-1-
يقر الفكر الاجتماعي المعاصر إجمالًا بحضور الدين كظاهرة عميقة الجذور داخل الذات الفردية والاجتماع العام، أي كظاهرة غير مرشحة للزوال في المدى المنظور خلافًا لنبوءات عصر “التنوير”. ذهب بارسونز إلى أن “الرؤى التي تؤمن بالفوق- طبيعي رؤى كونية، تم تأكيدها في بحوث الأنثروبولوجيا الحديثة. ويمكن القول: إن الدين هو مبدأ الإنسان الطبيعي، وما الحديث المعاصر حول الاستغناء عن الدين سوى خطاب ثقافي حديث يدعو الرجل العقلاني إلى مواجهة الحقيقة بدون خرافات، لكنه لا ينفي العمق الكوني في الوعي الديني”. واعتبر إلياد أن “المقدس عنصر في بيئة الشعور، وليس مرحلة في تاريخ الشعور. وعلى المستويات الأكثر قدمًا من الثقافة، فإن العيش بصفة كائن بشري هو في ذاته عمل ديني، لأن التغذية والحياة الجنسية والعمل لها جميعًا قيمة مرتبطة بالأسرار، وبعبارة أخرى: أن تكون أو أن تصبح إنسانًا يعني أن تكون متدينًا” (تاريخ المعتقدات والأفكار الدينية، مقدمة الجزء الأول).
ومع ذلك، لا يذهب الفكر المعاصر إلى أن الدين واقعة محصنة ضد التطور في المستقبل. حاجة “البحث عن الدلالات النهائية لا تزال قائمة في العالم حتى الآن” لكن ليس ثمة ما يمنع الاعتقاد بقابليتها للتحول بفعل التطور الضروري للإنسان ككائن بيولوجي اجتماعي، أي بفعل التغير المحتمل للطبيعة البشرية. الأمر الذي يخفف قليلًا من أهمية القول بفطرية الوعي الديني، وهو ما ينتهي إليه التيار “الاجتماعي البيولوجي” الذي ينحدر من المدرسة الكونتية القديمة.
يشير سابينو أكوافيفا إلى أن الدين، وعلى الرغم من جذوره النفسية العميقة، هو “واقعة قابلة للتبدل” أي “قابلة لتطور يتولد طبيعيًا بموجب التفاعل بين التجربة الداخلية والواقع الخارجي”: إشباع أو عدم إشباع الحاجات يولد جملة من الاستراتيجيات التي يلجأ إليها الفرد، ومن بينها في مجال الإشباعات المتعالية يبرز الإشباع الديني. فالتجربة الدينية هي استراتيجية يستخدمها الفرد لمواجهة حاجات لم يتم إشباعها، ولمواجهة محدودية وجوده الخاص. يتعلق الأمر بحاجتين أساسيتين: الحاجة للتحكم في الخوف من الموت، والحاجة لإشباع الرغبة الجنسية. وعند اللحظة التي ينتهي فيها الخوف من الموت من الساحة العمومية ومن نفس الفرد، وينال الأيروس إشباعه التام، تفقد تجربة المقدس ألقها الاجتماعي وتصير متعذرة.
ويستشهد أكوافيفا على هذه الفرضية بأن “المجتمعات الغربية المعاصرة دبت فيها عديد من التحولات صار بموجبها الموت أبعد، كما أن الحب الذي كان مقموعًا ومنحرفًا عن مساره الجنسي باتجاه التجربة الدينية صار طليق العنان، وبالتالي يبدو تسامي حب الله يشهد توقفًا أو ضعفًا” (أكوافيفا وإنزو باتشي، “علم الاجتماع الديني، الإشكاليات والسياقات، الترجمة العربية، أبوظبي، 2011).
لا يبدو استشهاد أكوافيفا حاسمًا، فبالرغم من جسامة التحولات العقلية والنفسية الناجمة عن الحداثة، يصعب الحديث عن حصول تحول جذري لدى الإنسان الغربي بخصوص الموقف من الموت، وهي مسألة تختلف تمامًا عن حقيقة التراجع الإحصائي لنسبة الوفيات بفعل التطور الطبي وارتفاع مستوى الخدمات الصحية. هذا التراجع لا يشير إلى تقلص الخوف من الموت على مستوى الذات الفردية، الذي لا يزال محكومًا بغريزة حب البقاء. وبالطبع يمكن الحديث عن تحول نسبي في الموقف من الجنس، لكن هذا التحول ظهر في الواقع نتيجة لتقلص سلطة الدين بعد هزيمة الكنيسة، ولم يكن سببًا لها، فتقلص سلطة الدين الذي صار واضحًا في القرن التاسع عشر، لم يكن مسبوقًا بتزايد حاد في درجة الإشباع الجنسي (ولا يتناقض الخوف من الموت). كما أن الانفجار الجنسي الذي بلغ ذروته في أواسط القرن العشرين، لم يمنع ظهور الدين من جديد في تجلياته المتعددة على المستويين الفردي والجماعي خصوصًا خارج الأطر المؤسسية.
