المصطلح إسلامي خاص، ولكنه بمضمونه مفهوم ديني عام. فكرة الدين كما تشكلت في سياقها التاريخي تنطوي على معنى توجيهي. ويقوم نسق التدين التوحيدي على مبدأ الوصاية التي عبرت عن نفسها في اليهودية والمسيحية من خلال المؤسسة الكهنوتية القابضة، وفي الإسلام من خلال الدولة التي تقمصت مبكرًا دور المؤسسة كحارسة للدين. وبدرجات متفاوتة تعطي النصوص التوحيدية لجميع المؤمنين نوعًا من السلطة التنفيذية نيابة عن الديانة. وهو ما يظهر بشكل أوضح في الإسلام بسبب غياب المؤسسة الكهنوتية وتراجع الدور التمثيلي للدولة.
من الناحية النظرية تبدو الدعوة إلى الخير فكرة مفهومة أخلاقيًا. وهي تتناغم مع فكرة الصالح العام التي يقوم عليها المجتمع، والتي يتبناها القانون بضوابط تشريعية. ومع ذلك فالمسألة تنطوي على أبعاد إشكالية، نظرية وعملية معًا:
في الفقه الإسلامي النظري ينعقد الاتفاق على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض ديني محكم، مع الاختلاف حول ما إذا كان فرض عين على كل مسلم، أم فرض كفاية موجهاً إلى مجمل الأمة أو المجتمع. يستند الفقه إلى نصوص قرآنية مثل آية: “ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر” وروايات نبوية مثل حديث: “من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان”.
خطاب الآية يرشح لمعنى الكفاية، ويمكن قراءته تأويليًا كخطاب موجه إلى الدولة بوصفها ممثلة للأمة. فيما يشير خطاب الحديث إلى تكليفات فردية ذات طابع عيني، ويمكن قراءته كخطاب منشئ لسلطة توجيهية مفارقة لسلطة الدولة/ القانون. تتوزع سلطة التوجيه بين الأفراد والدولة، فيما يمثل الفقه في ذاته سلطة خلفية ضاغطة، تهيمن على النص، ولا تتطابق مع سلطة الدولة/ القانون.
سأتوقف أمام إشكاليات كلية ثلاث تثيرها هذه الوضعية بالضرورة:
الأولى: تتعلق بصعوبات التحديد، وبوجه خاص تحديد المنكر. كيف يمكن تعيينه نظريًا من مصادره النصية وغير النصية المختلف عليها؟ وكيف يمكن إسقاطه على الواقع؛ أو كيف تجري عملية تكييف الوقائع موضوع الإنكار؟ فحتى مع الاتفاق على إلزامية قيم أو أحكام بعينها تظل تمثلاتها الواقعية (انطباق النص على الواقعة) عرضة للاختلاف.
وذلك في ظل التنوع الاجتماعي الثقافي الذي أدى تاريخيًا إلى إفراز تعددية دينية مذهبية، ويؤدي في الواقع إلى إفراز دائم لتعدديات تفسيرية فردية وجماعية داخل الديانة الواحدة والمذهب الواحد.
السياق الإسلامي -الذي يسند إلى الأفراد صلاحيات تنفيذية مباشرة لتغيير المنكر بالقوة- يفتقر إلى وجود مؤسسة تمثيلية جامعة (كنيسة أو دولة) تعمل على ضبط أو تحجيم التوترات التي تنجم عن تعددية التفسير.
الإِشكالية الثانية: تتعلق بأداة التغيير. وتستدعي النقاش حول التوتر الذي ينجم عن تصادم سلطات التوجيه. أعني التناقض بين سلطة الدولة ومبدأ القانون من جهة، وسلطة الفقه والأفراد من الجهة المقابلة. النص النبوي عن تغيير المنكر باليد صدر قبل تبلور الدولة. أي في ظل اجتماع قبلي لا يخضع لسلطة مركزية تمثل القانون وتسهر على تطبيقه، ولا يعرف بالتالي “مفهوم الحق العام” بالمعنى القانوني الضيق. في هذا السياق أسند إلى الأفراد صلاحية استيفاء الحقوق، وبرز مفهوم “ولي الدم” الذي كان له أن يقتص بنفسه من القاتل: “ومن قتل مظلومًا فقد جعلنا لوليه سلطانًا فلا يسرف في القتل”.
مع تكثف حضور الدولة (وهو ما سيحدث بعد وفاة النبي وإغلاق النص التأسيسي) سيطور الفقه آليات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتعكس وضعية اجتماعية جديدة، ولتعمل على تثبيت سلطة الحاكم في مواجهة أشكال متعددة من المعارضة والخروج المسلح. سيبدأ الفقه في الحديث عن أن تغيير المنكر باليد هو بحسب الأصل للدولة/ الحاكم/ المحتسب، باعتباره صاحب القدرة الأوسع على التغيير، ومن هنا ستظهر دعوى الحسبة.
