وصف الوثيقة
في هذه الحلقة نستكمل قراءة الرسالة التي أرسلها، الدكتور محمود أبو السعود، أحد القيادات التاريخية لجماعة الإخوان المسلمين، والكوادر الذين أسسوا التنظيم الدولي لها، وأهم الأذرع التي أسهمت في بناء الإمبراطورية الاقتصادية للتنظيم عالميا، لقيادات مكتب إرشاد الجماعة في القاهرة، بتاريخ 13/8/1988، واتهمهم فيها بنقص الشرعية -وهو ما أفردنا له حلقة كاملة- ونقص الأهلية وهو ما نتحدث عنه في هذه الحلقة.
تقع الرسالة في (9) صفحات مكتوبة بخط يد «أبو السعود»، وضمن سلسلة رسائل أخرى، لمكتب الإرشاد، وصلت إلينا عن طريق، قيادي آخر في الجماعة، هو محمد المأمون، أحد من أسسوا فرعًا للجماعة في الكويت منذ أواخر ستينيات القرن الماضي، والذي شهد بأن هذه الرسائل هي بخط يد «أبو السعود» وذلك عبر حوار مسجل «فيديو» نحتفظ بنسخة منه.
( للاطلاع على الحلقة الأولى اضغط على الرابط التالي: ….)
أبرز ما جاء فيها
يؤكد كاتب الرسالة أن عناصر النظام الخاص القديم للجماعة، استطاعت الانفراد بقيادتها، وإقصاء القادة الآخرين، ممن لم يتربوا على ثقافة وأدبيات النظام الخاص.
كما أن هؤلاء ليس لديهم الكفاية والأهلية لتولي زمام القيادة في هذه المرحلة، كونهم لم يمتلكوا خبرات في المجال العام، وإن اضطروا في مرحلة من المراحل إلى محاولة مواكبة العصر الجديد، إلا أنهم على الرغم من ذلك، لم يستطيعوا التخلي عن ثقافة النظام السري الخاص.
أهمية الوثيقة
تلف فترة ما يطلق عليه «التأسيس الثاني لجماعة الإخوان» قدرًا كبيرًا من الغموض، نتج فيما يبدو عن دخول المئات من جيل السبعينيات الذي وصف لدى البعض بـ«الانفتاح» فبدا على مشهد الجماعة لغير المطلعين عليها من الداخل، يشي بتغيرات تأتي في صالح تحولها في اتجاه الاندماج مع المجتمع.
بيد أن مجموعات النظام الخاص كانت تعمل على قدم وساق للتحكم في مفاصل الجماعة، وإعادة هيكلتها بعيدا عن الأعين، تاركة الشبان الجدد ممن أطلق عليهم -فيما بعد- «الجيل الإصلاحي» لصدارة المشهد العام، لكنهم منزوعو الصلاحية.
تكشف هذه الوثيقة جزءا من حقيقة تمكن رجالات التنظيم السري القديم من الجماعة واستحواذهم عليها مبكرًا، كما تكشف طرقا من أساليبهم الملتفة وازدواجية خطابهم.
تحليل الوثيقة
بعدما فرغ «أبو السعود» في رسالته من الحديث عن ما أسماه نقص الشرعية في التنظيم، شرع في المحور الثاني من رسالته في الحديث عن «الأهلية»، بيد أنه اعتبر أنه « ليس المقصود بهذا العنوان الطعن في أهلية القائمين على الدعوة أو في كفايتهم» بل يرى أن هناك نقصا في الأهلية.
يستخدم الرجل كلمة «نقص الأهلية» بدلا من «الطعن في الأهلية» بل ويؤكد ذلك، ويلفت إلى أن المقصود -حسب أبو السعود- هو «وجود نقص فيما تتطلبه الدعوة في هذه المرحلة، من كفايات أخرى غير متاحة لهم، خصوصا وهناك كثير من الإخوان ذوي السابقة توارت لديهم كفايات يشهد لهم بها الخاص والعام من المسلمين وغيرهم، داخل مصر وخارجها…».
هنا يظهر اعتراض الرجل على إقصاء من يرى أنهم «كفاءات إخوانية» ويطرح سؤالا محوريًا: «لماذا يُحجّم هؤلاء الإخوان الأفاضل عند تقديم ما تتطلبه ظروف الدعوة الراهنة من جهود وآراء؟».
