-1-
يبدو لي الحلاج “صوفيًا” مفطورًا، تصدر مقولاته عن تجربة شعورية مباشرة، فيما يبدو ابن عربي “متصوفًا” مصنوعًا، دخل إلى التصوف كخيار فكري يلزم مقارفته من خلال التجربة. كان الحلاج يعبر في القرن الثالث عن تجربة شعورية بكر لم تثقل تمامًا بحمولات التنظير، خلافًا لتجربة ابن عربي التي كانت قد تحولت عند القرن السابع إلى حالة معرفية مطروقة.
ابن عربي، الذي ظل مشغولًا بتنظير التصوف، لم يقنعني أبدًا بحرارة مشاعره الصوفية، حتى وهو يشرحها عبر الشعر، خلافًا للحلاج الذي تفيض أشعاره بدفء آسر. ويكشف تاريخ الحلاج عن تناغم واضح بين مقولاته وسيرته العملية التي اتسمت بالزهد والذهول، وانتهت بصدام قاتل مع السلطة الفقهية المدعمة من الدولة. أما ابن عربي فظل واعيًا بحضوره النظري، وبدا مشغولًا بموقعه داخل الحركة الصوفية حتى قدم نفسه خاتمًا للأولياء. وعلى الرغم من مقولاته التي لا تقل شطحًا عن مقولات الحلاج، استطاع تفادي المقصلة الفقهية، مستخدمًا في ذلك آلياته المعروفة: لغة غامضة، مواربات فقهية، إضافة إلى آلية الدفاع الأخيرة وهي التأويل.
لم يخل الحلاج من لمحة تنظيرية تظهر خصوصًا في أدبه النثري، واتسمت لغته بالغموض إجمالًا، لكن معالجته لمسألة الحب تكشف عن نزعة روحية خالصة، في مقابل ابن عربي الذي أفرط في تفسير الحب الإلهي ووضعه تحت مجهر التحليل النفسي، كاشفًا عن مزاج نظري صريح ونزعة حسية فادحة.
لقد انطلق كلاهما في قراءة الحب الإلهي من الفكرة الصوفية المحورية المشتركة ذاتها، وهي أن الله خلق الإنسان على صورته، فأحب الله نفسه في الإنسان، وأحب الإنسان نفسه في الله. لكن ابن عربي سيذهب بهذه الفكرة إلى أبعد تداعياتها الحسية، حيث تتماهى حقيقة الحب الإلهي مع طبيعة الحب الجسدي بين الرجل والمرأة، وهي تداعيات لم يصل إليها الحلاج:
-2-
حسب الحلاج، نظر الله إلى ذاته في الأزل فأحبها وأثنى عليها، فكان هذا تجليًا لذاته في ذاته في صورة المحبة المنزهة عن كل وصف وكل حد. ثم شاء سبحانه أن يرى هذه المحبة ماثلة في الوجود، فأخرج من العدم صورة من نفسه لها كل صفاته وأسمائه، وهي آدم الذي جعله الله صورته أبد الدهر. ولذلك عظمه ومجده واختاره لنفسه، وكان من حيث ظهور الحق بصورته فيه وبه هو هو.
هذا حب الله للإنسان، أما حب الإنسان لله فهو انعكاس لحب الله له.
على الإنسان أن يحقق ذاته بما هو صورة الله الكاملة، وهذا ليس مستحيلًا لأن الله ليس بعيدًا عنه، بل هو حاضر فيه يتجلى من الإنسان لسائر الخلائق. الطريق الصوفي هو مسيرة الإنسان لتحقيق ذاته في الله، وسبيله إلى ذلك هو الحب الذي هو أعلى الدرجات الروحية. أما أعلى درجات الحب فهي أن يترك الإنسان ذاته بالكلية فيفنى عن ذاته في محبوبه حتى لا يعود يرى لنفسه وجودًا مستقلًا، ولا يرى في الوجود إلا الله الواحد:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرتني أبصرته وإذا أبصرته أبصرتنا
يتداعى الحب بدرجاته عند الحلاج حتى يصل إلى ذروته. فإذا وصل إلى ذروته يسكر العاشق حتى يذهل عن كل شيء، بما في ذلك وصال الحبيب ذاته، وهذا هو الفناء عن الفناء.
