-1-
الحداثة لم تنشئ “التنوع” الفردي والاجتماعي، لكنها وضعته كحقيقة إشكالية في مواجهة الدين، خصوصًا نسق التدين التوحيدي الذي يطرح نفسه كممثل حصري لحقيقة مطلقة يجب فرضها على العالم. أسفرت الحداثة عن تكريس الوعي بالفردانية، أي باستقلالية الذات حيال أنماط السلطة الجمعية ذات النفوذ التقليدي (العائلة، العشيرة، القبيلة، الدولة)، وأدت -حسب تعبير بيتر بيرجر- إلى “نشأة مجتمعات غير متجانسة، وإلى حدوث قفزة كمية في التواصل بين الثقافات”، الأمر الذي “وضع جميع المؤسسات التي أنتجت في الماضي عوالم رمزية قارة، وزعمت أنها قادرة على تقديم تفسير نهائي (كلي) للعالم والواقع الاجتماعي، في أزمة”.
تعين على الكنيسة الغربية -التي تحملت عبء التحدي المبكر للدين مع الحداثة- مواجهة هذه الأزمة. وهي عبارة تعني ضرورة القيام بعملية مراجعة ذات طابع جذري لقانون الإيمان المسيحي، الذي يقوم على مبدأ الحصرية. وعلى الرغم من أن الكنيسة الكاثوليكية أقدمت على هذه العملية بالفعل تحت ضغط التحولات “الحداثية” الهائلة، وأحرزت فيها تقدمًا ملموسًا بالقياس إلى الكنيسة البروتستانتية، فإنه ظل تقدمًا جزئيًا بالقياس إلى التحولات العقلية للوعي “ما بعد الحداثي” الأكثر تطلبًا، والذي لا يكف عن الحركة والتغير.
كان مبدأ الحصرية الموروث من اللاهوت العبري، والذي تلخصه عبارة أوغسطينوس الشهيرة “لا خلاص خارج الكنيسة” قد تكرس في المسيحية المبكرة منذ انتقالها على يد بولس إلى المحيط الروماني، حيث ظهرت أبعاده الإشكالية لأول مرة في ظل الصدام مع “التعددية الدينية” السائدة والمحمية من قبل الدولة. منذ البداية دخلت المسيحية الناشئة في صراعات مريرة مع الديانات الوثنية المتعددة في حوض المتوسط الروماني، ومع الدين الرسمي للدولة الذي كان يطرح من قبل روما كرابطة تجميعية ذات طابع سياسي (حيث يرمز تقديس الإمبراطور إلى وحدة الدولة وقوتها).
وطول العصور الوسطى -حيث كانت المسيحية تجمع بين سلطة الكنيسة وسلطة الدولة- تبلورت الحصرية كمفهوم مركزي يجعل من نفي الآخر فعلًا مقدسًا، وسادت ثقافة تكفيرية صارمة داخل الكنيسة الكاثوليكية التي تبادلت التكفير مع الكنائس المخالفة (راجع مواقف الكنيستين الغربية والشرقية بعد القرن الحادي عشر). وتظهر هذه الثقافة بوضوح في مقررات مجمع فلورنسا عام 1438، فالكنيسة “تؤمن إيمانًا ثابتًا وتعلّم أن جميع من هم خارج الكنيسة ليس الوثنين فقط، بل اليهود أيضًا أو الهراطقة المنفصلين، لا يمكنهم أن يكونوا مشتركين في الحياة الأبدية، ولكنهم يذهبون إلى النار الأبدية التي أعدت لإبليس وملائكته، ما لم ينضموا إليها قبل نهاية حياتهم”. وبقي هذا الموقف ثابتًا حتى أواخر القرن التاسع عشر، حيث كانت الكنيسة لا تزال تبدي نوعًا من المقاومة أو ردود الفعل المعاندة للحداثة، وكان المجمع الفاتيكاني الأول لا يزال يؤكد “عصمة البابا”.
-2-
في القرن العشرين، حيث كان مفهوم “الآخر” المقبول يتبلور على المستوى السياسي والاجتماعي في الغرب، صار الفكر المسيحي يبدي مرونة ظاهرة حيال فكرة الخلاص الحصري. وظهرت كتابات اللاهوتيين الجدد التي حاولت استيعاب الآخر الديني من خلال إعادة “تأويل” الحصرية المسيحية (لا من خلال إلغائها)، وذلك بدءًا من بول تيليتس، وكارل بارت، إلى كارل رانر وهانس كونس. وستبلغ هذه المرونة ذروتها على المستوى الرسمي في موقف الكنيسة المعلن في مقررات المجمع الفاتيكاني الثاني سنة 1965.
