منصور النقيدان*
كلمة ألقاها مدير مركز المسبار في وزارة التعليم العالي الفرنسية، بتاريخ 28 يناير2016، ضمن مؤتمر نظمته اليونيسكو والمفوضية الأوروبية ومشروع علاء الدين، حول الشباب الأوروبي والأفريقي والعربي وتهديد التطرف والتعصب والإرهاب. الخيارات والمستقبل.
منذ العام 2007 بدأ مركز المسبار للدراسات والبحوث في دبي نشاطه عبر إصداره الكتب الشهرية، كان أمامنا مثال متفرد في المنطقة العربية، وهو دولة الإمارات العربية المتحدة، وفي لب حركة التطور الذي تعيشه البلاد، كانت دبي كل يوم تشق طريقها نحو تشكيل نموذج للتعايش والتسامح والحياة الكريمة. بعد ثلاث سنوات من انطلاق نشاطه كان المسبار فيها يركز اهتماماته على تغطية النقص في مجال دراسة ظاهرة الجماعات الدينية والحركات الإسلامية.
في نهاية العام 2010 أجرينا الكثير من النقاش مستحضرين الخبرة التي اكتسبناها عبر دراسات ومراجعات وتبادل الخبرة مع عشرات الخبراء والمثقفين. أثمرت هذه النقاشات خلاصة هي أن المشكلة العميقة للتطرف والإرهاب تعود إلى عدة عوامل متضافرة، منها سياسية ومنها اقتصادية واجتماعية / ثقافية، وانصب اهتمام المركز في مجال اهتمامه وهو أن من أسباب هذا التطرف غياب التسامح، وها نحن اليوم نشاهد سهولة انزلاق التعصب وعدم التسامح بين “الآخرين” سواء كانوا من غير المسلمين أو من المذاهب الأخرى، والعواقب الوخيمة نراها أمامنا في الحرب الأهلية التي يعيشها العراق وسوريا. وقد وجدت الجماعات الدينية منذ سبعينيات القرن الماضي بيئة خصبة لتنفيذ أجندتها عبر تغذية هذا الانقسام الذي بدأ يتنامى بشكل مخيف حتى بلغ ذروته في العام 2011.حيث تحولت السنوات الخمس الماضية إلى ربيع للإرهاب في أبشع صوره، وقد عاشت فرنسا أحداثاً دامية حزينة في السابع من يناير 2015، وفي الثالث عشر من نوفمبر الماضي، تسبب بها مع الأسف شباب مسلمون.
إن واحدة من المسائل التي يجب أن تشغل بال المفكرين ومراكز الأبحاث المعنية بدراسات التطرف العنيف، هي كيف يمكن لشباب وفتيات المسلمين أن يعيشوا إيماناً فرحاً متصالحا، في تناغم رغم الاختلاف في الخلفيات والأصول، ومن دون أن يتحولوا إلى أداة للتدمير تستهدف الأبرياء وتثير الخوف، وتهشيم فضاء الحريات التي ينعم المسلمون أنفسهم بها في المجتمعات الغربية.
إن التساؤل عن : كيف يمكن لك أن تكون مسلماً صالحاً من دون السعي لفرض نمط حياتك على الآخرين، وكيف يجد المسلم التقي سلامه الروحي من دون أن يتحول إلى أداة لضرب الاستقرار والسلم في المجتمع ، هي واحدة من المسائل التي يجب على المفكرين والخبراء ومؤسسات التعليم والتربية العناية بها.
واجه المسلمون في القرنين الحادي عشر والثاني عشر في فترة الحملات المغولية المدمرة التي اكتسحت العالم الإسلامي هذا السؤال، حيث كان كثير من القضاة والتجار والأئمة يعيشون ويعملون تحت ظل الحكم المغولي الذي اعتبره فقهاء الإسلام حكماً وثنياً. وفي الشام وجد مئات آلاف من المسلمين أنفسهم يعيشون في ظل الحروب الصليبية في فلسطين تحت حكم القادة الصليبيين لعشرات السنين وقد سايرَ المسلمون واقع الحال رغم اعتراضات الفقهاء بين الحين والآخر.
ومنذ العشرينيات من القرن العشرين تسبب انتعاش الحركات الإسلامية في إعادة صياغة مفهوم الإيمان المسلم، وهو أن المسلم الحقيقي هو الذي يجعل رسالته السامية تغيّر المجتمعات والقوانين والحياة لتتوافق مع الحاكمية لله لإقامة الخلافة. اليوم يعيش كثير من المسلمين المتدينين في العالم الغربي وفق هذه العقيدة التي تقول: إن المسلم المتدين يمكنه التوافق مع الحياة غير الإسلامية عبر موقف مزدوج. وهذا بالتأكيد غير مقبول.