وواضح أن الحب وهو يتداعى مع الحلاج إلى أقصى درجاته يظل روحيًا، فهو علاقة مجردة تسمو عن فكرة الغرض، وتقوم لذاتها لا في مقابل شيء ما، مهما كان ذلك الشيء، حتى ولو كان العبادة والصلاة، فالصلاة، حسب الحلاج، مراضاة لله “ومن ظن أنه يرضيه بالخدمة فقد جعل لرضاه ثمنًا”، وهذه إهانة لمقام العشق تصل في نظر العاشقين إلى درجة الكفر:
إذا بلغ الصب الكمال من الهوى
ويذهل عن وصل الحبيب من السكر
فيشهد صدقًا حيث أشهده الهوى
بأن صلاة العاشقين من الكفر
الحب هنا يشرح معنى الحلول والاتحاد بما هو فناء في الله. وهو يفسر الفناء في الله لا بما هو واقعة موضوعية، بل بما هو شعور جامح ناجم عن تجربة الحب القصوى، فنحن في النهاية حيال مجاز شعوري لحالة العاشق الذي يقع في حب الله، لا حيال نظرية في طبيعة الوجود. ويشرح الحب هنا أيضًا فكرة تنزيه العاشق عن مقايضة الحب بالصلاة، فنحن حيال نوع من التعبير الفني عن حال الذهول، لا حيال تقرير عن حكم الصلاة، ولا حيال إعلان عن إسقاط التكاليف، كما قرأه العقل الفقهي الذي لا تستهويه مجازات الفن. سيظل هذا الشرح فاعلاً في الدفاع عن التصوف السني أمام لائحة الاتهام الفقهية حتى القرن السابع، حيث سيروج ابن عربي لوحدة الوجود كنظرية ميتافيزيقية شاملة، تنفي وجود الذات والعالم مقابل الوجود “الحقيقي” لله. لقد تحول مفهوم الاتحاد أو الوحدة مع الله من مسألة وعي أو شعور مجازي إلى نظرية موضوعية تشير إلى أن وجود الله في الواقع المفارق للذات يستغرق العالم.
وكما تظهر روحية الحب عند الحلاج في تنزيهه عن فكرة الغرض، تظهر أيضًا في تنزيهه عن التفسير بفكرة اللذة، حيث تغيب عن معالجته للحب الإلهي مفردات الشهوة والنكاح والحس والطبيعة، خلافًا لابن عربي.
-3-
يكاد ابن عربي يلغي المسافة بين الروحي والحسي، فاللذة نوعان: روحية وطبيعية. ولأن النفس الجزئية متولدة من الطبيعة (فهي أمها والروح الإلهي أبوها) فإن اللذة الروحانية لا تخلص من الطبيعة أبدًا.
والحب -بحسب ابن عربي- شهوة، بل هو “أعظم شهوة وأكملها”. والشهوة هي إرادة الالتذاذ بما يلتذ به، وهي تعلو وتسفل حسب المشتهى.