ومع أن «أبو السعود» يرى استبعاد قادة من الجماعة لديهم القدرة والأهلية والكفاية، إلا أنه يبدي تعجبه من ترديد القائمين على الجماعة لمقولات عكس ذلك تمامًا فيقول: «والعجيب أن القائمين على الدعوة يجأرون بأعلى أصواتهم شاكين أنهم قد دعوا كل صاحب علم ورأي أن يدلي برأيه وأن يقدم لهم علمه وخبراته، فلم يجدوا استجابة من غالبيتهم، ثم هم يتهمون البعض بأنهم جالسون في بروجهم العاجية، أو مشغولون بالدنيا ومتاعها، كما أن منهم من يجهر بنقد قيادة الجماعة الحالية، ومن يخالف عن رأيها ونظامها…».
يروي الرجل قصة يحاول أن يرد بها على مقولات المتنفذين في التنظيم ليثبت في نهاية الأمر أنهم لا يرغبون في منازعتهم القيادة، وأن ما يدعونه حجج واهية لا أصل لها: « ويرد كثيرون من أهل العلم والخبرة بأنهم دعوا فعلا من قبل البعض ليساهموا في بناء الصرح الفكري للدعوة، واستجابوا فعلا للدعوة وتباحثوا في بيت أحدهم في الموضوع، ولكن القيادة أنكرت عليهم “شرعية” اجتماعهم بغير دعوة منها، وبغير علمها وإذنها.. وإذن فليتفرق المجتمعون، ولتخسر الدعوة جمهورهم.. وطبعا.. إن للدعوة ربا يحميها..!».
يستنكر «أبو السعود» تلك التصرفات، التي تشي بانعدام الرغبة لدى القيادة في استحضار هؤلاء المهمشين، حتى وإن ادعوا عكس ذلك ويكمل: “ثم يتساءل القادة: لماذا لا يحضر هؤلاء المفكرون وذوو الخبرة (ويسلموا) أنفسهم للقيادة، ولماذا هم معرضون؟ إن الله وحده يعلم هل يجهل القائمون على الأمر الجواب أم هم يتجاهلونه..”.
لكن «أبو السعود» لديه إجابة عن ذلك الاستفهام، يعود من خلالها إلى التشكيك في شرعية هؤلاء القادة: «كل ما يمكن أن يستشف من ظاهر الحال هو أن القادة وقد اقتنعوا تماما بشرعية وجودهم ونظامهم .. ظنوا أن غيرهم ملزم بالاقتناع بها، وبالتالي وضعوا أنفسهم في موقع صاحب الأمر والنهي في الدعوة حتى فيما يتعلق بالشكليات، فمن لم يتصرف شكلا حسبما يريدون فعليه إثم المفارق للجماعة».
يضرب الرجل مجددا -على ما يبدو- في مجموعة النظام الخاص القديم، التي يرى أنها قد نجحت في الهيمنة على مقاليد الجماعة كلها، إلا أنها باتت تحتاج إلى كفاءات جديدة تستخدمها كواجهة، بعدما أيقنت أن معركة العصر الحالية، لا يمكن أن تكسبها بأسلوب النظام الخاص القديم: «أغلب الظن أن إخواننا القائمين على الأمر قد بدؤوا يدركون أن القضية ليست قضية تكوين أسر وخلايا، وأن المعركة الحالية لا تكسب بتكوين جهاز خاص جديد، بل هي قد تطورت وأصبحت معركة فكرية حضارية، فإن صدق هذا الحدث، بل إن صح أن أغلبهم موافقون على ما جهر به أحدهم في جلسة ضمت كاتب هذه الرسالة، وبعض القادة الحاليين.. إن صح هذا فإنه اعتراف بالنقص في الأهلية لا يحتاج إلى دليل آخر، خصوصا وقد أعلن غير واحد من الإخوان البرلمانيين أنهم أحوج ما يكونون إلى ذوي الكفايات المتمرسين في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية والسياسية».
ومع احتياج قادة النظام الخاص القديم إلى نوعية جديدة من الكوادر تناسب المرحلة، إلا أنهم يصرون على استخدام آلية النظام الخاص في توظيف هؤلاء، لأنهم جبلوا على ثقافته وتربيته.
يدلل «أبو السعود» على ذلك قائلًا «والمؤلم حقًا -وإن كان منطقيا أيضا- أن يقول أحد القادة: إن على كل ذي كفاية أن يحضر إلى دار الدعوة وأن “يسلم نفسه” للقيادة.. إنه مؤلم لأنه أقرب إلى الهزل منه إلى الجد، وهو منطقي لأنه يعكس طريقة تفكير من يقول به، إذ هو معذور في تصوره.. إنه منطق الجهاز الخاص الذي ربي فيه والذي شاب عليه.. مرة أخرى لا تثريب ولا تجريح».
