شهد أول أيام هذا العام تظاهرة في بغداد للآلاف من مناصري “الحشد الشعبي”، الجسم العسكري المقرّب من إيران. كان الهدف من التظاهرة إحياء ذكرى اغتيال كل من القائد العسكري الإيراني قاسم سليماني، ونائب الحشد الشعبي العراقي أبي مهدي المهندس، إثر غارة نفذتها طائرة أميركية مسيرة.
ذكّر هذا الاحتشاد، المتزامن مع لقاء المرشد الأعلى الإيراني بعائلة سليماني في طهران، والذي أتى قبل يوم من احتجاز الحوثيين لسفينة شحن مدنية ترفع علم دولة الإمارات قبالة سواحل اليمن، بالتوتر الذي ساد في المنطقة وبسياسة “الضغط الأقصى” التي دفعت كلاً من واشنطن وطهران لاستخدام كل ما بأيديهما من وسائل من أجل إخضاع الطرف الآخر.
بالتوازي مع ذلك كله تستأنف في العاصمة النمساوية فيينا جولة جديدة من المفاوضات النووية التي يبدو أنها دخلت مرحلة الرهان على الوقت ما بين الضغط الإيراني المستند على العمل بلا قيود على البرنامج النووي، وما بين الضغوط الغربية المتزايدة التي تراهن -بدورها- على أن النظام الإيراني لن يحتمل ضغطًا أكثر مع الصعوبات الاقتصادية والمالية التي يمر بها، والتي تهدد بقيام ثورة قد لا تمهل النظام حتى يرى مشروعهم النووي، النور.
من جهة أخرى تلوّح الأجنحة المناوئة لإيران في واشنطن، وبشكل أخص تل أبيب، بخيار العمل العسكري الذي يظهر كخيار نهائي إزاء طموحات إيران النووية، على الرغم مما يمكن أن ينتجه من فوضى.
تحاول هذه “المقالة” تحليل الأزمة التي يمر بها الاتفاق النووي مع إيران ومستقبل التأثيرات في المنطقة على ضوء تعثر المفاوضات النووية التي تجري حالياً في فيينا.
أزمة الاتفاق النووي:
البرنامج النووي الإيراني كان مثار اهتمام منذ عقود، إلا أن السنوات العشر الأخيرة حظي فيها البرنامج الإيراني باهتمام إقليمي ودولي أكبر. في هذا العقد بدأت المفاوضات الجادة بين إيران ومجموعة الدول الخمس (فرنسا- ألمانيا- بريطانيا- روسيا- الصين)، إضافة إلى الولايات المتحدة. تواصلت الجهود حتى تم الوصول بعد تفاوض شاق إلى الاتفاق الذي يعرف باسم “خطة العمل الشاملة المشتركة JCPOA” عام 2015. حينها احتفل العالم بنهاية الأزمة المرتبطة بالمخاوف من حصول إيران على السلاح النووي.
إذا كان الأمر كذلك، فكيف نفهم انعقاد جولات التفاوض الجديدة؟ لإجابة هذا السؤال يجب أن نعلم أن القصة لم تنته بالوصول للاتفاق النووي في صيغته الأولى، فبعد الحماس الذي أبداه الرئيس باراك أوباما للاتفاق، سرعان ما تراجعت الإدارة الأميركية عن تنفيذ تعهداتها؛ بسبب ضغوط أطراف اعتبرت أن أي اتفاق لا يشمل إجبار إيران على تغيير سلوكها التخريبي في المنطقة هو اتفاق فاشل. من جهة أخرى نبّه مراقبون إلى أن الاتفاق لا ينهي الخطر النووي وإنما يؤجله فقط. تلك كانت حقيقة، فما يفهم من الاتفاق هو تأجيل الحصول على السلاح النووي من عام واحد أو عامين إلى خمسة عشر عاماً، ولا شيء ينص على منع إيران من الحصول على القدرات النووية على المدى الطويل.
مع تسلم الرئيس دونالد ترامب مقاليد الأمور في البيت الأبيض تعقد الوضع أكثر. كان الجمهوريون، وعامة “اليمينيين”، يرون في أفكار مجموعة أوباما التي كانت تقترح التعامل مع إيران كشريك في مجالات السياسة والاقتصاد، بل ومكافحة الإرهاب أيضاً، نزوعاً نحو الرومانسية التي تقفز على حقائق الواقع. وجهة النظر هذه رأت أن إيران لم تصبح أكثر إيجابية بعد 2015، وأن حرصها على الاتفاق لم ينجح في جعلها توقف تدخلاتها السياسية أو العسكرية عبر محيطها القريب أو البعيد.