وفي هذا السياق تظهر بوجه خاص أهمية الطرح النظري الذي سيقدمه جون هيك حول التعددية الدينية، الذي سيتجاوز حدود الموقف “المتطور” للمجمع الفاتيكاني. حيث سينتقل من فكرة التخفيف من حدة الحصرية (أي محاولة استيعاب الآخر مع الحفاظ على الحصرية) إلى الإقرار الصريح بالتعددية الدينية، لا كحقيقة اجتماعية واقعة فحسب، بل كضرورة منطقية وأخلاقية بالمقاييس الدينية ذاتها.
في مقررات المجمع الثاني، أقرت الكنيسة بوجود الديانات الأخرى “التي تحمل قبسًا من شعاع الحقيقة التي تنير جميع الناس”. وفتحت الباب أمام أتباعها للحصول على الخلاص من خلال تأويل خاص، فهؤلاء الأتباع “الذين يعيشون بحسب ما يمليه عليهم ضميرهم، لديهم إيمان ضمني بالمسيحية، وسيتحدون بالمسيح وبجسده الروحي بعد أن يتعرفوا بالكامل على غنى المسيح” (وهي الفكرة التي طرحها كارل رانر سنة 1961 في مقالته حول “المسيحية الجماعية”). ولذلك فالكنيسة “في حوارها مع باقي الديانات تهدف إلى أن تريهم أو تقودهم إلى المشاركة الكاملة في غنى المسيح”. (John Hick, God and the universe of faith,1966)
بالنسبة لجون هيك، خطت الكنيسة خطوة واسعة إلى الأمام لكنها “لا تزال ترى الخير الموجود في الديانات الأخرى ليس إلا تهيئة للإنجيل” ما يعني الاحتفاظ بمسلمة أن الخلاص لا يتأتى إلا عبر المسيح أي الكنيسة. وبالتالي فهي مجرد محاولة للتوفيق بين الموقف الحصري القديم وموقف حداثي متسامح حيال “الآخرين” وهي محاولة لا تفي لإشكالية التعددية بمقتضياتها المنطقية والأخلاقية التي يفرضها الوعي الحديث.
بحسب هيك، فرض الوعي الحديث ما يشبه الثورة الكوبرنيكية في المجال الديني، بحيث لا تستطيع المسيحية (ولا أي ديانة أخرى) أن تزعم أنها المحور أو القطب الأصلي الذي تدور حوله الأديان. محور الدين هو “الله” وليس اللاهوت الذي تطرحه ديانة بعينها. وليس ثمة حقيقة دينية كاملة ومتفوقة تقابلها حقيقة دينية ناقصة ومتخلفة، بل ثمة حقيقة إلهية يُجرى إدراكها واستيعابها بطرق متعددة، وهذا ما يفسر تعدد الديانات، هذا التعدد الذي يفرضه تعدد الثقافات والسياقات الاجتماعية التاريخية التي تكونت وتطورت فيها كل ديانة.
من خلال هذه الرؤية يخرج هيك من دائرة الثوابت المدرسية للطرح التوحيدي التقليدي، فالتعددية الدينية لا تفسر بوصفها رؤى منحرفة أو محرفة للحقيقة الواحدة المطلقة، بل تعبيرات مختلفة عنها. لا يوجد ديانة حصرية، فالواحدية المركزية المطلوبة ليست واحدية اللاهوت بل واحدية الله. ومن خلال هذه التعبيرات المتنوعة تظهر فاعلية الإنسان في تشكيل المعنى الديني.
تكشف هذه الرؤية عن تركيبة هيك الثقافية التي تجمع بين أرضية لاهوتية ذات أصول بروتستانتية، وخلفية فلسفية مهجنة يظهر فيها كانت ومسحة من فيورباخ. نقل هيك مشكل التعددية الدينية إلى مساحة نقاش فكرية أوسع استجابة للمطلب الحداثي. لكن ما يلزم ملاحظته هنا، هو أن النقاش ظل يدور من داخل السياق المفهومي للدين الإبراهيمي، أعني تحت سقف تفكيري ديني بمشاغله ومفرداته، وهو سقف لا يتطابق تمامًا مع المشاغل والمفردات الحداثية (على الأقل بالنسبة للثقافة الغربية المركزية): الصيغة التي تعالج بها المسألة تشير إلى الموضوع، وهو إيجاد حل لإدخال غير المسيحي من أتباع الديانات الكبرى في الملكوت. لا حضور واضحاً لأتباع الديانات البعيدة والصغيرة، أو لغير المتدين، أو لمن لا يحفل أصلًا بالمسألة، مشكل التعددية الدينية المطروح هو مشكل الديانات، وليس مشكل الاجتماع المتنوع الذي يشمل الديني وغير الديني، وليس مشكل الصياغات الجديدة من التعددية الدينية التي جلبها الوعي الحداثي المنفتح على الثقافات المختلفة، والذي صار بإمكانه تكوين موقف ديني، يجمع بين مفاهيم مختارة من ديانات متعددة.
عبدالجواد يسن