-1-
يبدي الفكر الإسلامي المعاصر اهتماما لافتًا بنظرية الأصول الشاطبية، التي صار يُعول عليها كآلية قادرة على تجاوز المشكل التجديدي. وهو توجه يشير إلى طموحات تجديدية أكثر تطورًا بالقياس إلى التوجهات السلفية النقلية ذات الطابع الحرفي، لكنه يشير في الوقت نفسه إلى أن هذا الفكر لا يزال ينظر إلى مشكل التجديد بوصفه مسألة فقهية أصولية، تتعلق بآليات التعاطي مع النص. أو في عبارة أخرى؛ بوصفه مشكلًا “تأويليًا” يمكن حله من داخل منظومة التفكير الديني التقليدية. المشكل هنا يختزل في شروط قراءة النص، وليس في حجم تطور الواقع، حيث يفترض أن النص مطلق (أي شمولي مؤبد) قادر على احتواء أي تطور اجتماعي.
المعنى الإطلاقي للنص، يفضي لاشعوريًا في العقل الديني إلى تخفيف الوعي بالواقع ومن ثم بحجم التطور؛ على المدى الطويل وعند الوصول إلى نقطة التناقض الجذري، يفرض التطور نفسه فرضًا على الوعي الديني، لكن عند الوصول إلى هذه النقطة، لا يكون “وجه المسألة” قد تغير فحسب، بل منطوق المشكل نفسه، أي يكون ثمة مشكل جديد ناجم عن أسئلة الواقع الجديدة. لا نكون بصدد تغير في زاوية الرؤية إلى المشكل، بل بصدد تجاوزه كليًا إلى مشكل مختلف، أي بصدد تحول في طريقة التفكير ومادة الوعي ذاته. فنحن نكون بصدد تغير في زاوية الرؤية، فقط عند حصول تطور جسيم لكن دون مستوى التناقض الكلي.
-2-
قدم الشاطبي قراءة تأويلية للنص أكثر وعيًا بالواقع، وتجاوز منهجية الشافعي الجزئية ذات الطابع البياني، إلى منهجية كلية ذات نفس عقلي: تقوم النظرية الأصولية عند الشاطبي على مبدأ الاستقراء الكلي؛ فالجمع بين النصوص الجزئية يؤدي بالتواتر المعنوي إلى إنتاج مبادئ عامة يسميها “الكليات الشرعية” ومن هذا الطريق أثبت الشاطبي المصالح الخمس الكلية (النفس، والمال، والنسل، والعقل، والدين) كمقاصد ضرورية للشريعة، على الرغم من أن هذا المعنى لم يرد في منطوق نص جزئي صريح. واعتبر الشاطبي أن هذه المصالح الضرورية التي تهدف الشريعة إلى حمايتها تبرر جميع الأحكام الشرعية، وبالتالي فهي بمثابة “علة كلية” يمكن القياس عليها. فإذا ما ظهرت مصلحة اجتماعية تستدعي تشريعًا جديدًا (لا يتضمنه نص) يصح اعتماد هذا التشريع ما لم يكن مناقضًا لأحد المقاصد الخمس الكلية.
هنا يتم الاستغناء عن آليات القياس الشافعي الجزئية التي تشترط قياس المسكوت عنه على نص جزئي محدد، أي على “علة جزئية”. وبعبارة أخرى لم يعد القياس ملزمًا، بل يمكن النظر مباشرة في المصلحة من جهة توافقها مع الكليات الضرورية أو مقاصد الشريعة. وهذه نقلة تأويلية واسعة. (فيما قبل الشاطبي، كانت النظرية الأصولية السنية، قد اضطرت تحت ضغط الواقع، إلى الاعتراف جزئيًا بوسائل اجتهاد خارج القياس لاستنباط “المصالح المرسلة” لكنها قرنت ذلك بشروط تقنية تضمن بقاءها في فلك النص أو القرينة النصية الجزئية).
مع ذلك، وعلى الرغم من القول بيقينية المبادئ الكلية المستنبطة بالاستقراء، ظل الشاطبي يسلم بيقينية النصوص الجزئية “المخالفة” لهذه المبادئ، أي ظل يسلم بمفهوم “النصية” السائد كما كرسه الشافعي: لا يجوز استبعاد الجزئي المناقض لكلية بسبب هذا التناقض، لأن المفترض أن هذه النصوص الجزئية لم ترد عبثًا من قبل الشارع، بل وردت لعلة مصلحية قد تكون حماية كلية أخرى، أو حماية جانب من الكلية ذاتها (فالحكم بالقتل قصاصًا يعارض المبدأ الضروري الكلي الذي يقضي بحفظ الحق في الحياة، ولكنه في المقابل ضروري لحفظ هذا المبدأ ذاته من خلال التخويف بالردع). وهكذا ظل الشاطبي محتفظًا بلازمة العقل الديني التقليدية التي تقضي بأزلية التشريع الجزئي حتى لو خالف المصالح الكلية، أي حتى لو خالف التطور.
ولذلك فإن توسيع دائرة الاجتهاد ( التأويل) على أساس المصلحة كما قدمه الشاطبي يظل نسبيًا، فهو يوفر حلًا لمشكل التشريع عند عدم وجود نص، ولكنه لا يوفر حلًا لمشكل التشريع بما يخالف نص. وهذا المشكل الأخير هو المشكل “الحقيقي” الذي يواجه الفكر الإسلامي التجديدي المعاصر لأن قانون التطور لا يطرح نفسه في مواجهة الأحكام الاجتهادية فحسب، بل أيضًا في مواجهة الأحكام المنصوصة، التي يعجز التأويل عن تطبيعها مع الواقع.