في الواقع، إن كثيرين لم يكونوا راضين عن التحركات الإيرانية، خاصة حين وسعت من تدخلاتها على الساحتين السورية واليمنية، وصارت أكثر إصراراً على تطوير الصواريخ البالستية. كانت هذه التحركات تضعف منطق الداعمين لإيران في الحكومة الأميركية، والذين كان يصنَّف باراك أوباما ووزير خارجيته جون كيري على رأسهم. قدم الرجلان إبان حقبة أوباما الرئاسية منافحات دبلوماسية وإعلامية قوية عن هذا الاتفاق. تأسست هذه المنافحات على مقولة: إن اتفاقاً سيئاً هو أفضل من أن لا يكون هناك اتفاق.
الاتفاق النووي لم يتضمن مادة حول “تحسن السلوك” ، لكنه بني على فرضية أن إيران التي سترى ثمرة تعاونها مع “المجتمع الدولي” لن تعود مرة أخرى لممارسة المشاغبة السياسية أو الفوضى الإقليمية. هذه كانت الفكرة التي حاولت إدارة أوباما تسويقها، خاصة للحلفاء من دول الخليج، بالقول: إن التعامل مع دولة مشتبكة مع العالم اقتصادياً وسياسياً، أسهل بكثير من التعامل مع دولة معزولة ليس لديها ما تخسره.
بالنسبة لنقاد الاتفاق وللكثير من دول المنطقة، فإنه لم يكن هناك ما يضمن أنه، وبعد حصول إيران على مبالغ كبيرة تبدأ بمبلغ (400) مليون دولار فورية، وتنتهي بفك تجميد المليارات من الدولارات المحتجزة في الولايات المتحدة، لم يكن هناك ما يضمن أن إيران لن تستخدم هذا الانفتاح الجديد في تهديد جوارها أو تطوير أسلحة خطيرة قد تتسرب لأيدي جماعات غير نظامية، كما لم يكن هناك ما يضمن أن إيران ستلتزم ولن تحاول المضي في خطتها النووية بشكل غير معلن.
تلكأت إدارة أوباما في تقديم المحفزات الاقتصادية الموعودة للحكومة الإيرانية، ورأت استجابة لمخاوف المعترضين أن يُرجأ الأمر للرئاسة القادمة التي كانت، لسوء حظ الإيرانيين، من نصيب الجمهوري دونالد ترامب الذي بادر لوصف الاتفاق بأنه “الأسوأ على الإطلاق”[2]. ترامب لم يلبث أن أعلن رفضه الالتزام بالاتفاق ذاهباً عام 2018 لفرض عقوبات مشددة على إيران. أدى ذلك إلى أن يرفض الإيرانيون -بدورهم- الالتزام بحصص التخصيب المنصوص عليها، ويعلنوا رفع نسب تخصيب اليورانيوم التي وصلت إلى (60%)، ليس ذلك فقط وإنما تركيب أجهزة طرد مركزي متطورة والبدء في اتخاذ إجراءات لصناعة معدن اليورانيوم.
أدت هذه التدابير إلى أن يصل الطرفان إلى طريق مغلق، ما بين تمسك الإيرانيين بموقفهم المبني على أنهم قاموا بواجباتهم، وأن المطلوب هو تنفيذ الغربيين وخاصة الأميركيين تعهداتهم، وما بين الموقف الأميركي المنسحب والمصر على إعادة التفاوض بشروط جديدة.
هل كان الانسحاب الأميركي خياراً جيدًا؟
يجادل سياسيون وباحثون اليوم بأن الوضع الناتج عن الانسحاب الأميركي من الاتفاق لم يكن إيجابياً على صعيد الأمن والسلم الإقليمي والدولي. من الناحية العسكرية زادت إيران -مستغلة نقض الاتفاق- من استخدامها لأذرعها المسلحة الإقليمية، في محاولة للتذكير بوجودها وبقدرتها على لفت الانتباه، أما من ناحية القدرات النووية، فإن إيران لم تكتف بالتوسع في التخصيب، ولكنها أوقفت التعامل أيضاً بالبروتوكول الإضافي الذي يعطي الوكالة الدولية حق المراقبة والمتابعة والتفتيش. وهذه وجهة نظر فريق من المراقبين، تقابلها وجهة نظر أخرى معاكسة ومناقضة لها، وتعتقد أن الانسحاب كان الخيار الأكثر واقعية.