ويبلغ التذاذ الإنسان أقصاه إذا كان التذاذه بمن هو على صورته، لأنه يُشعِر الإنسان بكماله. ولذلك فإن الإنسان كما يشرح ابن عربي: لا يسري الالتذاذ في كيانه كله، ولا يفنى في مشاهدة شيء بكليته، ولا تسري المحبة والعشق في طبيعة روحانية إلا إذا عشق جارية أو غلامًا. وهذا راجع إلى أنه يقابله بكليته لأنه على صورته، بينما كل شيء سوى ذلك في العالم ليس إلا جزءًا منه فلا يقابله إلا جزئيًا. لا يفنى الإنسان في شيء يعشقه إلا إذا كان هذا الشيء شبيهًا به. فإذا وقع التجلي الإلهي في عين الصورة التي خلق آدم عليها، طابق المعنى المعنى، ووقع الالتذاذ بالكل، وسرت الشهوة في جميع أجزاء الإنسان ظاهرًا. ولهذا فإن من يعرف قدر النساء وسرهن لم يزهد في حبهن، فهو حب إلهي يقربنا إلى الله. بل هو –كما يكرر ابن عربي شرحه في الفصوص- أتم صور التعبير عن الحب الإلهي “فشهود الحق في النساء أعظم الشهود وأكمله”.
يقوم الحب على اللذة بما في ذلك الحب الإلهي. وهي فكرة تلتبس بفكرة الغرض التي ينفر منها الوعي الصوفي، لكن وقعها الإشكالي يخف نسبيًا في ظل التداخل الضروري بين الحسي والروحي، وهو ناتج عن التداخل المنهجي المركب عند ابن عربي:
منهجيًا، يتعاطى ابن عربي مع الحب الإلهي كمبحث نفسي، فلسفي، ديني، وينتقل ببساطة كعادته بين الحسي والعقلي والنصي كمعطيات متساوية تنتمي إلى حقل معرفي واحد، أعني كما لو كانت حقائق وذات طبيعة متماثلة. ففكرة الحب تنطلق من نقطة “نصية” أصلًا هي مقولة خلق الإنسان على صورة الله. وبالاستنتاج العقلي ينزع الأصل إلى صورته وهذا هو حب الله للإنسان، وتنزع الصورة إلى أصلها وهو حب الإنسان لله وللإنسان. لكن الإنسان (الصورة) لا يستطيع شهود الأصل (الله) إلا من خلال الحسي (المادة/ الطبيعة) فحب الإنسان لله هو حب حسي روحاني معًا “وهذه مسألة صعبة التصور، إذ لا تُخَص كل نفس بعلم الأمور على ما هي عليه. إن علامة الحب الإلهي هي حب جميع الكائنات في كل حضرة معنوية أو حسية أو خيالية أو متخيلة”.
لا فواصل حاسمة بين مفردات الواقع والفكر عند ابن عربي، فهو لا يكاد يلغي المسافة بين الحسي والروحي فحسب، بل بين الحسي والعقلي، وهي آلية تساعد على تمرير النواتج التي تتحصل عن التجربة الذاتية بوصفها مصدرًا لإنتاج معرفة مقبولة لا تقل شرعية عن معرفة العقل، ومن هنا تظهر الحاجة إليها في التصوف وفي الطرح الديني عمومًا. صحيح أن الخلط بين مفردات الواقع والفكر يتم بشكل تلقائي في ممارسات الفكر عمومًا، بحيث يمكن اعتباره إشكالية مصاحبة لعملية التفكير ذاتها (الأمر الذي يرجع إلى الطبيعة الازدواجية للوجود، فالتفكير وهو ينصب ضرورة على مادة الواقع، يحول الواقع إلى فكرة، وهو ما يعني إنشاء خصائص ذهنية للواقع لا تتطابق تمامًا مع خصائصه في ذاته. وهذه هي الإشكالية الخالدة في تاريخ الميتافيزيقا، والتي يسعى مفهوم العلم إلى تجاوزها.
في التصوف النظري كما يمثله ابن عربي، يجري هذا الخلط بشكل واعٍ وعلى نطاق واسع، قياسًا إلى الفكر النظري العام، الذي يقع في الخلط لا شعوريًا، ويحاول تجنبه عند التنبه إليه، وهذه واحدة من أهم المؤثرات الإيجابية للمنهج العلمي على الفكر النظري الحديث، الذي صار يسعى إلى الانطلاق من نقاط بدء في الواقع وليس في الذهن. يتبع
عبدالجواد يسن