حول سلسلة المفاهيم
سلسلة المفاهيم الإشكالية في الوعي الإسلامي المعاصر، هي مقالات يكتبها لمركز المسبار المفكر المصري عبدالجواد يس، لتشرح للقارئ مفاهيم معقدة، يثار حولها النقاش في الفكر العربي المعاصر، وتمثل مدخلاً مهماً لفهم الظواهر الثقافية والسياسية، وتتناول السلسلة مفاهيم من مثل: الحداثة، التعددية، الفن، الجمال، الفلسفة، التنوير، والأصولية، وغيرها، وتتضمن أمثلة تيسر الاستيعاب.
الدين والقومية
-1-
العلاقة بين الدين والقومية علاقة قلقة ومركبة على المستوى النظري: كلاهما لا يقبل تقسيم الولاء، لأن كليهما يقوم على فكرة المقدس، وإن كانت هذه الفكرة تبدو أكثر حدة في الدين؛ وإجمالاً يتوجس الفكر الديني من القومية، والفكر القومي من الدين.
بوجه عام، لم يظهر الطابع الإشكالي لهذه العلاقة في السياقات التاريخية السابقة على الحداثة:
- في مراحل التدين المبكرة ارتبط الدين بالعشيرة أو القبيلة أو الشعب، لكل منها إلهه الخاص أو آلهته المتعددة الخاصة، واتخذ الدين منذ البداية طابعاً قومياً، بمعنى أن القومية استوعبت الدين في داخلها، وقد تكرس هذا المفهوم في ظل القبول بنوع من التعددية الدينية داخل الشعب الواحد (راجع على سبيل المثال نموذج التدين المصري القديم، حيث كانت تُجرى طقوس العبادة لأكثر من إله داخل معبد واحد، باستثناء فترة إخناتون القصيرة).
- مع انتشار نسق التدين التوحيدي، وربطه بوظيفة الدولة، جرى تكريس الطابع الجماعي للدين، ونفي التعددية، وظهر الدمج بين الهوية الدينية والهوية السياسية، وهنا حضرت قابليات التعارض في الولاء، ومع ذلك لم يظهر الطابع الإشكالي للمسألة بوضوح طوال العصور الوسطى لسببين متداخلين:
الأول: هيمنة الدين الشاملة على مفردات الاجتماع ومجمل الثقافة، فالعصور الوسطى عصور دينية بامتياز.
الثاني: سيادة النسق الإمبراطوري/ الديني الواسع (الإمبراطورية الرومانية المسيحية بشقيها الغربي والشرقي/ إمبراطورية الخلافة الإسلامية)، وأدى هذا النسق إلى تغطية التمايزات الثقافية والاجتماعية بين الشعوب والأقاليم المتعددة داخل الإمبراطورية، وأسهم في كبت أو تأجيل نزوعاتها الطبيعية للتعبير عن ذاتها.
- التطورات الجذرية اللاحقة (أو الحداثة)، أسفرت عن تفكيك النسق الإمبراطوري الديني الجامع، وإلى انزياح صريح لسلطة الدين السياسية/ التشريعية، مما فتح الباب من جديد لظهور “التعددية” كمفهوم اجتماعي طبيعي يريد اكتساب شرعية قانونية، ولتفشي النزعات القومية التي تحولت إلى دول وطنية/ قومية حديثة.
في السياق المسيحي الغربي، حيث تخلت الكنيسة، تحت الضغوط الحداثية، عن دورها السياسي التشريعي، استقرت مفاهيم الدولة الوطنية بلا تعارض مع الدين، الذي ظل حاضراً على المستوى الذاتي الفردي (المجال الخاص).
وفي السياق الإسلامي، تكيف التدين الاعتيادي (الشعبي) إجمالاً مع نسق الدولة القومية، التي نجحت في استيعاب المجال العام دون تناقض حاد مع الشعور الديني، لكن قابليات التناقض ظلت كامنة في أدبيات المدونة الدينية، حتى ظهرت بطابعها الإشكالي مع ظهور الحركات الأصولية (بدءاً من نموذج الإخوان)، التي تصر على استحضار الدور السياسي التشريعي، ومن ثم على الخلط بين الهوية السياسية والهوية الدينية.
-2-
بوجه عام، يبدي الفكر القومي حيال الدين توجساً أقل مما يبديه الفكر الديني حيال القومية، فلا ينكر الفكر القومي الحديث أهمية الدين كأحد المكونات الرئيسة للقومية، نسبة إلى دوره في بناء شخصية الأمة إلى جانب اللغة، والتراث العام، والجغرافيا الاجتماعية. الدين هنا جزء من البنية القومية (بعض الدعاة التقليديين للقومية الفرنسية يذهب –مثلاً- إلى أن الكاثوليكي وحده هو الفرنسي الحقيقي، وفي ألمانيا وإنجلترا ذهب البعض إلى أن الكاثوليكي لا يمكن أن يكون ألمانياً أو إنجليزياً كاملاً، المسألة هنا –بالطبع- لا تتعلق بروح الكاثوليكية كدين، بل بالدور الذي لعبته في تاريخ الشعب وتلوين تراثه).