اليوم ندخل حالة من “الغموض النووي” التي تصبح فيها الأسئلة عما وصلت إليه إيران، وعن الوقت المتبقي الذي يفصلها عن إنجاز سلاح نووي، صعبة الجواب. هذه هي النتيجة التي وصل إليها الخبراء من قبيل كولوم لينش، الذي نشر أخيراً تقريراً في مجلة “فورين بوليسي” لم يفلح فيه بالتوصل لخلاصة أكيدة حول زمان حصول إيران على القنبلة[3].
بهذا الاتجاه اعتبر الكاتب الأميركي توماس فريدمان، المحسوب على الأجنحة “الناقدة” لإيران، في مقال له في “نيويورك تايمز” تحت عنوان: “سياسة ترامب نحو إيران أصبحت كارثة على الولايات المتحدة وإسرائيل”، اعتبر أن تلك السياسة التي استمع فيها الرئيس ترامب لنصائح وزير خارجيته مايك بومبيو ورئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو، كانت إحدى أكبر السياسات الأميركية فشلاً في حقبة ما بعد الحرب الباردة.
استشهد فريدمان بالإسرائيلي موشيه يعلون (كان وزيراً للدفاع إبان التوقيع على الاتفاق) قائلاً: إنه وبالرغم من أن الرجل كان معارضاً شرساً للاتفاق النووي، فإن ذلك لم يمنعه من أن يقول قبل أسابيع: إن الأسوأ من الاتفاق كان قرار الانسحاب منه، وإن ذلك كان “الخطأ الأهم في العقد الأخير في السياسة تجاه إيران”[4].
يشرح فريدمان أنه، وبسبب انسحاب ترامب واتخاذ إيران سياسة تسريع العمل في المحطة النووية، استطاع البلد الذي كان بدأ اتباع سياسة أكثر شفافية، رفع سقوف تفاوضه الجديد لتشمل رفع العقوبات المالية، ليس فقط المرتبطة بالاتفاق النووي وإنما جميع العقوبات، بما فيها تلك المتعلقة بحقوق الإنسان.
وجهة النظر هذه تكتسب كثيراً من الأنصار اليوم، الذين يعتبرون أن تجاوز الاتفاق ساهم في زيادة فوضى الإقليم، فخلال سنوات الرئيس ترامب، وبشكل أكبر عقب الانسحاب من الاتفاق، مرت العلاقة بين البلدين بفترة أطلق عليها اسم “حرب الظل”. شملت هذه الحرب التي تمت من خلف ستار، وبلا تبنٍّ واضح لأي عملية، عدداً من الضربات التي استهدفت تصفية شخصيات إيرانية بارزة، مثل القائد العسكري قاسم سليماني والعالم النووي محسن فخري زادة. شملت الحرب كذلك استهداف منشآت حساسة، كما حدث من هجوم على منشأتي “نطنز” و”كرج” النوويتين في شهري أبريل (نيسان) ومايو (أيار) من العام الماضي، كما شملت جوانب من الحرب السيبرانية.
بالمقابل ردت إيران بضربات على مواقع يتمركز فيها أميركيون في سوريا والعراق، وبالرغم من أنها لم تسفر عن قتل قيادات بارزة أو تحقق أي نوع من الاختراق، فإنها كانت كافية، بنظر إيران، لإرسال رسالة حول استعدادها لتجاوز خطوط الاشتباك.
حقبة الرئيس جو بايدن:
مع فوز الديمقراطيين ووصول جو بايدن للحكم تجدد السؤال حول مصير “الاتفاق النووي”، فرأى البعض أن الرجل ربما يكون امتداداً لسياسة الرئيس أوباما الذي كان قدّم الكثير للطرف الإيراني دون مقابل منطقي.
كان من الواضح أن الإيرانيين أنفسهم كانوا يراهنون على وصول الديمقراطيين مرة أخرى إلى الحكم، لكن الصدمة كانت أن بايدن لم يكن بذات حماس أوباما لإيران أو للاتفاق النووي، وأنه ذهب لاتباع سبيل التهديد والوعيد والتمسك -كسابقه- برفض الالتزام بالاتفاق.
