-1-
يتجاذب الوعي الإسلامي المعاصر طرحان: الطرح الرسمي (المدرسي)، والطرح الأصولي ( المتطرف).
يقدم التيار الرسمي خطابًا مضطربًا في مسألة العنف. فهو ينفي بشكل قطعي تهمة السيف عن الإسلام كدين، ويفرق بين الإسلام وتاريخه السياسي المشبع بالدماء من ناحية، وبين الإسلام وممارسات الحركة الأصولية العنيفة من ناحية ثانية. لكنه في المقابل، لا ينفي مشروعية القتال كحكم فقهي منصوص، ويقرأ ” الفتوحات الإسلامية” من داخل هذا المفهوم كفعل ” ديني” صادر عن تكليف الشرع، لا كفعل ” سياسي” تاريخي ناشئ عن اندفاع الدولة. ليس ثمة جدل حول مبدأ ” الجهاد”، بل حول شروطه التفصيلية (الأطراف/ الوسائل/ التوقيت/ الملائمة الظرفية) ومدى انطباقها على الممارسات الراهنة للحركات الأصولية الجهادية.
تاريخيًا، يعبر التيار المدرسي عن وسطية الجمهور العام، وهو يشتغل قريبًا من أهداف الدولة، ويبدي استجابة نسبية لضغوط القيم الحداثية، التي تنفر من العنف وتحتفي بالتعددية وحرية الرأي، والتي صارت تشكل جزءًا مضمرًا من بنية الثقافة. وهي اعتبارات يمكن أن تقدم تفسيرًا جزئيًا لهذا الموقف الدفاعي المضطرب. لكن تفسيره المباشر يكمن في المدونة المرجعية الأصلية التي يصدر عنها، والتي تجمع، في صعيد تكليفي واحد، بين مبادئ كلية سلمية، وأحكام تحريض قتالية ذات طابع هجومي.
يؤدي التيار المدرسي دوره الدفاعي بآليات تبريرية تأويلية متنوعة، ويسهب في الحديث عن أغراض دفاعية للجهاد. لكنه يواجه صعوبات حقيقية في التعاطي مع الأسئلة الشائكة التي يثيرها طرح المدونة الفقهنصوصية ( الآيات الهجومية الصريحة في القرآن المدني/ الروايات والأحاديث التي تتجاوز التحريض على القتال إلى الأمر بالقتل/ أفعال العنف المنسوبة إلى الرسول في المدينة/ التفسير الفقهي الهجومي الصريح لهذه النصوص تحت عنوان جهاد الطلب).
لا تحضر هذه الصعوبات في مواجهة الطرح الأصولي، الذي ينظر إلى القتال الهجومي لا كتهمة تستحق النفي، بل كتكليف إلهي. فالجهاد لم يشرع للدفاع عن المسلمين فحسب، بل أيضًا لنشر الدين وتثبيت أركانه في العالم. وهو ليس مجرد فريضة من فرائض الإسلام بل “ذروة سنامه” أي أعلى فرائضه. في هذا السياق يبدو الموقف الأصولي أكثر تناغمًا مع ثقافته المرجعية ( خصوصًا في شقها الفقهي) من موقف التيار الرسمي الذي يصدر عن الثقافة المرجعية ذاتها.
ومن هنا يلزم توجيه النقاش مباشرة إلى المرجعية الفقهنصوصية حيث تكمن جذور المشكل.
-2-
بحسب الفقه، الجهاد في التحليل الأخير هو قتال على الدين. وهو بهذا المفهوم يتناقض: 1- مع الطبيعة الاختيارية للإيمان، 2- ومع المعنى الأخلاقي الأصلي للدين 3- ومع القيم الكلية المنصوصة في القرآن. لكن الفقه يؤسس أحكامه الجهادية على نصوص قرآنية ” صريحة” تجاور القيم الكلية القرآنية وتحظى بنفس حصانتها النصية. والقول بكونها صريحة، يعني عدم كفاية التأويل اللغوي لتحويل دلالاتها إلى حيث تتفق مع القيم السليمة التي أقرها القرآن. ومعنى ذلك أن المشكل سوف يصل في نهاية التحليل إلى دائرة النص، أعني إلى ” مفهوم النص” السائد في العقل الديني الكتابي، والذي انبنت عليه المدونة الفقهية الإسلامية بقاعدتها التفسيرية ونظامها الأصولي الذي كرسته التنظيرات الشافعية والجعفرية، على المستويين السني والشيعي معًا.
