على تباينات فرعية تكشف عن تبعية التشريع الدائمة للاجتماع. لكنها ظلت -في مجملها- تحمل السمات الذكورية للاجتماع العربي في القرن السابع كما سجلها النص. وهي سمات مشتركة في المحيط السامي عمومًا، وتظهر بوضوح في النصوص البابلية والآشورية والعبرية.
بالطبع يمكن الحديث عن استبعاد القرآن لممارسات جاهلية متعددة، وعن تعديلات ثانوية متنوعة تصب في مصلحة المرأة، لكنه لم يخرج في خياراته التفصيلية عن الأعراف السائدة للزواج في الجزيرة العربية. وبشكل مجمل، كان النظام الذي تبناه هو النظام الاعتيادي الأكثر شيوعًا في الجزيرة وخصوصًا في قريش.
بدورها، لم تخرج النظرية الفقهية عن الإطار العام الذي رسمه القرآن، لكنها، بطابعه التفصيلي، ستبدو أكثر منه تعبيرًا عن نظام الهيمنة الذكورية، وهو ما يظهر بوضوح في معالجاتها التقنية الموسعة لأبواب الولاية، والقوامة، والعصمة، والحجاب، والتأديب، ويمكن قراءته إجمالاً في “التعريف” الذي تقدمه النظرية لعقد الزواج:
بحسب التهانوي في “كشاف اصطلاحات الفنون” الزواج “عقد وضع لملك المتعة”: موضوع العقد المتعة، وغرضه التملك. المالك هو الرجل أما المرأة فليست طرفًا في العقد، لأن طرفيه الزوج وولي المرأة التي هي “محل” الاتفاق الواقع عليه تراضي الطرفين بالإيجاب والقبول، مثلما يكون الشيء المبيع محلاً للرضا في عقد البيع بمصطلح القانون المدني.
يكشف التعريف عن ثقافته الاجتماعية ذات الجذور السامية، التي اعتبرت المرأة المتزوجة ملكًا لزوجها والفتاة العذراء ملكًا لأبيها، وأباحت للزوج المدين أن يبيع زوجته عن استحقاق سند الدين كما في قانون حمورابي، وتعاملت مع الزوجة كجزء من التركة يرثها أبناء الزوج المتوفى كما في تقاليد بعض القبائل العربية، أو يرثها إخوته كما في النصوص العبرية.
تظهر هذه الثقافة في لغة النصوص المنسوبة إلى الرسول، ففي حديث المرأة التي وهبت نفسها للنبي “فخطبها رجل فقال رسول الله (ص): هل معك من القرآن شيء؟ قال: نعم. قال: اذهب فقد ملكتها بما معك من القرآن، ويضيف الراوي، جاء في بعض طرقه: “ملكناكها، ومكناكها، وأملكناكها وأنكحناكها وزوجناكها وأبحناكها”.
تواتر هذا المفهوم في كتب الفقه وتحول إلى مصطلح ثابت، ففي الفقه المالكي –مثلًا- نقرأ في كتاب “الإشراف على نكت مسائل الخلاف” أن النكاح “ينعقد بلفظ الهبة، والبيع، وكل لفظ تمليك يقتضي التأبيد، دون التأقيت.. ودليلنا قول الرسول (ص): قد ملكناكها بما معك من القرآن. ولأن لفظ تمليك لا يقتضي توقيتًا، فأشبه لفظ النكاح والتزويج، ولأنه عقد معاوضة فجاز أن يعقد بأكثر من لفظين كالبيع”. ويؤكد ابن العربي في “أحكام القرآن” هذا المعنى منكرًا على الشافعي قوله: إن النكاح لا ينعقد إلا بلفظ الإنكاح والتزويج. وبحسب ابن قدامة في “المعنى” قال الثوري، والحسن بن صالح، وأبوحنيفة وأصحابه، وأبو ثور، وأبو عبيد، وداود: ينعقد بلفظ الهبة والصدقة والبيع والتمليك.
وبعض الفقه يدخل الزوجة في نطاق مفهوم “ما ملكت اليمين”، ففي معرض النقاش حول الآية (24) من سورة النساء: “والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم” يشير القرطبي في “الجامع” قالوا: معناه نكاح أو شراء، هذا قول أبي العالية، وعبيدة السلماني، وطاوس، وسعيد بن جبير، وعطاء، ورواه عبيدة عن عمر، فأدخلوا النكاح تحت ملك اليمين.
تتكرر الإشارة إلى الزواج على أنه عقد معاوضة، كما تتكرر المقايسة بينه وبين عقد البيع. المهر في عقد الزواج هو العوض الذي يدفعه الرجل مقابل المتعة، ما يعني أن جهة الرجل هي الجهة الوحيدة المعتبرة في المتعة، إن المتعة هنا متعة الرجل، وكأن المفترض أن المرأة لا تستمتع، أو لا يصح لها أن تستمتع، أو –وهذا هو المفهوم الواقعي حسب الثقافة– لا يجوز التصريح بأنها تستمتع. هي فقط موضوع المتعة التي تتقاضى نظيرها أجرًا هو المهر.
يشرح القرطبي هذا المعنى تعليقًا على آية “فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة” بقوله: “الاستمتاع التلذذ والأجور المهور. وسمي المهر أجرًا لأنه أجر الاستمتاع، وهذا نص على أن المهر يسمى أجرًا، وقد اختلف العلماء في المعقود عليه في النكاح ما هو: بدن المرأة، أو منفعة البضع، أو الكل؟ ثلاثة أقوال، والظاهر المجموع، فإن العقد يقتضي ذلك”.
ومن الواضح أن اختلاف “العلماء” -كما ينقل القرطبي- لا يدور على مفهوم المتعة وكون المرأة موضوعًا له من حيث المبدأ، أو كونه يستغرق أغراض الزواج، بل يدور على “محل” الاستمتاع من المرأة، هل هو البدن عمومًا أم البضع أي الوطء تحديدًا؟ وهو اختلاف لا يخرج بالمسألة عن نطاق المتعة الجنسية. فالبدن في نص القرطبي لا يقابل –مثلًا- بالروح أو النفس أو المشاعر، بل يقابله الوطء، مما يصرف معنى البدن في النص إلى أشكال الاستمتاع الجنسي دون الجماع. في مجمل المشهد تغيب المضامين الإنسانية والوجدانية ذات البعد النفسي التي يستوعبها الزواج كنظام عريق في الاجتماع البشري، مدعوم من قبل الدين.
في هذا السياق تحضر فكرة المقارنة مع النصوص القرآنية الكلية التي تعبر عن المطلق الأخلاقي مثل “ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة”.
ويحضر السؤال عن كيفية التوفيق داخل القرآن –كنص واحد- بين النصوص الكلية والنصوص التشريعية.
النصوص الكلية ذات النفس الأخلاقي تعبر عن المعنى الجوهري للدين وهي تعرضت للتحجيم على يد الفقه بغرض تطويعها لأغراضه التشريعية، من خلال آليات تقنية متعددة (التأويل/ النسخ/ تخصيص العام/ تقييد المطلق/…)، أما النصوص التشريعية فتعبر عن حقائق الاجتماع في لحظة النص، التشريع بطبيعته يعكس الاجتماع كما هو في زمان ومكان معينين، بينما الأخلاق تعكس القانون الكلي المفارق، ولذلك فهي، وليس التشريع، ما يمثل الجوهر الثابت للدين.