تعج القارة الأفريقية بالكثير من التهديدات الأمنية التي أدت إلى تشابك وتعقد المشهد العام، ولم تقتصر التهديدات الأمنية على شقها التقليدي المتعلق بالهجمات الإرهابية؛ لكن تضمنت شقاً آخر معنياً بالظواهر الإجرامية المستحدثة، تجسدت أبرز صورها في الإرهاب الإلكتروني والقرصنة السيبرانية التي سهلت من تنامي ظاهرة الإجرام المنظم، لتتحول بذلك القارة إلى بؤرة شديدة الخطورة أمنيًا.
فوفقًا لتقرير مؤشر الإرهاب العالمي لعام 2021 ضمت القارة الأفريقية (30%) من إجمالي حالات الوفاة الناجمة عن هجمات إرهابية في العالم[1]، بل وتتصدر القارة المؤشرات الموجبة المتعلقة بالدول الأكثر خطورة أمنيًا، وأفاد تقرير صادر عن المركز الأفريقي للدراسات والبحوث بضم القارة منطقتي توتر عاليتي الخطورة في العالم؛ هما منطقة وسط الساحل والمناطق الحدودية مع حوض بحيرة تشاد. وعلى الصعيد ذاته كشفت تقارير أممية عن أن الهشاشة الأمنية ساهمت في تحول القارة إلى بوابة لمرور ما يقرب من (30%) إلى (40%) من المواد المخدرة، ناهيك عن الجرائم المتعلقة بسرقة الأعضاء البشرية وخطف الأطفال والنساء[2].
وكشف تقرير صادر عن المعهد الأعلى للدراسات الدولية بجنيف عن ضم القارة قرابة (100) مليون قطعة سلاح خفيف غير مرخص، حيث تنتشر (80%) من تلك الكمية في مناطق الاقتتال[3]، ونظرًا لتداعيات تلك الظواهر وآثارها الممتدة على الجوار الإقليمي والدولي، فقد احتل الأمن الأفريقي قمة دوائر الاهتمام الأمني والسياسي دوليًا، ولكن قبل المُضي في تقييم فاعلية المبادرات الأمنية التي نُفذت خلال الفترة الماضية، لابد أولًا من رصد أبرز التهديدات الأمنية التي تسببت في لفت الانتباه الإقليمي والدولي للقارة الأفريقية.
أولا: مظاهر التهديدات الأمنية ممتدة الأثر
تحظى قضية الأمن في أفريقيا باهتمام دولي كبير، نظرًا لتداعياتها المباشرة على الأمنين الإقليمي والعالمي؛ فوفقًا لمنتدى ميونخ عام 2019 تم تصنيف القارة الأفريقية من ضمن المناطق الأكثر هشاشة أمنيًا على مستوى العالم؛ نتيجة عجز الأنظمة الحاكمة عن فرض سيطرتها الكاملة على حدود الدولة، وتراجع المواجهة الأمنية مع التنظيمات الإرهابية، لذا يمكن رصد أبرز صور التهديدات الأمنية على النحو التالي:
- سيولة انتشار التنظيمات الإرهابية: أدت الهزائم المتلاحقة للتنظيمات الإرهابية في العراق وسوريا إلى التوجه للأفرع المتمركزة في أفريقيا، حيث تحولت فيما بعد إلى دوائر رئيسة لنشاط التنظيمات الإرهابية، ليشهد النشاط الإرهابي خلال العقد الأخير تناميًا ملحوظًا وانتشارًا واسعًا، وهو ما يرجع إلى سيولة تحرك تلك التنظيمات، حيث عززت سيولة الانتشار من اتصال التنظيمات الإرهابية بمصادر خارجية كشبكات الإرهاب الدولي، التي توفر مصادر متعددة من الدعم. كما أدى ضعف الأمن الحدودي بين دول القارة إلى تعزيز سيولة انتشار التنظيمات، حيث أصبح المجال مفتوحاً أمام انتقال الأسلحة واستقطاب المقاتلين ووصول الدعم المالي، فعلى سبيل المثال نجد أن هشاشة الأوضاع في ليبيا وتعقد المشهد الأمني وتآكل الحدود الجنوبية لها، هيأ الأجواء لنشأة ولاية وسط أفريقيا.
