-1-
كقاعدة عامة في السياق الكتابي، تمر الديانة بمرحلتين تأسيسيتين، قبل أن تنتقل إلى المرحلة الثالثة وهي مرحلة “التجميد”، حيث تتحول الديانة إلى عدد من “المدونات” المذهبية، تشير كل واحدة منها إلى نسق أو نظام نهائي مغلق، ومحصن بسلطة ذات طابع مؤسسي.
السؤال المطروح هنا هو: متى وكيف يتغير النظام الديني بعد الدخول في مرحلة التجمد؟ وهو سؤال أوَّلي يستدعي الوقوف على طبيعة هذا النظام وعلاقته المركبة بالنظام الاجتماعي، ويُعد، لذلك، مدخلًا ضروريًا لمناقشة المقاربات التجديدية المطروحة في السياق الإسلامي الراهن.
-2-
ينشأ النظام الديني كإفراز مباشر للنظام الاجتماعي السائد في حقبتي التأسيس. لكن النظام الديني يتم تثبيته بفكرة المقدس، بينما النظام الاجتماعي لا يكف عن التغير بطبيعة الاجتماع وقوانين العالم. وهو ما يجعل التناقض بين النظامين –عند لحظة ما- ضروريًا.
في المراحل المبكرة يكون التناقض طفيفًا، ومن ثم يمكن استيعابه من داخل آليات النظام الديني. وبوجه عام يظل التناقض قابلًا للاستيعاب من داخل هذه الآليات، طالما كان التغير الاجتماعي دون حد التطور الجذري قياسًا إلى اجتماعيات التأسيس.
الوصول إلى حد التناقض الجذري يؤشر إلى أن النظام الديني لم يعد يشبع حاجات النظام الاجتماعي، والنظام الاجتماعي لم يعد يحتمل إكراهات النظام الديني. هنا يمتنع استيعاب التناقض بآليات النظام الديني التقليدية، ويتحول التناقض إلى صدام (سلسلة من المعارك الضمنية أو الصريحة) تسفر تدريجيًا عن “تراجع” النظام الديني. القانون الذي يحكم هذه الحالة هو بعينه قانون التطور، وهو قانون طبيعي: تؤدي حركة الاجتماع إلى ظهور التناقضات داخل العالم، لكن التناقضات تتنافى بنزوع التناغم عند نقطة بعينها. يعمل القانون لصالح الجديد على حساب القديم (النموذج الكلي لديالكتيك هيجل).
يجري التراجع –إذن- كرد فعل لقوة الضغط الاجتماعي ويتناسب معها طرديًا. ولذلك فهو يمثل الآلية الوحيدة “لتغيير” النظام الديني، الذي لا يقدم تنازلات طوعية على مستوى السلطة أو في منطوقه النظري بعد دخوله في مرحلة التجميد. مما يقلل من أهمية التعويل على مبادرات الفكر التجديدية التي تطرح قبل اكتمال التطور.
تاريخيًا، لم يحدث تطور جذري ضاغط قبل مراحل الحداثة التي بدأت مع العصر الصناعي، وتبلور الرأسمالية، ونتائج العلم التجريبي. طوال المراحل السابقة على الحداثة، كانت “التطورات” الكلية تنتمي إلى طبيعة الهياكل القديمة: البنى الاقتصادية ظلت رعوية أو زراعية ريعية، والبنى الاجتماعية ظلت عشائرية قبلية أو شمولية إجمالًا، فيما ظلت البنى العقلية تدور في فلك التقاليد اليونانية السابقة على التجربة. التطور الحداثي الذي فرض التراجع على المسيحية الغربية، لم يواجه المحيط الإسلامي بعد، إلا بشكل “جزئي” يكفي لترجمة التناقض إلى حالة توتر، وليس إلى صدام تراجع صريح.
-3-
وفقًا لهذا التحليل، النظام الديني جزء من النظام الاجتماعي، وبالتالي فـ”التغيير الديني” عملية اجتماعية تخضع لقوانين الاجتماع الطبيعي البطيئة المعقدة. تاريخيًا ومنذ البداية، لم يكن الدين مجرد فكرة “خالصة” ولا خيارًا “فرديًا” محضًا، بل تمثل على الدوام في شكل نظام (واقعي/ جماعي)، وفرض نفسه كسلطة شمولية تهيمن على مؤسسات المجتمع العضوية (العائلة، العشيرة، القبيلة، الدولة) وتتداخل مع أنساقه التوجيهية (العرف/ الأخلاق/ القانون).
حضور الدين بما هو “نظام” اجتماعي يبدو أكثر وضوحًا في النسق الكتابي وخصوصًا في الإسلام، بسبب فكرة الشريعة التي تبسط سلطة الدين على مساحة أوسع من الاجتماع، ما يعني تصعيد قابليات التناقض.
في السياق الكتابي اشتغلت فكرة التطور الاجتماعي على الديانات الثلاث بدرجات متفاوتة، تعكس تفاوت الميراث والضغوط التي تعرضت لها كل ديانة بعد التجميد:
اليهودية –التي كانت بالأساس ديانة تشريعية- واجهت بطابعها الإثني الضيق بعد مرحلة التجميد، سلسلة من التطورات والضغوط الاجتماعية الهائلة (سياسية وثقافية إجمالًا) تفسر حجم وشكل حضورها الراهن. وفي تصوري أنها كانت مرشحة للاندثار تحت هذه الضغوط لولا انبثاق المسيحية وتبنيها للكتاب العبري كجزء من كتابها المقدس.