في المقابل، ينكر الفكر الديني أي دور فاعل للقومية في بناء الدين، لأن البنية الدينية بجملتها تنتسب إلى المطلق، أي إلى الوحي القادم من خارج الاجتماع، وبالتالي فهي كونية/ عالمية/ فوق جغرافية/ وفوق قومية.
لكن البنية الدينية –كما يقول الواقع التاريخي- لا تتكون من المطلق وحده، بل ثمة شق اجتماعي صنعه تاريخ التدين، وهو الشق الأكبر الذي يكاد يستغرق بنية الديانة، هذا الشق هو الذي يعطي الديانة سماتها الخاصة ويميز بينها وبين غيرها من الديانات، وليس الشق المطلق الذي هو مشترك كلي في جميع الديانات.
ومن هذه الزاوية، يصح النظر إلى الديانة كإفراز مباشر للبيئة التي تشكلت فيها (من لحظة التأسيس حتى لحظة التدوين)، ويظهر الدور الذي يلعبه مزاج الشعب أو روح الأمة في عملية التشكل:
- اليهودية تكونت من داخل الفكرة القومية (حاجة الشعب)، فهي بدأت بوعد إلهي بالأرض وتكثير الذرية، واشتغل الدين في خدمة الغرض الأساسي وهو الشعب، حيث الإله إله الشعب، والشعب شعب الإله، لم يفهم العبريون فكرة الدين الكوني العالمي إلا في وقت متأخر؛ وحتى بعد التطور إلى هذه الفكرة، ظل يهوه إله الشعب العبري وحده أو إله الشعب العبري أساساً، باعتباره شعب الله المختار، وظلت القومية والدين شيئاً واحداً على وجه التقريب.
- المسيحية –التي نشأت كانشقاق على اليهودية، في سياق روماني/ يوناني متوسطي متعدد الشعوب- تبلورت كمعطى لاهوتي مستقل عن الشعب العبري وعن الدولة الرومانية في الوقت ذاته، ومنذ البداية اتخذت الكنيسة طابعاً كاثوليكياً، أي جامعاً، وتكرست ككيان سلطوي موازٍ ومستقل عن الدولة. كان ثمة إمبراطوريتان: سياسية رومانية، ودينية كاثوليكية (الكنائس الشرقية التي استقلت لاحقاً، اتخذت –بشكل نسبي- طابعاً قومياً، حيث لعبت دوراً في توليد الاستقلال).
في السياق الأوروبي الحديث، نشأت القوميات الجديدة انسلاخاً من الإمبراطوريتين الجامعتين: الكنيسة والدولة الرومانية، ولعب الصراع بين الكنيسة والملوك دوراً في تكريس القومية (رغبة الملوك في الاستقلال عن الكنيسة، ورغبة الكنيسة في حماية شعوب أو أقليات صغيرة)، وفي الوقت ذاته لعبت حركة الإصلاح الديني دورها في تفاقم النزعة القومية. (الحركات الاستقلالية توسلت بالانضمام لحركة الإصلاح).
- في الإسلام، يبدو الطابع الأممي ظاهراً على مستوى المدونة الفقهية، وهو تكرس تاريخياً من خلال دولة الخلافة ذات الشكل الإمبراطوري، ولكن الواقع ظل يشير إلى سمات وخصائص متمايزة بين الشعوب والمناطق المتباينة، التي عادت تعلن عن نفسها تدريجياً وبشكل بطيء، مع الانشقاقات المتوالية على الدولة المركزية (العباسية)، التي أخذت تضعف مع الوقت حتى سقطت نهائياً.
لقد أسهم غياب الدولة الدينية الجامعة في تمهيد الطريق للتطور الطبيعي الذي انتهى بظهور الدول القومية الحديثة، التي استطاعت استيعاب الفكرة القومية كمكون داخلي، ومن ثم استيعاب التناقض النظري الذي تنطوي عليه المدونة الفقهية، وهو التناقض الذي عاد إلى الظهور مع الطرح الأصولي، وهو يريد –كالعادة- أن يقفز فوق الواقع إلى مضامين المدونة النظرية.
*عبدالجواد يس
قاضٍ ومفكر مصري؛ له مؤلفات في الاجتماع السياسي وفلسفة الدين. وتدور أبحاثه حول نقد التراث الديني في أنساق التدين التوحيدي الثلاثة: اليهودية والمسيحية والإسلام، وعلاقاتها بالظواهر الأصولية والعنيفة خصوصًا في المحيط الإسلامي المعاصر.
من أهم مؤلفاته:
- تطور الفكر السياسي في مصر خلال القرن التاسع عشر؛ بحث في بدايات التوجه الغربي، صدر عن دار المختار الإسلامي.
- السلطة في الإسلام؛ العقل الفقهي السلفي بين النص والتاريخ، صدر عن المركز الثقافي العربي، عام 2000.
- السلطة في الإسلام؛ نقد النظرية السياسية، صدر عن المركز الثقافي العربي، عام 2009.
- الدين والتدين (دراسة حول علاقة الدين والاجتماع والقانون- فكرة الشريعة)، صادر عن التنوير للطباعة والنشر والتوزيع. عام 2012.