من جهة أخرى هناك مرونة فيما يتعلق بتبادل الدعم بين التنظيمات الإرهابية، حيث انتهجت التنظيمات مبدأ تجاوز الخلافات الفكرية التي تسببت في دحرهم في الشام والعراق. فعلى سبيل المثال أعلن تنظيم الدولة في الصحراء عن دعمه جماعة نصرة الإسلام والمسلمين، مؤكدًا أن الأهم من الخلافات الفكرية مواصلة الكفاح والانتشار. وبالتوازي، أدت سيولة التنظيمات إلى تسهيل مهمة استقطاب المزيد من المقاتلين، سواء من دول القارة أو من مناطق تراجع التنظيمات في سوريا والعراق، ولم يكن جمع هؤلاء المقاتلين بالمهمة السهلة دون استغلال الأوضاع الأمنية الهشة لا سيما الحدودية، فوفقًا لتقرير صادر عن الاتحاد الأفريقي عام 2017، أوضح خلاله وصول نحو (6000) مقاتل من سوريا وليبيا والعراق ضمن صفوف داعش، تم توزيعهم في جبهات قتال مختلفة داخل القارة، ناهيك عمن تم تجنيدهم عبر وسائلهم الدعائية الترغيبية من داخل القارة، لا سيما من دول مسالمة لا تشهد نشاطًا للتنظيمات الإرهابية، كما حدث في ضم أعداد كبيرة من السنغاليين عام 2018 لكتيبة الفرقان بمنطقة الساحل الأفريقي[4].
- تنامي التجارة غير المشروعة للأسلحة: تحولت أفريقيا خلال العقد الأخيرة لبؤرة رئيسة لتجارة الأسلحة غير المشروعة، نتيجة ازدياد معدلات الصراعات الداخلية والأنشطة الإرهابية، لا سيما في مالي وبوركينا فاسو والنيجر والكونغو الديمقراطية وأفريقيا الوسطى، وليبيا التي صارت بمثابة مصدرٍ رئيسٍ لانتشار الأسلحة وتمددها داخل إقليم الساحل. ووفقًا لتقارير صادرة عن الاتحاد الأفريقي، تم تهريب قرابة مليون قطعة سلاح داخل إقليم الساحل، وبالتزامن مع التغير الكمي الذي شهدته تجارة السلاح داخل أفريقيا حدث أيضا تغير نوعي، حيث تسعى التنظيمات الإرهابية باستمرار للتكيف مع المستجدات، فبدأت بتطوير أسلحتها المستخدمة التي لم تعد قاصرة على الأسلحة الخفيفة، ولكن ضمت نوعيات متطورة. فعلى سبيل المثال كشفت السلطات الأمنية النيجيرية عن استخدام جماعة بوكو حرام طائرات مسيرة منذ عام 2018، للكشف عن مواقع تمركز قوات مكافحة الإرهاب، وفي 2019 طورت في نمط تشغيلها، وبدأت باستخدامها لتوجيه هجمات على مواقع قوات مكافحة الإرهاب[5].
وفي تقارير صادرة عن اللجنة الوطنية لجمع الأسلحة غير المشروعة بالنيجر تم تجميع قرابة (2000) قطعة سلاح خلال الفترة من (2011- 2014)، من ضمنها قذائف آر بي جي، ومدافع رشاشة، و(9) صواريخ، كما تم الكشف عن استخدام التنظيمات مدافع هاون بلجيكية، وصواريخ (ستريلا 2) روسية الصنع، تم تهريبها عبر الحدود، فيما تعكس التطورات الأمنية المتصاعدة استمرار تدفق الأسلحة الثقيلة والتمويلات المالية المستخدمة لدحر جهود مكافحة الإرهاب[6].