بالنسبة للإيرانيين فإن بايدن الذي شهدت فترته انسحاباً مهيناً من أفغانستان، وانسحاباً آخر أشبه بالهروب من العراق، لم يكن، بالرغم من التهديدات التي تطلقها إدارته من حين لآخر، جاداً في عسكرة الصراع أو توجيه ضربة للمفاعلات الإيرانية. هذه النقطة، أي الاستبعاد الظاهر للحل العسكري، شكّلت نقطة خلاف مع الحليف الإسرائيلي، ووفرت لإيران بعض الجرأة.
عدم القيام بضربة عسكرية سريعة وموجعة، كما كان يريد الإسرائيليون، لم يكن يعني أن الإدارة الأميركية غير مبالية أو متسامحة مع فكرة امتلاك الإيرانيين قنبلة نووية. ظهر هذا في دعوة الأميركيين لانعقاد اجتماع خاص بالوكالة الدولية للطاقة الذرية من أجل الوقوف على الانتهاكات الإيرانية للاتفاق. كان بإمكان هذا الاجتماع أن يحمل إدانة دولية لإيران، حيث لم يكن بإمكان أحد، حتى من حلفائها، أن يدافع إبان اجتماع كهذا عما تقوم به من توسع في التخصيب، أو من منع للمراقبين والمفتشين الدوليين.
بحسب دراسة لـ”مركز الإمارات للسياسات”، فإن تلك الدعوة قد تكون أحد الأسباب التي أدت لإرغام إيران على العودة إلى طاولة المفاوضات وفتح أبواب التعاون مع الوكالة الدولية، فإيران لا تود أن تظهر بمظهر اللاعب السيئ.
وفق الدراسة ذاتها، فإن السبب الآخر قد يكون الضغوط الأميركية التي مورست على كل من روسيا والصين، لحثهما على إقناع إيران بضرورة التعاون؛ لأن البديل لذلك سيكون حرباً لن تقتصر آثارها السياسية والاقتصادية على إيران، بل ستمتد للتأثير على روسيا والصين المشتبكتين معها اقتصادياً وخاصة في مجال الطاقة[5].
فيما يخص إمكانية الضغط على الصين وروسيا، لا يبدو توماس فريدمان في مقاله المشار إليه آنفاً شديد التفاؤل. يرى فريدمان أنه، وفي الوقت الذي تمارس فيه واشنطن ضغوطاً تجارية على الصين وأخرى سياسية حول ملفات تايوان وهونج كونج والإيغور، فهي يجب أن لا تتوقع الكثير من بكين.
الأمر مشابه أيضاً بالنسبة لروسيا التي لا يمكن أن تلعب لصالح الولايات المتحدة ضد إيران، في الوقت الذي تتمترس فيه الولايات المتحدة في معسكر أعدائها متحالفة مع أوكرانيا[6].
دور الدول الخليجية:
الدول الخليجية غير ممثلة في المفاوضات الجارية، كما أنها لم تكن جزءاً من المفاوضات الرئيسة التي تمخض عنها الاتفاق النووي. بنظر دول مثل الإمارات والسعودية، فإن ذلك هو أحد أهم أوجه القصور في الاتفاق الذي كان يجب أن يشتمل منذ أول يوم على ضمانات واضحة بأن لا تسيء إيران استغلال انفتاحها الجديد على العالم، أو أن توظف ذلك في زعزعة المنطقة.
اليوم تجادل طهران بالقول: إن سياستها الخارجية ليست جزءاً من أي تفاوض، وكذلك الطريقة التي سوف تدير بها ما ستحصل عليها من أموال. على الرغم من إصرار الإيرانيين على ترديد ذلك والتذرع بالسيادة الوطنية، فإن هذا المنطق يظل غير مقنع للأميركيين الذين يرون أنه من الصعب التعامل مع إيران، في الوقت الذي ينظر فيه جيرانها، الحلفاء الأهم في المنطقة، إليها بريبة.
في مؤتمر صحفي أخير لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، أوضح رؤية بلاده حول هذا الموضوع، حيث ساند الموقف الإيراني الرافض لإضافة أي بند حول “تحسن السلوك”، معتبراً أنه يجب الرجوع إلى الاتفاق بصيغته التي تم التوافق عليها في عهد أوباما. لافروف عاد واقترح كحل وسط لهذه الأزمة أن تتم معالجة إشكالية عدم الثقة عبر مؤتمر للأمن في المنطقة، يجمع ما بين إيران والدول الخليجية[7].