كان الشاطبي يصدر، في الأندلس في القرن السادس، عن مناخ عقلي واجتماعي مختلف ومتطور نسبيًا عن مناخ القرنين الثاني والثالث، الذي صدرت عنه النظرية الأصولية في المشرق. وقد خطا بالعقل الأصولي خطوة واضحة خارج الشافعي، مكنته من الحديث عن روح الشريعة وأهدافها الكلية، ورفعت سقف الضوابط التشريعية من حرفية النص الجزئي إلى فحوى المبادئ العامة، وهو سقف تأويلي اجتماعي عقلي واسع ومرتفع. لكن نظرية الشاطبي -وقد ظلت معنية بتبرير الشريعة التفصيلية الجزئية كما هي- تبقى نظرية “تفسيرية” معرضة للانسداد التأويلي.
وفي جميع الأحوال تظل مقاصدية الشاطبي نظرية في ” أصول الفقه” أي مصممة للتعاطي مع الشق التشريعي من النص. صحيح أنها لا تزال قادرة على تقديم حلول “جزئية” لمشكل التناقض الفقهي القائم (قياسًا إلى نظرية الأصول الشافعية)، لكن السؤال الآن هو: هل المشكل القائم في مواجهة النظام الديني يقتصر على التناقضات التشريعية، التي تدخل في فقه “المعاملات”، والتي تعكس –بالطبع- تناقضات اقتصادية واجتماعية مضمرة؟ أم يمتد إلى تناقضات “كلامية” أعمق، هي بدورها، انعكاس للتحولات الحداثية الفادحة على المستوى العقلي والنفسي، التي طالت بنية “الوعي” لدى الإنسان المعاصر، وغيرت طريقة التفكير في المسألة الدينية ككل؟ صحيح أن مستوى التطور العام لا يزال دون مستوى التناقض الكلي مع المدونة التراثية، لكن هذه التحولات أخذت تجد طريقها بوتيرة متسارعة، إلى الوعي الإسلامي المفتوح على العالم بفعل التداخل الثقافي المحموم.
-3-
تميل الهرمنيوطيقا الحديثة بطموحاتها “العلمية”، إلى تطوير قانون موحد لقواعد الفهم تندرج تحته جميع أنواع النصوص، أو جميع مستويات القراءة التي يشتمل عليها النص الواحد. ولذلك فهي على الرغم من إقرارها بالتنوع النصي، لا تتوقف طويلًا أمام الخصائص الذاتية للنص الديني من زاوية المؤمنين به، أي زاوية كونه نصًا مقدسًا إلهي المصدر يتمتع بسلطة تكليفية مؤبدة. القراءة التأويلية للنص في سياق إيماني تختلف عن قراءته من موقع محايد كمادة لغوية محضة، أو كموضوع للتأمل الثقافي.
في النص الديني خصوصًا، تتحدد إمكانيات التأويل بمستوى التطور/ التناقض وصولًا إلى نقطة الانسداد التأويلي، أي بالمسافة الزمنية بين “لحظة النص” ولحظة التأويل. لكن المعنى التأليهي يفرض على التأويل غرضًا دفاعيًا محددًا هو تثبيت سلطة النص ومصداقية دعواه المؤبدة. وهو غرض لا وجود له في النص “الأدبي” التاريخي، الذي لا يحمل مادة تكليفية مقدسة، ولا يظهر بالدرجة ذاتها في النص “القانوني” الساري، الذي يحمل مادة تكليفية، لكنه لا يعتمد في تثبيتها على فكرة المقدس، بل على سلطة التنفيذ الجبري المباشرة.
بالنسبة لنص ديني مقدس، الطرف الأهم في العملية النصية هو صاحب النص، الذي لا يشار إليه “كمؤلف” لمادة مقروءة، بل “كمبدع” آمر لمادة تكليفية. هنا يتراجع دور المتلقي الذي لا يشار إليه “كطرف” في عملية حوارية، بل كـ”مكلف” مأمور في خطاب أحادي المصدر. وفي هذا الإطار تبرز الأهمية الخاصة للحظة النص، التي يشار إليها بـ”زمن النزول”، أي لسياقات التأسيس التي يلزم استخدامها لكشف مراد الشارع صاحب النص (الله) والتي تدور بالطبع حول المبلغ (النبي) والناقل عنه (الصحابة وسلسلة السند)، وتتراجع السياقات الخاصة بلحظة التأويل.
في الهرمنيوطيقا المعاصرة -التي تميل إجمالًا إلى تهميش دور المؤلف بسياقاته “التراثية”، وتصعيد دور المؤول بسياقاته “الراهنة”- لا مجال للحديث عن انسداد تأويلي، فلا شيء يوقف توليد الدلالات من النص عبر الذات المؤولة، فهذه الذات قادرة على تلوين أي نص بثقافتها الخاصة التي تعكس بالضرورة حاجات الواقع الحاضرة. لكن المشكل الذي يطرحه النص الديني لا يتعلق بقدرة الذات على إفراز تأويلات متنوعة، بل بقدرة هذه التأويلات على إثبات معقوليتها من جهة، وإثبات مشروعيتها أمام السلطة التفسيرية الحاكمة، التي تحتكر دلالات النص من جهة ثانية. ومعنى ذلك أنه طالما لم يصل التطور إلى لحظة التناقض القصوى وفرض التجديد، يظل التأويل قاصرًا عن إنتاج معنى تجديدي فاعل من الناحية العملية. وهذا أحد أوجه القول بأن التجديد الديني ليس مجرد مشكل تأويلي.
يتبع