- تشابك أنشطة التنظيمات الإجرامية: أدت الأوضاع الأمنية والسياسية والاقتصادية المتردية للقارة، إلى تحولها لمركز رئيس تتشابك فيه مصالح التنظيمات الإجرامية التي تعددت أنشطتها ما بين تهريب للمخدرات، وتجارة غير مشروعة للأسلحة، وغسيل أموال، وتجارة للأعضاء البشرية، فيما تلعب النخب السياسية الفاسدة دورًا هامًا في تنامي أنشطة تلك التنظيمات. وأيضا للجماعات الرعوية دور هام في مساعدة التنظيمات الإجرامية؛ نظرًا لمعرفتهم بأحوال الأقاليم التي ينتقلون إليها. وبالتوازي تحول إقليم الساحل إلى حلقة وصل لتجميع المخدرات من أميركا الجنوبية عبر دول خليج غينيا وتصديرها إلى أوروبا، مستغلين هشاشة الأمن الحدودي بين دول القارة، ووفقًا لدراسات أكاديمية شهد العقد الأخير تشابكاً للمصالح بين التنظيمات الإرهابية وتنظيمات الجريمة المنظمة؛ نظرًا للاستفادة المتبادلة بين الطرفين، الأمر الذي من شأنه تعزيز مكانة التنظيمات الإرهابية، وترسيخ جذورها بدول القارة.
- هشاشة الأمن الحدودي: أدى ضعف الأمن الحدودي للدول الأفريقية إلى تداعيات في غاية الخطورة، يأتي على رأسها تهريب الموارد الطبيعية والسلع والخامات، حيث انتشرت ظاهرة التعدين غير المقنن على يد عصابات محلية ممولة من الخارج؛ بهدف استخراج المعادن النفيسة كالذهب والماس، مستغلين غياب القبضة الأمنية، ومن ثم تهريبها للخارج أو بيعها للتنظيمات الإرهابية التي تستخدمها كمورد من موارد تمويلها، حيث أفادت تقارير بأن التعدين غير المقنن يشكل (17%) من مصادر تمويل التنظيمات الإرهابية داخل القارة[7]، فنجد أن التنقيب عن الفحم يعد من مصادر التمويل الرئيسة لحركة شباب المجاهدين، فيما يشكل الذهب مصدرًا رئيساً لتمويل غالبية التنظيمات المتمركزة بإقليم الساحل، وعلى الصعيد الإنساني أدت الهشاشة الحدودية إلى ارتفاع معدلات اللجوء والنزوح نتيجة تعدد بؤر الصرعات الداخلية. فوفقًا للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، تضم أفريقيا (26%) من إجمالي اللاجئين على مستوى العالم[8]، وتتعدد مسارات حركة اللجوء داخل القارة، حيث تمتد من أقصى شرق القارة لأقصى الغرب، وكذلك من جنوب القارة لشمالها، ويمتد المسار الثالث من منطقة القرن الأفريقي تجاه جنوب أفريقيا، ناهيك عن تدفق حركة اللجوء من مناطق النزاع جنوب شرق آسيا باتجاه دول القارة.
ثانيا: صور التأطير المؤسسي لمواجهة التهديدات الأمنية (دوليًا وإقليميًا)
شكلت التهديدات الأمنية السابقة منطلقًا انبثقت منه الاستجابات الأمنية إقليميًا ودوليًا، إدراكًا لمخاطر انتشار التنظيمات الإرهابية لما لها من ارتدادات سلبية على أمن واستقرار الدول، فأصبح هناك توجه نحو تعزيز التعاون الأمني الدولي عبر توفير المعلومات الاستخباراتية، وتنسيق العمليات المشتركة عبر أطر مؤسسية محددة نذكر منها ما يلي:
- مجموعة دول الساحل (G5): تم تأسيس تلك المجموعة في فبراير (شباط) 2014 من خمس دول هي (مالي، النيجر، بوركينا فاسو، تشاد، موريتانيا)، وبموجب تأسيسها تم تفعيل القوة المشتركة للمجموعة قوامها (5) آلاف جندي؛ بهدف مكافحة التنظيمات الإرهابية والقضاء على مظاهر الاتجار غير المشروع بالإقليم، حيث تم توزيع تلك القوات على ثلاث مناطق حدودية؛ الأولى: المنطقة الواقعة على الحدود بين موريتانيا ومالي، والمنطقة الحدودية بين النيجر وتشاد، والمثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، فيما تعهد كل عضو بالمساهمة بعشرة ملايين يورو، كما تلقت المجموعة تمويلًا ماليًا ولوجستيًا ضخمًا من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لتعزيز جهودها في مجال المكافحة ومحاولة إعادة الاستقرار للمنطقة[9]، ومع ذلك لم تتمكن مجموعة دول الساحل من تحقيق إنجاز ميداني ملموس، نظرًا للعديد من المعرقلات؛ لعل أبرزها عجز الأعضاء عن المساهمة بحصصهم المقررة، ووجود انقسامات داخل الولايات المتحدة فيما يتعلق بمنح القوة غطاء أممياً، إلى جانب وجود تحفظات إقليمية فيما يتعلق بالتمويلات الكبيرة المقدمة من الغرب لتلك القوة، حيث نظر إليها البعض باعتبارها نمطاً جديداً من أنماط الاستعمار، فيما أعلنت قوى إقليمية أخرى عدم اعترافها بها.