-2-
لكن “تحول الوعي الديني” في المستقبل (بفعل تطور العلم وتغير الثقافة)، يظل فرضية مرجحة ومطروحة على نطاق واسع في الفكر الوضعي المعاصر. لم يعد موضوع النقاش هو مسألة بقاء الدين، بل تحول موضوعه، أو أشكال التعبير عنه، سواء في صياغات جديدة للفكرة فوق الطبيعية، أو بتطويرات ملموسة في الصياغات القائمة للديانات الكبرى. وهذا ما يراهن عليه هابرماس وهو يتحدث عن إمكانية المصالحة بين الدين والحداثة العلمانية في كتابه “مستقبل الطبيعة الإنسانية”. فالدين الذي يمكن أن يتصالح مع العلمانية، هو نسخة معدلة من الدين التقليدي، يتصور ظهورها بالضرورة تحت ضغط التطور، الأمر الذي ينطبق على العلمانية أيضًا.
يخصص هابرماس كتابه لمناقشة النتائج “الثقافية” الفادحة التي ستنجم عن فك شفرة الجينوم وأبحاث الهندسة الوراثية. ويتحدث عن تحول بنيوي جسيم على مستوى التفكير والوعي الأخلاقي ومن ثم الديني. يؤدي التحكم في السمات الوراثية إلى إنتاج ما يسميه “نسالة ليبرالية”، أي نسالة تحدد مواصفات إنسان المستقبل بناء على احتياجات صناع السوق، الأمر الذي “يؤدي إلى تحول في البنية الكلية لتجربتنا الأخلاقية”. وبوجه عام، يتوجس هابرماس من تمادي العلم في محاولته للتحكم في الطبيعة البشرية، ويحذر من النتائج الخطيرة للتدخل الجيني الذي يهدد الوضوح واليقين، ويؤثر في القدرة على فهم الذات كعضو في الجماعة الإنسانية، ويهدم مفهوم الاستقلالية (الإرادة بالمعنى الكانتي)، ويلغي الفوارق بين الإنسان والأشياء المصطنعة. وهي نتائج لا تمثل تهديدًا للدين فحسب، بل أيضًا للثقافة الليبرالية والأخلاق العلمانية.
وفي الفصل الرابع المعنون بـ”الإيمان والمعرفة” تظهر ملامح النسختين المطورتين من الدين والعلمانية كما يتصور –أو كما يقترح- هابرماس: فعلى العلمانية المترسخة والواثقة من قوتها، أن تكف عن المراهنة على إزاحة الدين، وأن تعمل بدلًا من ذلك على استنطاق عقلانيات الدين ومضامينه الإنسانية التي يمكن أن تحد من ظواهر العنف. يتحدث هابرماس عن “أرثوذكسية علمانية متحجرة” لا تزال موجودة في الغرب، وهي مسؤولة جزئيًا عن اضطراب التواصل المؤدي للعنف بين الثقافات، على الغرب أن يبدي تفهمًا أكثر حيال التوترات الحاصلة في مناطق مختلفة من العالم، وخصوصًا في الشرق الأوسط، بوصفها نتيجة لعمليات التحول الحداثي اللامتوازن، والتي تفاقمت حدتها بفعل العولمة.
أما الدين -وهنا يستحضر هابرماس النموذج الإسلامي في الشرق الأوسط بالذات- فعليه تفهم الصيرورة الجديدة للعالم، والقبول بالانضواء تحت مظلة الاجتماع الطبيعي عبر استيعاب التعددية، والتخلي عن فكرة الهيمنة على المجال العام. وبصيغة محددة: يتعين على الوعي الديني إنجاز تحولات ضرورية ثلاثة: 1- أن يتجاوز التفاوت المعرفي مع الديانات والطوائف المختلفة. 2- أن يماشي سلطة العلوم التي ستحتفظ بالاحتكار الاجتماعي للمعرفة في العالم.3- أن ينفتح على أولويات الدولة الدستورية، أي على المفهوم القانوني للتعددية السياسية التي تتسع للديني وغير الديني، وهو ما يعني ضرورة القبول بالدستور العلماني.
واضح أن هبرماس، وعلى الرغم من توجسه من صيرورة التطور، لا يزال يراهن على وجود العلمانية والدين، بشرط تفكيك الدوجما المتحجرة لدى كليهما، في إطار نظام سياسي ديمقراطي يكفل حضور العقلانية، كما يكفل حضور المعتقدات الدينية دون أن تكون معيارًا للتشريع العام.
كيف يتعاطى العقل الديني مع هذا الرهان الهابرماسي؟ أو كيف يقرأ فكرة تطور الدين في المستقبل؟ وإلى أي مدى يستطيع تجاوز التفاوت المعرفي مع الديانات والطوائف المخالفة، أي التخلي عن مبدأ الحصرية؟ وإذا كان بإمكانه، جزئيًا، التسليم بسلطة العلوم، فكيف يمكنه تحقيق الانفتاح على الدولة الدستورية، التي تحول بينه وبين تملك المجال العام، وهذا هو المشكل الأكثر جذرية بالنسبة للفكر الإسلامي التقليدي الذي يؤمن بأن التشريع جزء من بنية الإيمان؟
يتبع.