-1-
في مقدمة كتابه “الوضع ما بعد الحداثي”، الذي صدر سنة 1979، ويُنظر إليه بوصفه النص الرئيس الذي كرس مفهوم ما بعد الحداثة، يشير جان فرانسوا ليوتار إلى أن الكتاب “تقرير عن حالة المعرفة في المجتمعات الأكثر تطورًا”. وهي إشارة تربط ربطًا مفهومًا بين تجربة الحداثة والثقافة الغربية بالذات، بوصفها الثقافة التي أفرزت التجربة، والتي تعاني الآن بشكل مباشر من تداعياتها الفادحة، التي صارت تعرف بأزمات ما بعد الحداثة.
مقارنة بالمسحية الغربية، لم يتعرض الإسلام في محيطه الجغرافي الرئيس حتى الآن، لاشتباك حقيقي مع النسخة “التقليدية” للحداثة، ولم يفرغ بعد من حسم موقفه حيال الإشكاليات الكبرى التي وضعها الفكر الأنواري في مواجهة الدين، والتي تدور إجمالًا حول محورين مركزيين: العلمانية، والعلم. لكنه مع ذلك، يجد نفسه مضطرًا للتعاطي مع إشكاليات التطور ما بعد الحداثي، بسبب الاحتكاك الثقافي الذي يسمح بانتقال الأفكار والقيم الحداثية إلى المجتمعات الأقل تطورًا.
تنتقل الأفكار عمومًا بمعدل أسرع من معدلات التحول الاقتصادي والاجتماعي، وهي ظاهرة تتفاقم في المجتمعات المعاصرة بفعل “الانفجار التواصلي عن بعد” الذي يرصده ليوتار كعلامة من علامات الدخول في ما بعد الحداثة (حضور الأفكار لا يؤدي تلقائيًا إلى تحول الواقع. تلعب الأفكار دورًا تحفيزيًا في عملية التحول من خلال التفاعل البطيء مع عوامل الاجتماع الكلية، خصوصًا الهياكل الاقتصادية. وهذه إحدى النقاط الأكثر أهمية في أطروحة الجدل الهيجلي الماركسي).
-2-
منذ القرن التاسع عشر، كانت مفاهيم الحداثة التقليدية الموروثة من عصر الأنوار، تتحول في الغرب إلى ثقافة شعبية دارجة، وتشكل بالنسبة للعالم ثقافة مركزية موازية، ذات طابع كوني وجاذبية طاغية. وبدرجات متفاوتة، أمكن لها اختراق جميع الأنساق الثقافية الكبرى حول العالم، بما في ذلك الأنساق الدينية المغلقة.
في الاجتماع الإسلامي المعاصر يمكن الحديث عن حالة معرفية مركبة: قاعدة “قبل حداثية” واسعة، مظاهر “حداثية” جزئية، وظواهر “بعد حداثية” متفرقة. يظهر ذلك في الهياكل والبنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وعلى مستوى الوعي العام حيث تحضر المكونات “السلفية” كخلفية ثابتة للثقافة الشعبية الدارجة. وفيما تظهر واضحة في الخطاب الرسمي للمدونة الدينية، تعمل كثقافة ضمنية كامنة في خطاب النخب الفكرية المتعلمنة جزئيًا، وبدرجة أقل في خطاب الأجيال الأحدث، المشدودة كليًا لآليات التواصل الإلكتروني الجديدة.