- قوة المهام المشتركة متعددة الجنسيات: تأسست تلك المجموعة أواخر عام 2014 وبداية 2015 بواسطة دول حوض بحيرة تشاد وبنين بهدف توحيد الصفوف لمواجهة التنظيمات الإرهابية بالمنطقة، ويتألف قوام المجموعة من (8000) جندي، وتمكنت من دحر إرهاب بوكو حرام والضغط عليها خلال عامي 2015 و2016، كما لعبت دورًا كبيرًا في تحرير مئات من المدنيين المختطفين والمحاصرين، وسهلت مهمة توصيل المساعدات الإنسانية إليهم. وبرغم الدور الملموس الذي قامت به المجموعة، فإن بوكو حرام تمكنت من إعادة هيكلة قوامها، وتنظيم هيكلها من جديد نظرًا لمرونتهم في التجاوب مع المستجدات، لتتراجع بذلك جهود القوة المشتركة؛ نظرًا لمشكلات داخلية تتعلق بالتمويل والتنسيق العملياتي والمعلوماتي، كذلك غياب التنسيق المدني والعسكري، إلى جانب عدم توحيد المواقف بشأن جهات التمويل[10].
- استراتيجية الأمم المتحدة المتكاملة بإقليم الساحل: جاءت تلك الاستراتيجية بقرار لمجلس الأمن رقم (2391) لعام 2017، ويستهدف وضع حلول لكافة المتغيرات المتسببة في انتشار وتمدد التنظيمات الإرهابية بمنطقة الساحل، وشملت الاستراتيجية مجالات مختلفة لعل أبرزها تعزيز التعاون عبر الحدود، والأنشطة المتعلقة بالمناخ، وتمكين المرأة، وتعزيز المشاركة السياسية، وحرية التعبير عن الرأي، وتفعيل دور منظمات المجتمع المدني، ومحاولة إعادة الثقة في الحكومات المحلية، وبالفعل تم إحراز تقدم ملموس في تلك القطاعات، ولم تغفل الاستراتيجية الشق الأمني والعسكري، حيث تشكلت قوة مينوسما كبعثة متكاملة لتحقيق الاستقرار في مالي، وتستهدف تلك البعثة حماية المدنيين وتعزيز حقوق الإنسان وإعادة الاستقرار للبلاد، ودعم الحوار الوطني بين مكونات الدولة. وكانت مينوسما بمثابة الهيئة المنوط بها تفعيل بنود الاستراتيجية المتكاملة لمنع العنف والتطرف، إلا أن دور تلك الهيئة لم يصل لحد المواجهة المباشرة، لكن اقتصرت مهمتها على الرقابة والإشراف، لذا لم تحظ بالتفاف إقليمي ودولي نتيجة تراجع فاعلياتها الميدانية فيما يتعلق بمجال مكافحة الإرهاب وتراجعها في استخدام التدابير الوقائية[11].
