-1-
يُطرح “تطبيق الشريعة” من قبل الحركة الأصولية كهدف نهائي يختزل معنى الدين، ويلزم تحقيقه بجميع الوسائل بما في ذلك استخدام العنف، وهو طرح يكشف عن الأبعاد الإشكالية لمسألة الشريعة في سياقها السياسي والاجتماعي المعاصر. فالحركة الأصولية لم تقدم ما يمكن وصفه باجتهاد واضح على المستوى النظري لتجاوز المعضلات الجذرية التي تنطوي عليها المسألة، أو على المستوى العملي لمواجهة الصعوبات التفصيلية التي جلبها التطور الاجتماعي والاقتصادي والسياسي العام. والتجارب العملية للحركات الأصولية التي وصلت إلى الحكم أسفرت إما عن نقص في جدية التعاطي مع المسألة قياسًا إلى حجم الشعار في أدبياتها المطروحة، مما يفضح أولوية الغرض السياسي (كما في نموذج الإخوان)، أو عن اضطراب عاجز يكشف عن حجم العجلة وغياب الوعي بمعطيات الواقع المتغير (كما في النماذح الداعشية المحدودة).
لكني هنا لست معنيًا بمناقشة المسألة من زاوية الأداء السياسي والاجتماعي للحركة الأصولية، بل بتناول الأصول النظرية للمشكل كما ورثه العقل الأصولي من المدونة الفقهية ومن نسق التدين التاريخي السائد بوجه عام. سأعيد هنا مساءلة النسق وسحبه إلى منطقة الأسئلة الأولى.
ما الشريعة، وما موقعها من بنية الدين؟، أين المشكل؟.
-2-
الشريعة قانون، والقانون متغير بطبيعة الاجتماع؛ والمتغير ليس من جوهر الدين بما هو مطلق.
هل يجوز أن يكون الدين قد أسبغ إطلاقيته المؤبدة على ما هو بطبيعته نسبي ومتغير، بحيث يفرض على القانون أن يكون “واحدًا” على المستوى الجغرافي الكوني، وأن يكون “ثابتًا” على مدى التاريخ؟
نعلم بالاستقراء أن الواقع الاجتماعي في بيئة معينة كان دائمًا هو الذي ينتج القانون، ثم يعود فيفرض عليه أن يتغير كي يعكس التطور في حاجات وعلاقات البشر تبعًا للتغير الدوري في الظروف الطبيعية والاقتصادية والسياسية والعقلية، وهو ما يفسر تعددية النظم القانونية وتطورها عبر الزمن. هل يستطيع القانون لمجرد التحاقه بالدين واكتسابه وصف الشريعة أن يجعل من ذاته استثناء من هذا الاستقراء؟
تاريخيًا، وكما يؤكد السجل التشريعي الديني والإسلامي بوجه خاص، “لم تكن أحكام المعاملات الفرعية تصدر في شكل لائحة مكتملة سابقة التجهيز عن مخطط اشتراعي مفارق للواقع، بل كانت تنشأ تدريجيًا كرد فعل لمعطيات البيئة الاجتماعية التي ظهرت فيها الديانة وجوابًا على أسئلتها المحلية، سواء بالتوافق مع مفردات العرف السائد كما في الغالب، أو بالتناقض مع بعض هذه المفردات بشكل جزئي. وفي هذه الحالة الأخيرة كان التناقض يعبر عن نقطة تحول نضجت شروطها الظرفية قبل الديانة أو بسببها. وما يؤكد هذا السجل أيضًا هو أن الواقع الاجتماعي المتغير فرض على شريعة الإسلام مثلما فعل بشريعة التوراة، أن تتنحى عن هيمنتها التاريخية في المجتمعات الإسلامية مع ظهور الدولة الحديثة، عبر مسار تدريجي طويل، ظلت الحاجات الفعلية من خلاله تملي علاقاتها الجديدة في أرض الواقع قبل أن تتحول إلى تشريع مكتوب”.
-3-
إسلاميًا، وبعد إغلاق النص التأسيسي، ستظهر “عملية” التشريع الفقهي الواسعة التي صنعت مفهوم “الشريعة”. وهي عملية وثيقة الارتباط بنشوء الدولة، التي ظهرت وتطورت استجابة لتطورات الاجتماع السياسي بعد مرجلة التأسيس. كان مفهوم الشريعة ناتجًا لاندماج الفقه والدولة، وهما ظاهرتان متزامنتان متداخلتان من حيث النشوء والتطور، وفي واقع الأمر كان الحضور المتواصل للدولة هو الذي كرس مفهوم الشريعة، ولم تكن المسألة أن حضور الشريعة في النص هو الذي أوجب إنشاء الدولة لتقوم بتطبيق الشريعة كما سيقول التنظير السلفي لاحقًا.
ما هو حاضر في النص –باستثناء المطلق الإيماني الأخلاقي- هو معالجات تفصيلية لواقعات محلية ذات طابع آني خاص لمجتمع النص، وتم استصحابها –في ظل وبسبب الدولة- إلى المجتمع الإسلامي الجديد، ثم تمديدها –في ظل وبسبب الفقه– كقواعد نهائية ثابتة.
في القرن الثاني ظهرت فكرة “الدولة حارسة الدين” بتأثيرات فارسية. وساهم ذلك في تزايد نزعة التديين التي أخذت تتمدد إلى الثقافة. وفي هذا السياق ستظهر تنظيرات الشافعي لمفهوم “السنة” عبر تحويل أحاديث الآحاد إلى نصوص ذات حجية مكافئة لحجية القرآن، وهي العملية التي جرت بالتزامن مع عملية التشريع الفقهي وتداخلت معها.
