-1-
ظهرت ازدواجية السلطة في السياق المسيحي قبل تحول الدولة الرومانية إلى الديانة الجديدة في أواخر القرن الرابع، حيث كانت الكنيسة قد تبلورت كإطار تنظيمي جامع للمسيحيين في مركز الإمبراطورية قبل انتهاء القرن الثاني. وعلى الرغم من التخفف من إلزامية الشريعة العبرية، والإقرار بشرعية القانون الروماني، كشفت الازدواجية عن إشكالياتها المبكرة بسبب طبيعة المسيحية كديانة حصرية صارت تمثل تهديدًا للنظام الديني السائد والقائم على التعددية، وظهر مشكل التناقض بين الإيمان المسيحي والوطنية الرومانية التي كانت تتخذ –بدورها- مظهرًا دينيًا شكليًا.
تحول الدولة إلى المسيحية لم يؤد إلى انتهاء الازدواجية بسبب رسوخ العلمانية في التراث القانوني الروماني، مع الغياب النسبي لفكرة الشريعة. لكنها ستظهر بشكل مختلف، وستكشف عن إشكاليات جديدة، في ظل تصاعد الكنيسة وتفاقم صلاحياتها مقابل الدولة. تكرست الازدواجية بشكل حاسم مع تنظيرات أوغسطين التي أقرت بوجود السلطتين مع التمييز الحاسم بينهما.
بحسب أوغسطين -وهي فكرة أصلية في النسق الحصري وستظهر لاحقًا في السياسي الإسلامي- لا يميز الكتاب المقدس إلا بين مجتمعين أو مدينتين: مدينة الله، والمدينة الدنيوية، مجتمع المؤمنين الخاضعين للقانون الإلهي، والمجتمع الأرضي الذي يعيش وفقًا للشهوات الطبيعية للجسد. لكن المدينتين تتقاطعان واقعيًا، فمدينة الله لا تلغي الحاجة إلى المجتمع المدني، الذي يقدم الحاجات المادية اللازمة لحياة الناس على الأرض، فيما تمنح مدينة الله المجتمع المدني وسائل تحقيق هدف أسمى من أي هدف يمكن أن يسعى إليه، لقد وحَّد أوغسطين بين مدينة الله والكنيسة وقدم تأسيسًا نظريًا لهيمنة المؤسسة الدينية على الدولة والمجتمع بامتداد العصور الوسطى.
تُرجمت هذه الهيمنة إلى صلاحيات تشريعية واسعة أسفرت عن سلسلة من القوانين الكنسية التي صارت تمثل “شريعة” دينية جديدة داخل المسيحية. لقد ثار السؤال عما إذا كانت مسيحية العصور الوسطى قد تحولت –كالإسلام واليهودية- إلى ديانة اجتماعية سياسية ذات طابع شمولي. ومع ذلك ظل الحضور العلماني للدولة يقابل حضور الكنيسة، ويمنع تولد سلطة ثيوقراطية موحدة على النمط التقليدي المعروف في تراث اليهودية والإسلام، وظلت المسيحية قادرة على الانتساب لجذور نظرية علمانية، الأمر الذي سهل على الكنيسة تبرير التراجع أمام ضغوط التطور الاجتماعي، وسهَّل عملية الاندماج في أطر الدولة الحديثة.
لقد نشأت الدولة الحديثة كرد فعل لسياقات التطور التاريخي في الغرب، حيث كانت المسيحية واحدًا من الفواعل الرئيسة في هذه السياقات. وبشكل أساسي كان الوصول إلى نقطة العلمانية الكاملة نتاجًا لتطور الجدل حول الازدواجية المسيحية بالذات، أي تصعيدًا لحالة دولة نصف علمانية. وهو ما يشرح قابلية التناغم النسبي بين المسيحية والدولة الحديثة قياسًا إلى الإسلام الذي يعاني من صعوبات واضحة في الاندماج مع أبنية هذه الدولة حتى على المستوى الشكلي.
-2-
هذه الصعوبات ترجع باختصار إلى طبيعة الإسلام كما تطرحه المدونة الفقهية، أي الإسلام المحمل بثقافة تدين تاريخي موروث (في جميع الأحوال تعرض الديانات من خلال مدونتها التاريخية، التي لا تحفل بفكرة الجوهر الداخلي للدين). يعرض الإسلام، حسب المدونة، بوصفة –في المقام الأول- لائحة قوانين صادرة عن الوحي لتنظيم الحياة الخاصة والعامة للناس تنظيمًا شموليًا مؤبدًا.
وهي الفكرة التي يتبناها الإسلاميون باعتبارها حكمًا صادرًا عن الله لا عن تاريخ الفقه والدولة.
مفاد ذلك أن الإسلام، كدين، يتصدى لفعل التشريع/ القانون. وهو ما يعني تغيير طبيعة القانون من عملية اجتماعية متغيرة باستمرار، إلى قيم مطلقة لا تقبل التغيير ولا تستجيب لضرورات التطور. “هل يمكن للقانون، بما هو مجموعة القواعد التي تحكم العلاقات الاجتماعية، أي بما هو يعالج معطيات نسبية ومتغيرة بطبيعة الاجتماع، أن يكون جزءًا من الدين في ذاته، وهو في الحد المشترك توحيديٌّ مطلق وثابت؟ في صياغة أخرى: هل يجوز أن يكون الدين قد أسبغ إطلاقيته المؤبدة على ما هو بطبيعته نسبي ومتغير، بحيث يفرض على القانون أن يكون واحدًا على المستوى الكوني ثابتًا على مدى التاريخ، بغض النظر عن حقيقة التعدد والتطور في بنيان الواقع الاجتماعي؟.