- بعثة التدريب التابعة للاتحاد الأوروبي بمالي: سعى الاتحاد الأوروبي -باستثناء فرنسا- لتشكيل بعثة تستهدف تدريب الأجهزة المعنية بتطبيق القانون وتحقيق الأمن على القيام بمهامها في مالي، عبر تقديم الدعم المالي واللوجستي دون نشر قوات أوروبية، حيث قدم الاتحاد الأوروبي تمويلاً بقيمة (147) مليون يورو، إلا أن هذا البرنامج لم يحقق المرجو منه؛ نظرًا للتطور السريع لظاهرة الإرهاب في أفريقيا، واستمرار التعقيدات الأمنية بإقليم الساحل والصحراء.
- المبادرات الفرنسية: تعتبر فرنسا أولى الدول التي تهرول لتثبيت وجودها في دول القارة؛ نظرًا لمصالحها شديدة الارتباط بأفريقيا، وفي ضوء تصاعد خطر التنظيمات الإرهابية، لا سيما القاعدة ببلاد المغرب، سعت باريس نحو تدشين عمليتي سيرفال وبرخان، حيث انطلقت الأولى 2013 واستمرت قرابة (17) شهراً بعد نشر (4500) جندي، إلا أن العملية فشلت في احتواء تطورات الأوضاع، ولم تتمكن من دحر التنظيمات الإرهابية، وفي 2014 دُشنت عملية برخان بعد أن أعادت القوات الفرنسية ترتيب أوراقها من جديد، وتمكنت من إحراز تقدم في منطقة ليبتاكو غورما، إلا أن القوات الفرنسية تكبدت خسائر كبيرة، كما شهد الداخل الفرنسي انقسامات للقوى السياسية فيما يتعلق بعملياتها العسكرية خارج البلاد. من جهة أخرى، أصبح هناك حالة من الاحتقان والغضب الشعبي للمواطنين الأفارقة، احتجاجًا على التمركز العسكري الفرنسي الذي تسبب في مقتل العديد من المدنيين أثناء المواجهات العسكرية مع التنظيمات الإرهابية.
- الاستراتيجيات الإقليمية: طرح الاتحاد الأفريقي بالتعاون مع الإيكواس العديد من المبادرات المعنية بمحاولة تطويق التنظيمات الإرهابية وإعادة الاستقرار إلى الدول، فكان أبرزها تشكيل بعثة أفيسما عام 2012 بهدف إعادة توطين النازحين واللاجئين وتوصيل المساعدات الإنسانية، وفي 2013 تم تحويلها إلى بعثة مينوسما ليصل قوامها إلى (13) ألف جندي، وسرعان ما تم ضم تلك البعثة ضمن مبادرات الأمم المتحدة، وفي 2014 تم نشر قوة الاتحاد الأفريقي في مالي والساحل، بهدف تعزيز العمل الإنساني ونشر مبادئ الديمقراطية، ومع ذلك لم تحظ تلك المبادرات بالتفاف إقليمي أو دعم دولي، ولم تتمكن من تحقيق إنجاز ملموس[12].
ثالثا: تقييم فاعلية المقاربات الأمنية في مواجهة الإرهاب
برغم تنوع المبادرات الأمنية وتعدد أطرافها، فإن نتائجها لم تُلتمس ميدانيًا، نتيجة وجود مجموعة معرقلات؛ لعل أبرزها غياب التنسيق بين الأطراف الإقليمية والدولية، ويمكن تقييم فاعلية المقاربات الأمنية على صعيدين:
فعلى صعيد المبادرات الإقليمية المطروحة أفريقيًا؛ نجد تعارضاً وإشكالية تنسيقية حقيقية، كما حدث بين الإيكواس والاتحاد الأفريقي في عدد من المبادرات التي طرحت ومُنيت بالفشل. فعلى سبيل المثال اقترحت المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا إنشاء القوة الاحتياطية في مالي بعد أن تصاعدت العمليات الإرهابية للقاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، وحركة التوحيد الجهادي، وبرغم خطورة الأوضاع الأمنية فإن المبادرة لم تحظ بأي التفاف إقليمي أو التزام لأعضائها بحصص مساهمتهم، لا سيما الدول الأقل تأثرًا من الهجمات الإرهابية، كالنيجر التي لم تدرك حينذاك أن الإرهاب ينتشر تدريجيًا ولا توجد دولة بمنأى عنه. ومن ضمن محفزات غياب التنسيق حالة التوتر السياسي والدبلوماسي بين العديد من دول الساحل، يستدل على ذلك من حالة التشرذم التي لحقت بمجموعة دول الساحل الخمس في مايو (أيار) 2022 بعد قرار مالي بالانسحاب نتيجة خلافات بين السلطة العسكرية الحاكمة في مالي والمجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا، الأمر الذي من شأنه تقويض جهود مكافحة الإرهاب.