إن من أهم القضايا التي تشغل الحكومات الغربية الآن هي: كيف يمكن للمسلم أن يعيش في انسجام ويسهم في ازدهار مجتمع متنوع ومتعدد من دون أن يجعل من إيمانه سبباً في عذابه وعزلته، أو أن يجعل من إيمانه عاملاً في عدم الاستقرار والخوف وإثارة الكراهية في المجتمع. إن جزءاً من المشكلة يكمن في أن الإيمان الذي يتلقى أبناء المسلمين تعاليمه وتفاصيله منذ الصغر هو أنه يغرس فيهم تصوراً مغلوطاً عن العالم، وأن العالم يجب أن يكون ملكاً للمسلمين، بحيث يمنحهم إيمانهم العُلوَّ على من عداهم من أبناء الديانات، إنه إيمان يحثهم على تغيير مجتمعاتهم لتتوافق مع تصوراتهم.
في استبيان قامت به مؤسسة زغبي للأبحاث في شهر نوفمبر الماضي، قال 99% من الشباب الذين يعيشون في الإمارات إن لهم أصدقاء من غير المسلمين، وأجاب 84% من هؤلاء الشباب من الإناث والذكور إنهم يؤمنون بأن الإسلام تجربة روحية وعلاقة خاصة بالله. المستطلعة آراؤهم هم فئة الشباب من عمر الرابعة عشرة حتى الرابعة والثلاثين. إنّ هذه الظاهرة الفريدة مرتبطة إلى حدٍ كبير بالكيفية التي تروّج الإمارات العربية المتحدة عبرها الدين على أنّه مسألة خاصة يجب ألّا يؤثر على الغير.
علينا جميعاً دراسة مثل هذه الأمثلة التي تساهم في خلق التوافق والانسجام رغم الاختلاف. يمكننا وصف هذا الإيمان بالتدين البهيج. ويبدو أنّ التصوّف جزء من الحل، ولكن الإيمان بدون شريعة هو جواب جذري ليس باليسير، إلّا أنّ هناك نماذج يجب إحياؤها عن إبقاء خيار التديّن شخصياً دون أنْ يكون له تأثير على حياة الآخرين.
المؤسسات الدينية التقليدية في العالم الإسلامي، والتيارات والحركات الإسلامية تحارب مثل هذه الأفكار. فالمؤسسات الدينية التقليدية التي تسعى –صادقة- إلى أن تحل مكان الحركات الإسلامية التي استأثرت لعقود من السنين بالمجتمعات الإسلامية، لا يمكن لها أن تقدم نموذجاً إيمانياً منسجماً مع المجتمعات الغربية ومع التعددية التي تعيشها فرنسا، فهي لا يمكنها أن تسهم بأكثر من مساعدة المسلمين في فرنسا وفي غيرها على قبول الأمر الواقع. كما أن هذه المؤسسات الدينية لا تتحلى بشجاعة ملامسة المسائل ذات الحساسية الكبيرة ومراجعتها، وخصوصاً تحول الإنسان من دين إلى دين، أو المساواة بين المسلم وغيره، وهي قضايا تضغط على جيل الشباب المسلم في أوروبا. في المقابل فإن الحركات الإسلامية ومؤسساتها التي تعيش في أوروبا ليست مؤهلة ولا محلاً للثقة في الآن نفسه، فكل الأحزاب والتيارات والحركات الإسلامية وعلى رأسهم الإخوان المسلمون تجعل من الشاب المتدين وسيلة لتنفيذ أجندتها وهو إقامة الخلافة على الأرض.
إن مركز المسبار يجعل من السعي إلى مساعدة شباب المسلمين في أوروبا، أحد مشاريعه التي تحتاج إلى تعاون من شركائنا وزملائنا، سعياً منا إلى مساعدة مجتمعاتنا للسلام والاستقرار. إن لدينا قناعة بأن كثيراً من الشباب المسلمين يعيشون القلق ويبحثون عن إجابات، وهم ظامئون إلى خلاص من العذاب الروحي ومن الاغتراب، كما أن هذه القضية هي من أولويات المؤسسات التربوية، وهي مصدر قلق المؤسسات الأمنية، وواجب الحكومات وصناع القرار.
شكرا لكم
إستمع للكلمة التي ألقاها مدير مركز المسبار في وزارة التعليم العالي الفرنسية