لكن الفقه ظل يستصحب أصل الوجوب الفردي المباشر دون افتئات على صلاحية الحاكم. ونتيجة لهذا الجمع ظهرت الصورة الآتية:
يجوز قتل مهدور الدم من قبل الأفراد. القاتل هنا ليس عليه عقوبة القصاص، أي لا يعاقب على القتل، ولكنه يعاقب تعزيرًا على افتئاته أي تعديه على سلطة الحاكم. المشكل هنا أن هدر الدم هذا قد يتم بناء على تفسير خاص متطرف لتيار أو جماعة تمارس القتل تحت عنوان تغيير المنكر باليد. أي دون محاكمة أو تحقيق أو دفاع (انظر الشهادة الفقهية التي قدمها الشيخ محمد الغزالي أمام المحكمة في قضية قتل فرج فودة في مصر).
فكرة الدولة تستلزم تلقائيًا فكرة القانون. وبحسب قانون وجودها الذاتي فإن الدولة -حتى لو كانت دينية- تكره شراكة السلطة، تعني تعدد القاعدة –وهي من قواعد الاجتماع السياسي الطبيعية وليست من اختراع الحداثة– تكريس ثقافة الدولة/ القانون، أي تعني تقرير المبدأ المزدوج الآتي: 1- منع ازدواجية القانون 2- إسناد صلاحية حصرًا إلى السلطة العامة.
يشتغل الفقه كقانون موازٍ يقوم الأفراد والجماعات بتطبيقه. موضوعيًا سلطة القانون المسندة إلى الدولة أضيق من سلطة الفقه المسندة إلى الأفراد والجماعات في نطاق تغيير المنكر باليد: سلطة القانون محددة على سبيل الحصر. وبوجه عام فهي لا تتمدد إلى منطقة الأخلاق، التي تعتمد على آليات زجر ذاتية تنبع أساسا من الضمير، وهو أهم وأفعل آليات التكليف الديني.
الإشكالية الثالثة: تتعلق بالحساسيات التي تنشأ عن الصدام بالحاجز الطبيعي، حاجز الحريات الفردية والنزوع للخصوصية، بما في ذلك خصوصية فهم الدين: حيث يوجد مجتمع يوجد عرف عام. ثمة على الدوام تناقض طبيعي بين العرف وهو سلطة زجر اجتماعية، ونزوعات الحرية (التفرد) الكامنة في الذات الفردية.
يوجد هذا التناقض في كل مجتمع سواء وجد الدين أو لم يوجد. لكن في حالة وجود الدين تزداد قابليات التناقض لسبب واضح هو: أن الدين يؤدي إلى توسيع مساحة العرف العام من ناحية، وتشديد الطبيعة الزجرية لسلطة العرف بفعل فكرة المقدس من ناحية ثانية.
بما هو طبيعي، يعبر هذا التناقض عن نفسه بأشكال متعددة؛ علنية أو ضمنية مضمرة. وفي هذه الحالة الأخيرة وهي الغالبة، قد يتخذ التعبير صورًا تعويضية، أو نفاقية ضارة على المستويين الفردي والمجتمعي.
بوجه عام، لم تظهر الأعراض الحادة لهذه الإشكالية في المراحل السابقة على الحداثة، حيث ظلت سلطة البنى الكلية (العشيرة/ القبلية/ الدولة) تطغى على حضور الذات الفردية، وحيث تكرس النمط الجماعي كصيغة حصرية للتدين بحراسة المؤسسة الدينية أو بقوة الدولة.
لكن التطورات الحداثية الجارية تسفر بشكل واضح عن حضور متفاقم للوعي الفردي والفكرة التعددية، مقابل سلطة الأبنية الشمولية بما في ذلك سلطة المؤسسة الدينية (التي يمثلها الفقه في السياق الإسلامي). في الوعي الفردي المعاصر -حيث تتضخم قيمة الخصوصية الشخصية– تمثل فكرة الأمر بالمعروف في صياغتها التقليدية نوعًا من الفضول، فيما يعتبر الفقه -حسب حاشية ابن عابدين– أن من قال فضولي لمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فهو مرتد”.
عبدالجواد يس
قاضٍ ومفكر مصري؛ له مؤلفات في الاجتماع السياسي وفلسفة الدين. وتدور أبحاثه حول نقد التراث الديني في أنساق التدين التوحيدي الثلاثة: اليهودية والمسيحية والإسلام، وعلاقاتها بالظواهر الأصولية والعنيفة خصوصًا في المحيط الإسلامي المعاصر. من أهم مؤلفاته:
- تطور الفكر السياسي في مصر خلال القرن التاسع عشر- بحث في بدايات التوجه الغربي، صدر عن دار المختار الإسلامي.
- السلطة في الإسلام- العقل الفقهي السلفي بين النص والتاريخ. صدر عن المركز الثقافي العربي، عام 2000.
- السلطة في الإسلام- نقد النظرية السياسية، صدر عن المركز الثقافي العربي، عام 2009.
- الدين والتدين (دراسة حول علاقة الدين والاجتماع والقانون- فكرة الشريعة)، صادر عن التنوير للطباعة والنشر والتوزيع. عام 2012.