-1-
الثقافة الإسلامية ثقافة هرمنيوطيقية بالضرورة، بما هي ثقافة كتابية من جهة، وتراثية من جهة ثانية. وهي تشترك في هذه الخاصية مع الثقافتين اليهودية والمسيحية، من حيث تنتمي معهما إلى نسق تدين تاريخي واحد هو النسق الإبراهيمي، الذي استحدث منذ بداياته العبرية فكرة “الكتاب” وكرس مفهوم “النص” بوصفه منظومة خطاب ذات سلطة مقدسة ومتعدية في الزمان. ومع ذلك يمكن الحديث عن فارق نسبي يتعلق بـ”عمق” السلطة التي يتوافر عليها النص داخل المدونة الإسلامية، وبـ”حجم” الدور الذي لا تزال تلعبه هذه المدونة داخل محيطها الثقافي العام (يمثل النص مركز المدونة، وتمثل المدونة مركز الثقافة).
تشتغل الهرمنيوطيقا -عموما- على النص المشكِل، أو على الجانب الإشكالي من النص، طالما كنا سنعتبر كل نص ينطوي بطبيعته على جانب إشكالي. الأمر الذي يظهر بوضوح في النص التراثي والديني بوجه خاص. حيث تتفاقم مشاكل اللغة التي يثيرها حضور مادة مكتوبة، ملزمة ومتباعدة زمنيًا. ولذلك يرتبط مصطلح الهرمنيوطيقا في الذهن الإسلامي المعاصر بالتأويل أكثر من التفسير. وفي العربية المعاصرة جرى ترجمة المصطلح “Hermeneutics” إلى “التأويلية” وليس إلى “التفسيرية” على الرغم من أن المعاجم الإنجليزية المنقول عنها تُعرفه بـ“interpretation” وهي مفردة تشير إلى معنى التفسير والتأويل معًا، وتقدم معنى التفسير “explain the meaning” على معنى التأويل
“make out or bring out the meaning”
انظر: (The Concise Oxford Dictionary of Current English 1991)
-2-
في اللغة الإسلامية المبكرة جرى استخدام التفسير والتأويل كمترادفين، قبل أن تظهر التفرقة بينهما مع تفشي الكلام، ليكتسب التأويل معناه الاصطلاحي السلبي، كموقف “تفسيري” خاص مقابل للموقف النقلي. يعبر التفسير عن طريقة التعامل “البسيطة” مع النص، التي تبناها فريق أهل الحديث بطابعه الحرفي المستمد من ثقافة البيئة الأولى (وهو الفريق الذي افتتح عملية التشكيل المبكرة، وظل يوجه مسارها حتى بعد تطعيمها بالروح الوسطى الذي عبر عنه الشافعي والأشعري).
يتوجس التفسير من الإمعان في تقليب النص، وهو يسعى حياله إلى غرض محدد هو “الكشف” عن دلالته، مفترضًا أنه يتوافر على “حقيقة موضوعية” بعينها، أي على معنى صحيح واحد، والمطلوب هو -فقط- تحصيله كما هو، وليس المساهمة في إنتاجه أو الإضافة إليه كما يحدث عند ممارسة التأويل. لا يحتاج التفسير إلى ما هو أكثر من القراءة، التي لا تحتاج –بدورها- إلى ما هو أكثر من قواعد اللغة. بلوغ معنى النص يتم من داخل النص ذاته، وليس من خارجه.
الحد الأقصى لإشكالية النص -كما يفترض العقل السلفي- يتمثل في “الغموض” الذي قد يكتنفه أحيانًا، والذي يمكن فكه من خلال الأدوات اللغوية. اللغة –التي نشأت أصلًا بتوقيف إلهي- تظهر هنا كمعطى مرجعي نهائي (مكتمل ومنطقي) كافٍ تمامًا للتعاطي مع النص وتحقيق غرض الفهم. وكما يشرح ابن خلدون في المقدمة، كان السلف في غنى عن التنظير للأصول كفن من الفنون المستحدثة لأن “استفادة المعاني من الألفاظ لا يُحتاج فيها إلى أزيد من الملكة اللسانية”.
في هذا السياق يمكن فهم الأسبقية التي أحرزتها علوم اللغة وخصوصًا النحو، وهيمنتها الدائمة على سائر العلوم الإسلامية التي نتجت عن حضور النص، من تفسير، وحديث، وكلام، وفقه، وحتى علم أصول الفقه. وعلى الرغم من أن هذا العلم الأخير -وهو يمثل في حد ذاته مادة هرمنيوطيقية قانونية خالصة- استطاع تطوير آليات عقلية ذات قوام منطقي، فإنه ظل يُعمل هذه الآليات في جسد اللغة بوصفها الأداة الأساسية لاستنطاق النص، وظل في مجمله تفسيريًا، أي كشفيًا وليس تأويليًا.