من أجل إرسال رسائل طمأنة وليدفعوا عن بلادهم الريبة، وأيضاً لقناعتهم بالدور المهم الذي يمكن أن تلعبه دول الخليج، عقد المسؤولون الإيرانيون عدداً من اللقاءات الرسمية الثنائية، والمباحثات مع أكثر من بلد خليجي خلال الأسابيع الماضية. الدول الخليجية كانت تؤكد -بدورها- أنها ترغب في علاقات طبيعية مع جارتها، وأن المطلوب أن توقف إيران سياستها التخريبية ومحاولاتها التدخل في شؤون جيرانها. هذا ما عبر عنه أنور قرقاش المستشار الدبلوماسي لرئيس دولة الإمارات، حين قال في تصريح له: “لقد اتخذنا خطوات لتهدئة التوتّرات، إذ لا مصلحة لنا في المواجهة، حيث ستدفع المنطقة بأسرها ثمن هذه المواجهة لعقود قادمة”[8].
للأسف، فإن الثقة في إيران لا تزال تبدو صعبة بالنسبة للجيران العرب، خاصة السعودية التي تخوض معها إيران حرباً غير مباشرة في الميدان اليمني. نذكر أنه وبالتوازي مع أجواء التفاوض والحديث عن تطبيع العلاقات، كان الحوثيون، أحد الأذرع المهمة للحرس الثوري في المنطقة، يكثفون هجماتهم الصاروخية على المملكة باستخدام التقنيات الإيرانية.
من اللافت هنا أنه، وبالرغم من انتهاء الأزمة الخليجية، وبدء التأسيس لعلاقة استراتيجية بين دول مجلس التعاون، فإن الموقف من إيران -حتى الآن- لا يبدو موحداً، وهو ما تستغله الأخيرة من أجل تقوية شوكتها أو كسر عزلتها.
مفاوضات فيينا: أي نتائج؟:
مفاوضات فيينا تضمنت ست جولات إبان عهد الرئيس روحاني، وجولة سابعة بدأت نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي واستمرت، بتقطع، حتى اليوم. هذا التفاوض لا يشارك فيه الأميركيون بشكل مباشر، في الوقت الذي يلعب فيه الأوروبيون دور الوسيط الحريص على إتمام الاتفاق. ربما يعود الحرص الأوروبي للرغبة في نزع فتيل الأزمة، أو لحرص الأوروبيين الذين تضررت مصالحهم التجارية من العقوبات الأميركية، على كسب إيران كشريك مستقبلي. الموقف الأوروبي الوحيد الذي حمل بعض التهديد جاء من قبل ليز تروس، وزيرة الخارجية البريطانية، التي قالت في تصريح لها: إن هذه المفاوضات هي “فرصة إيران الأخيرة”[9]. لسنا بحاجة إلى القول: إن هذا التصريح، الذي يذكّر بالتصريحات الأميركية التي تهدد بالخيارات الأخرى في حال فشل الاتفاق، هو بلا معنى.
الجولة السابعة بدأت متزامنة مع وصول وزير الدفاع الإسرائيلي إلى واشنطن، ومع الأخبار عن المناورات العسكرية المشتركة التي تحاكي ضرب منشآت إيرانية، في حين تستمر منذ بداية العام -وعلى خلفيتها- تهديدات متبادلة بين إسرائيل التي لا تخفي نيتها ضرب المنشآت النووية الإيرانية، وإيران التي تتوعد برد ساحق، وتعلن إجراء تدريبات محاكية لقصف مفاعل “ديمونة” الإسرائيلي.
للظهور بمظهر المتعاون، أعلنت إيران أنها ستسمح بتركيب كاميرات مراقبة في موقع “كرج” النووي، وستلتزم بنسب التخصيب التي لن تسعى لزيادتها. أما الاشتراطات التي وضعها المفاوض الإيراني على الطاولة، فتركزت في المقام الأول على الحصول على ما كان مقررًا لها سابقاً من فوائد مالية، وعلى ضرورة إلغاء العقوبات الاقتصادية والحظر التجاري، وهي نقاط أساسية بالنسبة لإيران؛ نظراً للصعوبات التي تمر بها حالياً. المطلب الثاني هو السماح بحرية صناعة السلاح ما دون النووي، أما ثالث المطالب، فهو تعهد الأميركيين بالالتزام بما يتفق عليه، حتى لو تغيرت الإدارات أو السياسات الأميركية. يقول الإيرانيون حول ذلك: إنهم يريدون ضماناً حتى لا يتكرر التعقيد الحالي، الناتج بالأساس عن رفض رئيس جديد ما سبق، وإن صادق عليه رئيس سابق.