المسيحية –التي بالغت عبر هيمنة الكنيسة في الاستيلاء على النظام الاجتماعي- تقدم نموذجًا بارزًا لتغير النظام الديني تحت الضغط الاجتماعي: حركة التجديد البروتستانتي، التي فرضت نفسها على الرغم من مقاومة الكنيسة، كانت استجابة من قبل الديانة لضغوط التطور “النسبي” الاقتصادية والعقلية التي أخذت تتراكم في أوروبا بعد القرن الثالث عشر. استجابة جزئية، قياسًا إلى حركة التراجع “الواسعة” التي ستفرض على المسيحية لاحقًا بفعل تفاقم التطور وتحوله إلى انقلاب جذري شامل.
عند القرن التاسع عشر، كانت المسيحية قد انسحبت –تقريبًا- من المساحة التي سيطرت عليها طوال العصور الوسطى في المجالين العام والخاص، وفي هذا السياق تبرز أهمية الدور الذي لعبته الكنيسة نيابة عن الديانة كمؤسسة جامعة تملك صلاحيات تمثيلية ذات طابع إنشائي. استنادًا إلى هذه الصلاحيات أدارت الكنيسة عملية انسحاب منظمة للديانة من النظام الاجتماعي (تخلت كليًا عن المجال العام لصالح الدولة العلمانية، أما المساحة التي تركتها من المجال الخاص فأعيد توزيعها بين الدولة والأفراد). وعبر مناورات تأويلية جرى تقنين الانسحاب على المستوى النظري (بنية المدونة المكتوبة) في شكل تنازلات معرفية ولاهوتية صريحة، طالت مبدأي الحصرية والتأبيد.
-4-
إذا كان التغيير الديني ينتج فعليًا بضغط التطور الاجتماعي، فإن أي مقاربة تجديدية تطرح قبل اكتمال التطور، تبقى مجرد مقترح نظري يحتاج إلى إقرار. في السياق الإسلامي يثير غياب المؤسسة الجامعة مشكل الصفة التمثيلية: من الذي يمثل الإسلام بحيث يمتلك صلاحية اقتراح وإقرار تعديلات جوهرية في بنية المدونة المكتوبة؟
لم يسند النص صلاحيات “إنشائية” بعد النبي المؤسس إلى أي هيئة أو فرد، لكنه يلزم الجميع بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهو ما صار يفهم كنوع من التمثيل على الشيوع للديانة، ويسهم في توليد الفرق والجماعات وتثبيت المعنى الأصولي. وقد جرى تكريس هذا الفهم في ظل التداخل المبكر بين الديني والسياسي في مرحلة التأسيس الثانية (حقبة التدين) التي أسفرت بشكل نهائي عن ربط الدين بالدولة (إسناد دور مؤسسي للدولة كحارسة للدين) وربطه بفكرة الشريعة (إسناد دور مؤسسي للفقه كشارح للشريعة).
عند إغلاق الديانة، صار الفقه (الفقهاء) يتقاسم مع الدولة الأدوار التقليدية للمؤسسة الدينية باستثناء الصلاحيات الإنشائية المعروفة لدى الكنيسة الكاثوليكية. وبعد تراجع الدولة (الإسلامية) الحارسة ظل الفقه يحافظ على سلطته المعنوية الموروثة (حماية اللاهوت/ تفسير الشريعة/ خدمة الطقوس). وهي السلطة التي سيُجرَى تأميمها لاحقًا من قبل الدولة (الوطنية) التي حولت الفقهاء إلى هيئات إدارية ملحقة بالجهاز الحكومي، وعادت في إطار عصري مخفف إلى تقمص دور الدولة الحارسة للدين.
يشار –أحيانًا- إلى هذه الهيئات بوصف المؤسسة الدينية. وهي إشارة مجازية وغير دقيقة؛ ففضلًا عن افتقارها إلى تفويض نصي لتمثيل الديانة، لا تحظى هذه الهيئات بقبول جمعي داخل المحيط الإسلامي المنقسم أصلًا على المستوى المذهبي والسياسي، والواقع –الآن- تحت ضغوط مزدوجة من قبل الطرح الأصولي والإشعاع الحداثي معًا. وهي من وجهة النظر الأصولية جهات متساهلة وخاضعة لأغراض الدولة “العلمانية”، فيما تبدو سلفية وجامدة إلى أبعد مدى من وجهة نظر الحداثة.
عمليًا، وعلى الرغم من توافقها المعلن مع التوجه الحداثي للدولة، تمتنع الهيئات الرسمية عن تقديم طرح تجديدي جذري (يتجاوز الحلول الفقهية الجزئية)، لكنها تواصل دورها “الوصائي” حيال أي مقاربة تغييرية داخلية أو خارجية.
بالنسبة للدولة، الموقف أكثر تعقيدًا: فهي لا تبدو مؤمنة تمامًا بدورها الديني الذي تقمصته لأسباب وأغراض سياسية. ولا تبدو واثقة من قدرتها على اقتحام معضلة التجديد الذي يوافق ميولها الحداثية. وإضافة إلى انشغالها الدائم بمشاكل “ذاتية” تظهر ترددًا واضحًا أمام الضغوط الأصولية المتفاقمة، التي صارت تسحب من الرصيد المعتدل للتدين الشعبي العام.
مع ذلك، وعلى الرغم من عوامل التعرية (السياسية/ الاقتصادية/ الثقافية) التي خصمت من حضورها التقليدي الطاغي، لا تزال الدولة في المحيط الإسلامي العربي تتوافر على زخم سلطوي يكفي لإنتاج مساهمات أكثر فاعلية في قضية التغيير الديني. لا أعني -بالطبع- استدعاء مزيد من الكوامن الشمولية، بل استدعاء الطبيعة التحفيزية لأدوار الدولة في عملية التطوير العام، بما في ذلك الثقافة.