أما على المستويين القانوني والمؤسسي، فهناك العديد من المشكلات؛ فالاتحاد الأفريقي يفضل الخطط والتدابير الوطنية على حساب الخطط الجماعية متعددة المستويات. من جهة أخرى يصر الاتحاد على لعب دور المشرع لا المنفذ، حيث تنعدم آليات الإنفاذ الحقيقية للاستراتيجيات. وأخيرًا نجد خللاً هيكلياً لمقاربات التصدي التي ترتكز بشكل كبير على المقاربات الأمنية مع إغفال الجوانب التنموية والثقافية والاقتصادية. في الوقت ذاته لا تأخذ المقاربات في الاعتبار تعقد وتشابك البيئة التي تنبثق عنها التنظيمات الإرهابية، مما يجعلنا نمضي في دائرة مغلقة من التحديات المهددة لاستقرار دول القارة.
وعلى صعيد استجابة الولايات المتحدة؛ نجد أنه برغم طرح واشنطن العديد من المبادرات الأمنية والعسكرية الخاصة بالقارة الأفريقية خلال العقدين الأخيرين وعلى رأسها مبادرة دول الساحل لمكافحة الإرهاب، التي تم إطلاقها عام 2003، وكذلك مبادرة مكافحة الإرهاب للدول المطلة على الصحراء عام 2005، ومع ذلك لم تحقق المبادرات المرجو منها، حيث انصب التركيز الأميركي على أن تنفذ تلك المبادرات بتوجيه وإشراف أميركي خالص، مما أدى لحالة من السخط الأفريقي، والنظر لتلك المبادرات باعتبارها نمطاً جديداً من أنماط الاستعمار.
أما على الصعيد الأوروبي؛ فسيتم التركيز على الدور الفرنسي باعتباره الدور الأوروبي الأبرز في القارة، فبرغم الإنجازات التي حققتها فرنسا في بداية تحركها ضد التنظيمات الإرهابية ونجاحها في استعادة شمال مالي، فإنها لم تستطع الحفاظ على المستوى نفسه فيما بعد، نظرًا لعوامل عدة؛ أبرزها سيولة انتشار التنظيمات الإرهابية التي تمكنت من وضع تكتيكات جديدة وخطط تتواءم مع مستجدات التصدي لها، وتمكنت من التسلل لمخيمات اللاجئين، وصوغ خطاب دعائي يركز على مظلومية المواطنين، ووصف القوات الفرنسية باعتبارها شكلًا جديدًا للاستعمار، الأمر الذي أدى لزيادة السخط الشعبي ضد الوجود الفرنسي، لتتمكن بذلك التنظيمات الإرهابية من استقطاب المواطنين لصفوفها، لذا فقد عانت المبادرات الفرنسية من خلل بنيوي نتيجة ارتكازها على الشقين الأمن والعسكري دون النظر إلى الجانب التنموي. من جهة أخرى فإن التعاون الفرنسي كان يتم فقط مع السلطات المركزية دون النظر لباقي الفصائل السياسية، مما أفقد التحركات الفرنسية مصداقيتها، وواجهت رفضاً شعبياً برزت ملامحه في موجة من الاحتجاجات التي جابت دولاً عدة كمالي، منددة بالوجود الفرنسي ورافضة أي وجه من أوجه التعاون معهم. ومما عزز من فشل المبادرات الفرنسية غياب المشاركة الفعلية للجيوش الوطنية، إلى جانب تراجع القدرات والمهارات القتالية لمنفذي تلك المبادرات، مقارنة بمستوى التهديدات الأمنية التي يواجهونها سواء على صعيد التنظيمات الإرهابية أو جماعات الجرائم المنظمة .