بالإضافة إلى كل ذلك، تسربت معلومات عن إضافة المفاوض الإيراني شرط “التحقق” من رفع العقوبات. ذلك أيضاً لتفادي ما حدث إبان توقيع الاتفاق بنسخته الأولى، حينما بدأت الشركات ورجال الأعمال بالتوافد على إيران، قبل أن يكتشفوا أن البنوك والمؤسسات المالية ما زالت تضع البلاد على لائحة عدم التعامل.
هذا يعني أن إيران لا تريد الاكتفاء بالإعلان عن رفع العقوبات، وإنما تسعى للتحقق والتأكد من ذلك بشكل يكفل أن لا تكون هناك أي مفاجأة.
لأسباب تتعلق بالأساس بكون أن نوايا إيران لا تزال مشكوكاً فيها، فإن هذه المطالب تظل غير ممكنة التحقيق في الوقت الحالي، وهذا يجعل التفاوض محكوماً بالفشل، ما لم تظهر إيران شيئاً من التنازل، بأن تقبل بالحصول على بعض مطالبها في المرحلة الحالية، أو أن تقبل بمقترح الاتفاق المؤقت الذي يشمل فترة تجريبية لمدة عامين، للتحقق من الجدية وحسن النوايا.
هذه القراءة تجعلنا لا نعوّل كثيراً على ما يذهب إليه المحللون المتفائلون بقرب إحياء الاتفاق النووي بشكل مرضٍ، على طريقة صحيفة نيويورك تايمز التي عنونت: “الولايات المتحدة وإيران تقتربان من الاتفاق النووي”[10]. ببساطة، لأن أي إحياء يجب أن يتضمن إثباتاً لحسن النوايا الذي يجب أن يشمل، قبل أي شيء آخر، وقف الدعم الإيراني للميليشيات الحوثية، خاصة وقد تحولت هذه الميليشيا إلى منصة لإرسال رسائل إيرانية، وصارت مهدداً لأمن المناطق المدنية في البر والبحر. ما لم يحدث ذلك، فإن الدول الخليجية سوف تظل تتعامل مع إيران كمهدد لأمنها، وكعامل من عوامل زعزعة استقرار المنطقة. هذا سيعقد كثيراً حصول إيران على الصفقة النووية، التي تحتاجها اليوم أكثر من أي وقت مضى
[1]– باحث في مركز الدراسات الدبلوماسية والاستراتيجية في باريس.
[2]– مدى الفاتح، الاتفاق النووي: مفاوضات ما بعد الاتفاق، القدس العربي بتاريخ: 28 ديسمبر (كانون الأول) 2021.
[3] Colum Lynch, How Close Is Iran to Getting a Nuclear Weapon?, Foreign Policy,10/01/2022
https://foreignpolicy.com/2022/01/10/iran-nuclear-weapon-breakout/الرابط:
[4]– THOMAS L. FRIEDMAN, Trump’s Iran Policy Has Become a Disaster for the U.S. and Israel, The New York Times, 30/11/2021 الرابط: https://www.nytimes.com/2021/11/30/opinion/trump-iran-nuclear-deal-us-israel.html
[5] – العودة إلى فيينا: عوامل استمرار المحادثات النووية بين الولايات المتحدة وإيران، مركز الإمارات للسياسات، دولة الإمارات العربية المتحدة بتاريخ 26 ديسمبر (كانون الأول)2021.
https://www.epc.ae/details/brief/alawda-iia-vienna-awamil-aistimrar-almuhadathat-alnawawia-bayn-alwilayat-almutahida-wa-iran
[6]– FRIEDMAN, Trump’s Iran Policy Has Become a Disaster for the U.S. and Israel,سبق ذكره
[7]– لافروف: من أولويات روسيا عقد مؤتمر إيراني- عربي ستشمل أجندته قضايا المنطقة، موقع روسيا اليوم، تاريخ النشر 14 يناير (كانون الثاني) 2022.
[8] – العودة إلى فيينا، مرجع سبق ذكره.
[9]– Britain warns Iran it’s the “last chance” to sign up to nuclear deal, Reuters, 8/12/2021
https://www.reuters.com/world/britain-warns-iran-its-last-chance-sign-up-nuclear-deal-2021-12-08/ الرابط:
[10]– Farnaz Fassihi and Lara JakeS, Trading Threats, the U.S. and Iran Inch Closer to a Nuclear Pact, New York Times, 12/1/2022. الرابط: https://www.nytimes.com/2022/01/12/world/middleeast/us-iran-nuclear-deal.html