-3-
في المفهوم السائد كتابيًا، النص معطى نهائي مقدس في جميع أجزائه، لا مجال للقول باحتوائه الى جانب المطلق على أحكام نسبية خاصة بسياقات انتاجها التاريخية. كرس الفقه اجتماعيات الغزو القبلية بمفرداتها التفصيلية، وحولها إلى أحكام دينية ” ثابتة” مستندًا إلى مجرد ورودها في ” النص”، أي دون أن يفرق بينها وبين القيم الكلية المطلقة. كان النص يسجل الوقائع بما فيها الحوادث القتالية، ولكنه لا يحول الوقائع إلى قيم مؤبدة. وكانت آية السيف ( التوبة5) تعكس الوضعية الأخيرة لميزان القوة بين الجماعة المسلمة وخصومها في الجزيرة قرب وفاة النبي، وهي وضعية التغلب التي ظلت قائمة لعدة قرون عبر الغزو والفتوح، والتي قننها الفقه في شكل أحكام تكليفية تفرض على المسلمين مقاتلة الناس حتى يدخلوا الإسلام، وتربط صراحة بين حالة الكفر ( عدم الانتماء للإسلام) وحل الدم.
وهي أحكام خطيرة من حيث مخالفتها لجوهر الأخلاق وللنصوص المطلقة، ومن حيث فداحة الآثار التي ترتبت عليها، أشير إلى التوجه العنيف الذي اتخذه مسار التدين الإسلامي وتاريخه سواء على المستوى الخارجي تحت عنوان الفتوح، أو في الاقتتال الداخلي بين الفرق، وهو ما ينعكس على الذات الإسلامية المعاصرة التي صارت عرضة للتناقض بين مفاهيمها الملزمة “فقهيا” وثقافتها الحداثية التي كشفت عن الجذور ” التاريخية” لهذه المفاهيم، وعن تهافتها الأخلاقي.
لقد عرف الفقه خيارات تفصيلية أكثر توافقًا مع الروح الإنساني للدين، استطاعت القول بأنه لا يجوز للمسلمين قتال من لم ينصب لهم القتال، كما ذهب الطبري في أحد أقواله. ولكن هذه الخيارات لم تستطع أن تؤسس نفسها بوضوح من داخل مفهوم النص. وظل جمهور الفقهاء يعبر عن مذهب القوة، النابع معرفيًا من حالة التغلب في القرون الثلاثة الأولى، والمنحدر من ثقافة الغزو الجاهلية.
في الواقع يبدو جمهور الفقه متناغمًا مع رؤيته المفهومية للنص. أي يبدو تأسيسه النصي للعنف مفهومًا بمقاييس التدين السائدة. فإذا كان النص بجميع أجزائه كيانًا مطلقًا يقرأ بمعزل عن ملابسات نزوله التاريخية المنجمة، تكون الأحكام الهجومية الواردة في سورة التوبة وفي القرآن المدني بوجه عام أحكامًا نهائية واجبة على الدوام الأمر الذي يقدم إسنادًا صريحًا للطرح الأصولي وهو يمارس القتل والقتال باسم الله.
يشرح هذا خطورة المعنى الإشكالي في مفهوم النص. محاولات الإصلاح المتفائلة في الفكر الإسلامي المعاصر لم تواجه المشكل في صميمه، بل واجهته – بدعوى الاعتدال- من خلال آليات تأويلية تنتمي إلى المفهوم ذاته، مما أسفر عن تدوير المعنى الإشكالي وليس رفعه.