التصدي لفعل التشريع يضع الدين بالضرورة أمام مشكل التناقض مع قانون التطور، وهو قانون طبيعي من قوانين الاجتماع (بما هو طبيعي فهو إلهي). وفي هذه الحالة نستطيع تسكين “العلمانية” داخل قوانين الاجتماع الطبيعي. أشير خصوصًا إلى قانون التطور الذي يتناقض مع فكرة القوانين/ الشرعية المؤبدة، وقانون التنوع الذي يستلزم الإقرار بفكرة التعددية. في هاتين الفكرتين يكمن مشكل الإسلام التاريخي مع الدولة الحديثة. (ما أقصده بقانون التطور هو محض “التغير” بفعل الحدوث الزمني، كنتيجة ضرورية لحركة الاجتماع، وهو قانون استقرائي متواتر. لا أتحدث عن حتمية موضوعية توجه التغيير في اتجاه خطي بعينه، ولا عن مسار “تقدمي” محدد رسمته نبوءات التنوير الأوروبي).
لم يتصد الموقف الإسلامي لمواجهة جادة مع أي من المشكلين. وإذا كانت المسيحية قد واجهت المشكل الأول بسهولة نسبية عبر استعادة الأصول العلمانية المبكرة، إلا أنها تواجه صعوبة حقيقية في مواجهة المشكل الثاني. بسبب طبيعتها الحصرية كديانة تنتمي إلى النسق التوحيدي. ومع ذلك فهي أبدت، تحت الضغوط الحداثية، مرونة أوسع بالقياس إلى الموقف الإسلامي، حيال الإقرار بالتعددية الدينية (راجع الانفتاح النسبي حيال الديانات الأخرى في مقررات المجمع الفاتيكاني الثاني 1963-1965، وتطور الموقف التسامحي لدى البابا فرنسيس).
غير أنه يلزم التنبيه فيما يتعلق بالموقف الإسلامي إلى خاصيتين:
- أنه لم يتعرض في سياقه الجغرافي لضغوط حداثية كافية، أعني مكافئة لما تعرضت له المسيحية الغربية.
- لا يتوافر على مؤسسة جامعة تمثل الديانة وتملك اتخاذ خطوات تعديلية في بنية المدونة الرسمية.
-3-
في السياق الإسلامي المبكر، وفي ظل وحدانية السلطة، كانت الشريعة (الفقه) هي قانون الدولة، ولم تظهر إشكاليات الازدواج التشريعي التي عرفها السياق المسيحي، لم يعرف الفكر الإسلامي مفهوم القانون بما هو مقابل للشريعة، أي لم يقف على مفهوم القانون بما هو “نظام للدولة”، مقابل “للنظام الديني”.
لقد تبلور “الفقه” بما هو علم الشريعة العملي، ثم “أصول الفقه” بما هي علم الشريعة النظري. وظهر الفقه بوصفه العلم الرئيس الذي يهيمن على سائر مواد المدونة الإسلامية بما في ذلك على الكلام (اللاهوت)، وهو ما يعكس الطابع الاجتماعي القانوني للإسلام قياسًا إلى المسيحية، حيث ظل اللاهوت هو العلم الأول الذي يهيمن على مادة المدونة، حتى في ظل التمدد التشريعي في العصر الوسيط. (لم تنتج المسيحية علم فقه موازياً للفقهين الإسلامي واليهودي).
في النسق الفقهي يشتغل التفكيرعلى الجزئي، ويعمل من الداخل بشكل تحليلي. وعندما انتقل الفقه إلى التفكير الكلي من خلال علم الأصول، ظل التفكير داخليًا (تحت السقف) لوضع قواعد التعاطي مع الحكم “الشرعي” بغرض ضمان شرعيته، أي ظل يشتغل على الحكم بما هو شرعي، وليس على الحكم في ذاته، أي لم يشتغل على “فسلفة” الشريعة/ القانون. وهذا مفهوم في ظل المعنى الإلهي النهائي للشرعية.
في هذا السياق لم تظهر إشكالية المقابلة بين “قانون وضعي” و”قانون إلهي”، ولم يناقش هذا المصطلح الأخير في إطاره العام الذي يتجاوز حدود الشريعة المكتوبة، فلم يظهر مفهوم “القانون الطبيعي” ليُقرأ كشق من القانون الإلهي كما سيقرؤه الفكر المسيحي (توما الإكويني)، أو كمصدر أرضي للقانون الوضعي كما سيناقشه الفكر القانوني الحديث. وفي الإطار ذاته، لم تُناقش الأخلاق بما هي في ذاتها قانون إلهي، أو من حيث علاقتها بالشريعة.
لكن هذه المفاهيم ستعود لتفرض نفسها على الفكر الإسلامي المعاصر. أعني في إطار الدولة الوطنية “الحديثة” التي صارت تعرف القانون كمفهوم مستقل عن الشريعة. هل يمكن الحديث عن نوع من “الازدواجية” الجديدة أو الناقصة، حيث تتقابل سلطة القانون التي تملكها الدولة مع سلطة الشريعة التي يمثلها الفقه بوصفه “مؤسسة” معنوية ذات قوة معنوية موروثة؟
وعلى الرغم من أن الدولة “الوطنية” في السياق الإسلامي، لا تتوافر على شروط الدولة الحديثة بالمعنى الضيق (الغربي) يمكن الحديث عن صعوبات تكيف بينها وبين الموقف الإسلامي حتى في صوره الأكثر اعتدالًا. فكرة القانون التي تبدو غير “شرعية” في الوعي الأصولي، لا تزال تبدو غير مكتملة في وعي الدولة والأفراد، فيما تبدو مضطربة في تعاطي “الهيئات الدينية” شبه الرسمية التي تعمل من خلال الدولة وتحمل نظريًا فكرة الدفاع عن الشريعة… يتبع