ما الإشكاليات الحداثية التقليدية التي لم يفرغ منها الاجتماع الإسلامي المعاصر حتى الآن؟ وما الإشكاليات الجديدة المفروضة عليه بفعل التطور ما بعد الحداثي؟ هل لا تزال الإشكاليات الأولى ذات معنى في ظل “الوعي” بعد الحداثي الجديد؟ لكن إلى أي مدى يمكن القول بحضور هذا الوعي داخل المحيط الإسلامي الراهن؟
بوجه عام، وعلى الرغم من ظهور التيارات ما بعد الحداثية منذ أوائل القرن العشرين كحركة نقدية واسعة موجهة إلى صيغة الحداثة “الغربية” (مفاهيمها الأساسية: العقلانية/ العلموية/ العالمانية. وتداعياتها السلبية الناجمة خصوصًا عن تفاقم التكنولوجيا، وارتهانها الوظيفي للنظام الرأسمالي)، لا تزال هذه الصيغة تمثل الثقافة العامة/ السائدة في الغرب، والثقافة الأكثر طلبًا للتمثل حول العالم. يمكن الحديث بالطبع عن تقلص نسبي في جاذبية الحداثة، لكن التوجهات ما بعد الحداثية لم تتحول بعد إلى ثقافة واسعة الانتشار خارج الأروقة النظرية التي راجت خصوصًا مع الفلسفة الفرنسية المتأخرة، الغارقة في إشكاليات الذات والسلطة واللغة (فوكو، بورديار، رولان بارت، وجان فرانسوا ليوتار). ومع ذلك، تظل هذه التوجهات قادرة على التسرب البطيء إلى الثقافة العامة التي صارت في المرمى المباشر لآليات التواصل الإلكتروني. وتظل قادرة في الوقت نفسه على ترك بصمتها -التشويشية أحيانًا- على القراءات المعاصرة للحداثة، أعني على المقاربات التقليدية لإشكاليات الحداثة التقليدية، مثل مقاربات الفكر الإسلامي المعاصر لإشكالياته مع العلمانية والعلم:
في مقاربته للعلمانية، لا يزال الفكر الإسلامي المعاصر عالقًا في إشكاليات التداخل بين الديني والسياسي كما طرحتها الحداثة الأنوارية المبكرة، أعني لا يزال غارقًا في السؤال الثيوقراطي الأوتوقراطي بصورته التقليدية الفجة، كما كان يناقشها إسبينوزا وهوبز ولوك ورسو. وهذا مفهوم بحكم الواقع الحاضر الممتد من الماضي قبل الحداثي، فهو لا يستطيع الانخراط في إشكاليات لا يعرفها تمامًا وتجاهل إشكالياته الفعلية. ولكنه في الوقت نفسه، لا يستطيع التفكير في السؤال التقليدي بمعزل عن الإشعاعات “النظرية” ما بعد الحداثية، التي صارت تطرح نسقًا تفكيريًا مختلفًا على مستوى المنهج والموضوع، وفوق ذلك على مستوى “المعنى”. (يجادل النسق ما بعد الحداثي في معنى العقلانية ويشكك في مشروعية الحقيقة وفحوى اليقين “منذ نيتشه”، ويبخس من قيمة الرؤى الكلية وفكرة النظرية العامة أو السرديات الكبرى (ليوتار)، وتعيد النظر في ترتيب العلاقة بين السلطة والذات “فوكو”).
من موقع ما بعد حداثي معني بأزمة السلطة وضغوطها الجديدة ينظر فوكو إلى السياسة المعاصرة بوصفها الفضاء الذي تتم فيه مراقبة الذات والتضييق عليها، ومن هنا يأتي نقده للحداثة السياسية التي كرست فكرة القيود القانونية على الذات” فمنذ كانت، كان دور الفلسفة هو منع العقل من أن يتجاوز ما هو معطى في التجربة. لكن منذ ذلك الحين أيضًا، أي منذ تطور الدولة الحديثة والإدارة السياسية للمجتمع، كان للفلسفة وظيفة أخرى هي مراقبة السلطات المفرطة للعقلانية السياسية”. ومن الموقع ما بعد الحداثي نفسه، صار المشكل بالنسبة للنخبة الأوروبية والفرنسية خصوصًا، يتعلق بالتهديدات التي تحيق بالدولة الديمقراطية من جراء تنامي ثروة ونفوذ الشركات الكبرى.
إلى أي مدى تبدو مشاغل فوكو والنخبة الأوروبية حول السلطة المفرطة للعقلانية السياسية، ترفًا ثقافويًا بالقياس إلى مشاغل الحالة الإسلامية المطحونة بمشاكل السلطة المفرطة “السابقة” على العقلانية السياسية؟ يتبع