-3-
يعبر التأويل عن موقف ذهني أكثر تطورًا (حداثي بمعنى ما) حيال النص وحدوده الإشكالية، وهو موقف التيارات “العقلية” الأوسع وعيًا بالواقع. إشكاليات النص لا تنحصر في حالة الغموض الذي يؤخر الفهم، بل قد تحضر مع تحقق الفهم: يفترض التأويل حصول فهم مبدئي أو ظاهري للمعنى، لكن هذا المعنى يجعل النص يواجه مشكل مقبولية من طرف المخاطب، لأنه يعارض الواقع، أو يناقض العقل، أو يخالف مضمون النص، أو أهدافه المفترضة وفقًا لمسبقاته الذهنية أو المذهبية (راجع النموذج التأويلي “العقلي” الذي طرحه المعتزلة لآيات التشبيه تجنبًا لمعناها الحرفي التجسيمي، وقارنه بالنموذج التأويلي “الباطني” لدى الشيعة لتقويل النص القرآني بمقولات الإمامة والولاية). ثمة مشكل مع المعنى المباشر للنص بالنسبة لوعي المخاطب الذي لا يتسطيع طرح النص بعيدًا أو التعامل معه كلغو. السلطة التي يملكها النص تمنع من استبعاده استجابة لثقافة العقل أو المذهب. ولذلك يتدخل المخاطب لاستبقائه في دائرة المقبولية.
من هنا كان النص الديني هو الأرضية الأصلية للهرمنيوطيقا، من حيث هو النص الأكثر امتلاكًا للسلطة، والأكثر احتياجًا للمقبولية، وذلك بالقياس –مثلا- إلى الكلام العادي، أو إلى النص الأدبي، أو حتى إلى النص القانوني. مصطلح الهرمنيوطيقا الذي صار يشير منذ القرن السابع عشر إلى “نظرية تفسير النص” عمومًا، ظهر في اليونان القديمة في سياق الحاجة “لتأويل” النصوص الأدبية خصوصًا نصوص هومر، التي صارت تتوافر عبر الأجيال على سلطة تثقيفية واسعة شبيهة بالسلطة الدينية (على نحو ما اعتبرت صادرة من وحي الهامي).
لكن الأهم في فكرة “التأويل” هو الدور الإيجابي الفاعل للمخاطب في العملية النصية، خلافًا “للتفسير” الذي يفترض غياب هذا الدور، أو يسعى لتغييبه، بحجة أن النص يعبر عن نفسه بنفسه من داخله، وأن علينا حجب ذواتنا الثقافية عن بنية النص لنفهمه كما هو، وكي لا نقوله بما لم يقصد مبدعه (الإلهي وفي السياق الديني/ أو البشري وفي النص القانوني والأدبي).
هذه الرؤية المنحدرة من التراث الديني، ظلت سائدة حتى بعد ظهور الهرمنيوطيقا الحديثة، التي أسس لها شلاير ماخر في القرن التاسع عشر. لقد وسع شلاير ماخر إمكانات التأويل الذي لم يعد يعتمد على قواعد اللغة فحسب، بل أيضًا على قراءة الموقف التفسيري لمؤلف النص وسياقاته الثقافية (سبق للمعتزلة طرق هذا المبحث باشتراط معرفة صفات وحالات قصد المتكلم، راجع مناقشة القاضي عبد الجبار ” للدلالة التصديقية” مدلول الكلام هو مراد المتكلم، وليس ما ينطبع في ذهن المستمع) لكن شلاير ماخر لم يلتفت إلى حضور المخاطب وسياقاته الثقافية.
لاحقًا -بداية من دلتاي، وخصوصًا مع هايدجر وجادامير وبول ريكور- ستبرز سياقات المخاطب (المعاصرة) كضلع أساسي في العملية النصية، وشرط ضروري لإنتاج الدلالة. وبحسب جادامير: تغييب سياقات المخاطب ليست عملية غير مجدية فحسب، بل فرضية مستحيلة أصلاً: معنى النص (التراثي) يتحدد من خلال الأسئلة التي نوجهها إليه في الحاضر. الأحكام المسبقة ضرورية لعملية التأويل وهي أساس قدرتنا على فهم التاريخ، لأنه لا يمكن أن يكون ثمة فهم -علمي أو غير علمي- بدون فروض مسبقة مصدرها التراث ومحاولة التخلص من الذاتية يؤدي إلى تركها تعمل في الخفاء. فالفهم عملية جدلية بين الإنسان والشيء الذي يواجهه، والمعنى شيء متعلق بالحاضر ونابع من الموقف التفسيري.
وهكذا إذا كان محالًا وجود تفسير بلا فروض مسبقة، فإن فكرة وجود تفسير صحيح واحد في ذاته، هي بحسب جادامير فكرة مستحيلة وحمقاء.
مع شلاير ماخر، انتقلت الهرمنيوطيقا “بالتأويل” خطورة فوق الإطار الفيولوجي، لكن ثقافة ما بعد الحداثة تجاوزت بالهرمنيوطيقا إطار “التأويل” ذاته (تقويل النص من موقع سلطته المفترضة)، وحولتها من مبحث لغوي نفسي، إلى مبحث اجتماعي فلسفي، يعيد النقاش حول سلطة النص ذاتها، ويعمل كآلية نقدية في مواجهة الواقع (الحداثة) والنص (الترث) معًا.
أين يقع هذا الحراك المزدوج من الفكر الإسلامي التجديدي المعاصر؟