يحدد الرجل معالم لنقص الأهلية لدى القيادة والذي يرى أنه واضح تماما -حد وصفه- في النقاط الآتية:
- فيما يصدره القادة من بيانات سياسية.
- وفيما يكتبه القادة من مقالات توجيهية.
- وفيما يتحدث به البرلمانيون من مشروعات وقوانين.
- وفيما تتصوره الجماعة من حلول جديدة إسلامية لمشاكل الناس القائمة.
- وفي غياب برنامج للدعوة يقوم على منهجية علمية، ويرسم أطر الحلول العملية، ويحدد الأهداف القديمة والبعيدة.
يعتبر الرجل أن في هذا النقص الكفاية، بل فيه ما ينذر بالخطر إن لم يتدارك الأمر ويستكمل النقص، مبديا تعجبه من أن يقول أحد القادة في حضوره: «إنه لا يمانع في أن يسهم قبطي في البحث عن الحلول، وفي دراسة ونقد ما تقدمه الحكومة من مشروعات.. إن القواعد الأولية وبسابق المعرفة تقرر أن الحلول تتبنى على أصول تتبع من مذاهب معينة لتصب فيها، لذلك كانت حلول المشكلات التي يقول بها حزب اشتراكي –مثلا- مختلفة تماما مبنى ومعنى، غاية ووسيلة، عن حلول للمشاكل نفسها يقول بها حزب حر (ليبرالي أو رأسمالي ديمقراطي) وهنيئا آنئذ للإخوان القادة بقبطي يساعدهم على إيجاد حلول (إسلامية) لهذا الوطن البئيس، مفضلين ذلك على إخوان أرادوا حمل العبء، ولكنهم اجترؤوا على الاجتماع خارج دار الدعوة…».
يصل أبو السعود في النهاية لطرحه حول استكمال النقص، فيرجع إلى محاولة استكماله في مقام الشرعية فيقول: «لا محيص عن الرجوع إلى الهيئة التأسيسية وعن تطبيق أحكام النظام الأساسي، فإن كان العدد قليلا نظرا لأن القائمين على الدعوة يعتمدون عدم دعوتها سنين طويلة فغاب منهم من غاب، فللهيئة أن تطلب من لجنة العضوية ترشيح من ترى لزيادة العدد، ولها أن تضم إليها من تعتمد، وحينئذ تقرر ما تشاء وتنتخب من تشاء».
أما في مقام نقص الأهلية فيرى قبل أن يطرح رؤيته وجوب القيام بخطوة إجرائية لمعرفة ما إذا كان هؤلاء القادة المتنفذون لديهم الرغبة في الإصلاح من عدمه فيقول: «محك صدق الرغبة في اكتساب الشرعية قيام القيادة الحالية بحصر أسماء أعضاء الهيئة التأسيسية مستعينة بالإخوان القدامى المتمسكين بالشرعية، ودعوة الهيئة إلى الاجتماع بالصورة التي تسمح بها الظروف الحالية».
ويربط بين الشرعية والأهلية باعتبارهما كلاً لا ينفصل فيقول: إذا وجدت الشرعية وجدت الأهلية دون شكك، إذ سيقبل الكثيرون على العمل في جو الشرعية الأهلية دون شك، إذ سيقبل الكثيرون على العمل في جو آخر متحرر من هذه الشكليات، بل سيجد أصحاب الفكرة أن الخير أن تجتمع جهودهم الفردية، وأن يحدث تبادل للأفكار، ونقد للآراء فيستفيد كل مساهم في هذا المعترك كما يستفيد المجتمع كله».
يخلص كاتب الرسالة في نهايتها إلى أنه «يقرر أنه سمع من الكثيرين من الإخوان ذوي الكفاية والخبرة، في مصر وخارجها، أنهم على استعداد للمساهمة في أي نشاط فكري وعلمي إذا استكملت الجماعة النقص في شرعيتها، وعدلت القيادة عن سياسة الأمر الواقع، ورجعت إلى النظام الأساسي للجماعة وأحكامه فنفذتها».
يصل أبو السعود إلى أن الجماعة إن رفضت الأخذ بما طرح فإنها ستؤول في نهاية الأمر إلى نهاية بائسة فيقول: «أما إن رأى القادة الحاليون استمرار الأوضاع على ما هي عليه -وأدعوا الله ألا يجنحوا إلى هذا الرأي- فسيظل غير قليل من المخلصين وأهل السابقة والفكر غير متعاونين معهم، وسيصعب عليهم أن يكملوا النقص في الأهلية، وسيعرضون الدعوة إلى ما لا نحب لها وما لا يحبون».