-1-
لم يحب الفقهاء المسلمون فكرة الحب الإلهي، التي تحولت إلى نظرية شائعة داخل الدوائر الصوفية في القرن الثالث. جادل البعض في جواز وقوع الحب على الله من حيث المبدأ، واعتبر القول بمحبة الله بدعة لأن الخوف هو أصل العلاقة بين الله والعبد. لكن الفقه تجاوز هذه النقطة فأقر إجمالًا بأن الخوف والمحبة أصلان متجاوران، وقصر إنكاره على طريقة التعبير عن المحبة في اللغة الصوفية التي صارت تنهل من قاموس العشق والهوى بمفرداته العذرية والحسية على السواء.
يعكس الخلاف بين الفقه والتصوف فارقًا جوهريًا في طريقة التعاطي مع المسألة الإلهية والتفكير في معنى الدين. يشير الفقه إلى الدين في صيغته الجماعية ذات الطابع المؤسسي، وهي الصيغة التي سادت تاريخيًا بفعل التحالف المتواصل بين الكهنوت والدولة. فيما يشير التصوف إلى الدين بما هو تجربة الإنسان الفرد، التي تعكس حيوية الذات وتنوعها الطبيعي. كان الفقه بنسقه التشريعي القريب من الدولة يعبر عن نموذج الديانة الرسمي (السلطوي) الموروث من تاريخ التدين الكتابي، ويترجم بأدواته النقلية التصور التقليدي النمطي للإله كقوة مخيفة ذات سلطة آمرة، وينظر من ثم إلى الدين بوصفه مجموعة من التكاليف. بينما كان التصوف يعبر عن النزوعات الطبيعية ذات النفس الوجداني، التي تنشأ تلقائيًا على هامش الديانة وتشتغل من خارج إطارها الرسمي. وهي نزوعات فجة تحتك مباشرة بالموضوع الديني، وتتسع لتصورات مختلفة عن الإله يلزم صدورها عن تعدد الذوات.
من وجهة النظر الفقهية لا يجوز فصل الخوف عن المحبة، التي لا تعني أكثر من الاتباع والطاعة، فكما يستشهد الفقيه الحنبلي ابن رجب “كل من أدى محبة الله ولم يوافق أمره فدعواه باطلة، وكل محب ليس يخاف الله فهو مغرور”.
فقهيًا، لا يفهم الحب الإلهي على معنى العاطفة الدافئة والميل القلبي إلى الذات الإلهية، فهو ليس علاقة “غرام” مع الله، بل حالة من “التبجيل” الدائم له. وإذا كان ثمة علاقة فهي غير مباشرة، لا تظهر إلا من خلال الأفعال “فمن أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله فقد استكمل الإيمان، ومن كان حبه وعطاؤه ومنعه لهوى نفسه كان ذلك نقصًا في إيمانه”. الحب هنا لا ينصب على عين الذات الإلهية، بل على ما تحب الذات الإلهية. وعلى نحو لا واعٍ تقريبًا، يستبعد الموقف الفقهي أن يكون الله موضوعًا لعاطفة الحب التي تفضي إلى لوازم الهوى.
في المقابل يأخذ الموقف الصوفي الحب إلى آخر معناه الطبيعي كعاطفة قلبية. وهو ينصب مباشرة على الله، الذي يظل ذاتًا قابلة للتعين حتى في ظل القول بوحدة الوجود (وهذه واحدة من مفارقات المفهوم الصوفي لوحدة الوجود، لكنها تعكس طبيعة التصوف بما هو تدين وجداني حاد) فالحب يظهر كعاصفة عاتية تستغرق الوعي وتحجب الإحساس بما سواها من المشاعر بما في ذلك الخوف. ولذلك يجري التعبير عنها بلغة الهوى، اللغة التي تستطيع الوصول إلى مناطق الشعور الأكثر عمقًا.
-2-
حرفيًا، يبدو الموقف الفقهي أقرب إلى الطرح القرآني من الموقف الصوفي، الذي سيحتاج إلى كثير من التأويل الباطني لتأسيس نفسه قرآنيًا، أو على الأقل لنفي تناقضه مع القرآن:
استخدم القرآن مفردة الحب بمشتقاتها في الحديث عن علاقة الله بالمؤمنين، ولا يمكن القول بأنه منع وقوع الحب على ذات الله أو نفى صدوره عن هذه الذات. فالآيات تشير إلى أن الله “يحب المحسنين” و”يحب التوابين” و”يحب المتطهرين” (البقرة 195-223) وإلى أن “الذين آمنوا أشد حبًا لله” (البقرة 165)، وفي الآية (54) من سورة المائدة “فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه”.