مما سبق يمكن القول: إن تعدد المبادرات الأمنية وتنوعها لا يكفل المواجهة الحقيقية الفاعلة للتنظيمات الإرهابية، لكنه أفرز حالة من التنافسية الدولية، قطباها الرئيسيان الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، الأمر الذي أدى لتشرذم ردود الفعل الأفريقية حيالها، فنجد مثلا رفضاً جزائرياً للمقاربات الأمنية الأميركية، لا سيما تلك المتعلقة بإنشاء قيادة عسكرية أميركية بأفريقيا. في المقابل ترحب دول أفريقية أخرى بالمساهمة الأميركية، فيما ترتئي دول ثالثة أهمية الوجود الخارجي لمساندتهم ماليًا ولوجستيًا، ليسفر الأمر عن حالة من الصدام، وغياب للتنسيق الذي يصب في مصلحة التنظيمات الإرهابية والجماعات الإجرامية.
مجمل القول: إن الحديث عن نظام أمني شامل يرتهن بتحقيق استراتيجية تنموية شاملة تمضي في ثلاثة مستويات رئيسة؛ أولها: صهر مكونات المجتمع وتحقيق مبدأ التشاركية عبر تفعيل مبدأ حرية الرأي وإتاحة حق المشاركة السياسية للجميع، ومنح أدوار فاعلة لكافة الفصائل السياسية، وتحقيق مبدأ التوزيع الأمثل للموارد، ثانيا: إعادة الدمج المجتمعي للأفراد الذين التحقوا بالتنظيمات المسلحة واستيعابهم مجددًا، وسن قوانين تُلزم الجميع بتقبل هؤلاء الأفراد مجددًا، وبالتوازي يتم وضع حلول لسد الثغرات التي خلفتها سياسيات التهميش على مدار العقود الماضية، وأخيرًا: لا بد من إحداث تقارب إقليمي في مختلف المجالات الأمنية والاقتصادية والسياسية، لتطويق أي محاولات أمام التنظيمات الإرهابية للانتشار والتنامي مجددًا.
[1] -Global Terrorism Index 2022, available at: https://cutt.us/AvH0Z
[2]– الخضر عبدالباقي محمد، منطقة الساحل والصحراء: نحو منظور أمني مستدام، مركز تريندز للبحوث والاستشارات، 22 فبراير (شباط) 2022، متاح على: https://cutt.us/BIfUb
[3]– المرجع السابق.
[4] -ADJA KHADIDIATOU FAYE ,West Africa must confront its foreign terrorist fighters, institute for security studies,2/8/2019, available at: https://cutt.us/wjFwa
[5] – Dionne Searcey ,Boko Haram Is Back. With Better Drones,13/9/2019,Newyork Times ,available at: https://cutt.us/VDrAd
[6] -Conflict Armament Research, Investigating Cross-Border Weapon Transfers in Sahel, November 2016, P. 10
[7] – SEBASTIAN GATIMU, Is the illegal trade in Congolese minerals financing terror?, institute for security studies,2/3/2016, available at: https://cutt.us/SMRbm
[8]– الموقع الرسمي للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، متاح على: https://www.unhcr.org/ar/4be7cc2825b.html
[9]– د. غالب عبدالعزيز الزامل، بين المخاطر والفرص – تحدِّيات الإرهاب في منطقة دول السَّاحل الخمسG5، التحالف الإسلامي العسكري لمحاربة الإرهاب، 16 يونيو (حزيران) 2020، متاح على: https://cutt.us/oWAgF
[10]– لماذا فشلت القوة متعددة الجنسيات بالقضاء على بوكو حرام في غرب أفريقيا؟، موقع الحرة، 8 يوليو (تموز) 2020، متاح على: https://cutt.us/GXk4e
[11]– د. حمدي عبدالرحمن حسن، تقويم مقاربات مكافحة الإرهاب في منطقة الساحل، مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، 25 يناير (كانون الثاني) 2022، متاح على: https://cutt.us/j8oCX
[12] -MINUSMA FACT SHEET ,United Nations Peacekeeping, available at: https://peacekeeping.un.org/en/mission/minusma