وعندنا انتهت عملية التحديث في أواخر القرن الثالث، كان للفقه حضور ملموس على المستوى الموضوعي (تراكم كمي للأحكام)، وعلى مستوى السلطة (كمرجعية معنوية يستند إليها القضاء والفتوى)، كما على مستوى التنظير لأدواته المنهجية (مبادئ الأصول المبنية أساسًا على تصعيد حجية السنة/ الحديث، وحجية الصحابة/ الإجماع). وهو تصعيد مذهبي أي اختياري مقابل لخيارات تدين مخالفة كتصعيد الشيعة لحجية أهل البيت، وتهبيط الإباضية لحجية قول الصحابي. لكن الفقه سيحتاج لاحقًا إلى قرن على الأقل كي يتبلور بخصائصه المعروفة التي سينغلق عليها في أواخر القرن الرابع، والتي ستمثل في مجملها الملامح النهائية للشريعة.
عمليًا أسفرت العملية “الفقه- حديثية” عن تكون بنية قانونية دينية هائلة الحجم بالقياس إلى البنية الأصلية التي انغلق عليها النص التأسيسي.
والمعنى المقصود تأكيده هنا هو أن الفارق بين البنيتين كميًا ونوعيًا، يشرح حقيقة الحضور الطبيعي للاجتماع في التدين، فهذه الكتلة الفقهية الزائدة على البنية الأصلية، وهي صناعة اجتماعية إجمالًا، تغطي الجانب الأكبر من مساحة الشريعة.
-4-
يرتبط حضور القانون عمومًا بوجود حد أدنى من الاجتماع المنظم، ومن ثم فالارتباط وثيق بين فكرة القانون وفكرة الدولة بوصفها شكلًا متطورًا من أشكال التنظيم الاجتماعي. وعلى الرغم من أن التشريع المكتوب لا يستغرق صور القانون الذي تتعدد أشكاله العرفية ذات القوام الشفهي، يظل التشريع المكتوب الشكل القانوني الأكثر ارتباطًا باجتماع الدولة، وهو ارتباط قديم لم يبدأ مع عصور الحداثة السياسية، ويمكن قراءته في التراث البابلي والآشوري والمصري والروماني، وهي دول عرفت أنماطًا من التدين.
لم تصدر الدولة الإسلامية قط قانونًا مكتوبًا، ولم تحضر هذه الفكر على أي مستوى نظري في الفقه أو الكلام أو الأصول أو حتى في الأدب السلطاني (بعض الروايات تشير إلى أنها أثيرت على المستوى السياسي لوهلة خاطفة من قبل أطراف متأثرة بالثقافة الفارسية الأقدم ارتباطًا بفكرة الدولة: اقترح ابن المقفع على المنصور إصدار تشريع جامع يلتزم به القضاة. وفكر المنصور في تعميم موطأ مالك كقانون عام للدولة. لكن الدولة لم تقدم على هذه الخطوة.
ولدت الدولة من رحم اجتماع سياسي قبلي، محكوم بثقافة شفوية ونظام قانوني عرفي، ولوقت طويل لاحق، ظلت خصائص النشأة تطبع تكوين الدولة وأداءها القانوني الذي ظل شفويًا وعرفيًا على الرغم من تدوين النص القرآني بأحكامه الفرعية المحدودة، واستمر ذلك حتى ظهور الحديث وتبلور الفقه، فبدأت مسألة العرف داخل النظام القانوني في التناقص، وحلت محلها منظومة الفقه التي تضمنت النصوص وهيمنت عليها. وعلى الرغم من كونها مكتوبة فإن التعاطي معها ظل يستصحب آليات الثقافة الشفوية التي تعتمد على الانتماء المذهبي والرؤية الثقافية للقاضي أو المفتي.
عمليًا، مثل الفقه –وهو مدونة بالغة الضخامة موزعة على مجموعات متعددة ومتضاربة مذهبيًا- قانونًا عامًا في المحيط الإسلامي، لكن الفقه لم يتوقف لتبرير هذه الشفوية الموزعة، بمعنى أنه لم يقف في ظل سياقه الثقافي، على البعد الإشكالي لغياب فكرة قانون مكتوب موحد اعتمادًا على حضور فكرة الشريعة.
من أحد جوانبه الواضحة، يمكن شرح هذا البعد الإشكالي على النحو الآتي: إذا كان القانون ضروريًا لقيام الدولة، فإن النظام الفقهي لا يغطي فكرة القانون بكاملها. لأن فكرة القانون تقوم على افتراض حد أدنى من “تعميم” القواعد في محيط سريانها المكاني، كي يتمكن القانون من تحقيق هدفه كعامل ضبط داخل المجتمع. معنى ذلك أن النظام الفقهي التقليدي لا يشبع جوهر المعنى القانوني، أو أنه ظل يمثل شكلًا أقل نضجًا من أشكال القانون.
جرى توارث هذه الحالة داخل العقل الإسلامي باعتبارها من خصائص التراث الفقهي ذاته. وحتى بعد التحول إلى الدولة الوطنية الحديثة والوقوف على فكرة القانون كتشريع مكتوب موحد، ظل الوعي الفقهي (الفقهاء) يضمر توجسًا من الفكرة، فيما ظل الوعي العام -بما في ذلك وعي الدولة- يستحضر سلطة الفقه كقانون مواز يمثل “الشريعة” ويطلق أعراضًا من ازدواجية خطرة على الثقافة والقانون والروح العام.