لكن هذه الآيات جميعًا وردت في سياق عملي تكليفي يربط بين الحب والطاعة، فالطاعة أولًا “علامة” على حب العبد لله، وهي ثانيًا “شرط” لحب الله للعبد “قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله” (آل عمران 31)، وفي آية المائدة سيتعين على المؤمنين أن يثبتوا حبهم لله بحزمة من الأفعال تتضمن الجهاد في سبيل الله حتى يكونوا جديرين بحب الله لهم.
وتؤكد كتب التفسير التقليدية هذا المعنى بروايات مرفوعة إلى النبي، ففي القرطبي، المعروف بميول “صوفية” روى أبو الدرداء عن رسول الله (ص) في قوله تعالى “قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني…) قال على البر والتقوى والتواضع وذلة النفس” وروي عنه قوله: “من أراد أن يحبه الله فعليه بصدق الحديث وأداء الأمانة وألا يؤذي جاره”. أما محبة الله للعباد -يشرح القرطبي- (فهي إنعام عليهم بالغفران. قال تعالى: “إن الله لا يحب الكافرين” أي لا يغفر لهم).
وخلافًا للعهدين القديم والجديد لم يستخدم القرآن صيغة الزواج أو العشيق أو الخطيب أو العريس في وصف علاقته بجماعة المؤمنين، ولم يقرب مفردات ولوازم التعبير الشائعة في لغة الهوى كما سيفعل الأدب الصوفي.
لم يقدم القرآن شرحًا نظريًا حول الطبيعة الإلهية، لكن الواضح أنه ينطلق في هذه المسألة من أرضية ثنائية تعرف الله بما هو “ذات” مفارقة للعالم والإنسان. لهذه الذات خصائص الروح الحية كما يفهمها الوعي البشري، فهي تسمع وترى، وتأمر وتنهى، وتغضب وترضى، وتكره وتحب. وهي الأرضية الأنطولوجية السائدة في الوسط السامي، والتي ترجع إليها التوراة، وثقافات التدين المجاورة في الشرق الأدنى، وفي الغرب اليوناني والروماني. وذلك خلافًا لثقافات التدين الرئيسة في الشرق الأقصى التي تقول بوحدة وجود كلية لا تنفصم فيها الحقيقة الإلهية عن الذات الإنسانية والعالم.
ومع ذلك فاللاهوت القرآني يجمع بين هذه الخصائص الحية التي تستدعي درجة من التشخيص، وخصائص الجوهر الكلي المصمتة التي تستدعي نوعًا من التجريد. يتوافق التشخيص مع الفكرة الثنائية، ويتوافق التجريد مع وحدة الوجود. ومن هذه الزاوية يمكن أن نلمح درجة من المفارقة في الموقفين الفقهي والصوفي كليهما: فالموقف الفقهي المتحفظ حيال الحب الإلهي يبدو أكثر “تجريدية” مما تفضي إليه مصادراته النقلية، والموقف الصوفي الذي تستولي عليه فكرة الحب الإلهي يبدو أكثر “تشخيصية” مما يوحي به الأصل النظري لوحدة الوجود.
لكن هذا سيوقفنا على الطبيعة التركيبية للوعي الديني الذي يستطيع استيعاب (المفاهيم) المختلفة بتقنيات كلامية وأصولية خاصة، ذات طابع جدلي. ويوقفنا أيضًا على طبيعته التعددية، بما هو وعي بشري، يعكس تنوع المزاج العقلي والنفسي للذوات الفردية. فبالرغم من الأرضية الجامعة التي يصدر عنها النشاط الديني عمومًا، تظل الفروق الفردية مسؤولة عن توجيه شخص بعينه إلى نسق بعينه من أنساق التدين، وتظل، من ثم، مسؤولة عن تنوع أنساق التدين.
يصدر الدين إجمالًا عن منطقة النزوع الوجداني في النوع البشري. وهذا أصل مشترك في جميع أنساق التدين بما في ذلك النسق الفقهي. لا يخلو الفقه من توتر العاطفة، لكنه -كسلطة قانونية- يكبح جماحها بالأحكام.
أما التصوف الذي ينطلق من داخل الذات، فيطلق له العنان. ومن هذه الزاوية يبدو الفارق بين الفقه والتصوف فارقًا في الدرجة لا في النوع، ومع ذلك فهو فارق واضح: من وجهة النظر الصوفية: الفقه جاف، ومن وجهة النظر الفقهية: الصوفية ماجنة. يتبع