يبدأ دارسو الإرهاب دوماً بإزاحة اللثام عن قضايا إشكالية أساسية؛ يشرحون خلالها -على الأغلب- أن الإرهاب عبر التاريخ لم يبد كما يبدو اليوم، وأنه موجاتٌ وأنواع، تتفق في التهديد بالعنف لتحقيق أهدافٍ سياسية؛ ولذلك فالدراسات متباينة.
ومثله مثل مصطلحات عديدة في العلوم الاجتماعية والسياسية؛ لم يستقر الإرهاب اليوم بوضوح على تعريفٍ واحد، وذلك لتعدد زوايا النظر إليه كظاهرة وكحدث. والحيلة المفضّلة للمتورطين في تدريس الإرهاب هي البداية بالمغالطات التي تتنشر بين الناس، والتوقّعات التي تستند إلى رؤى مشوّشة وتوضيحها، وفي الأثناء يتم بناء خبرةٍ جيّدة حول التطرّف الفردي ودوافعه وتحوّله نحوالعنف، ثم تطرف الجماعات وأنواعه، ثم الدعاية للإرهاب.
صرّحَت الروسية فيرا زاسوليتش بمحاولة اغتيال الحاكم العام لسان بطرسبرغ في العشرية قبل الأخيرة من القرن التاسع عشر (العام 1877م)، قائلة: أنا إرهابية ولستُ مجرمة أو قاتلة. كانت تُعَبِّر عن إرادة الحركة الفوضوية ورغبتها في نشر الرعب في الصفوف الأخرى.
ولما كانت سُنَّة الاغتيالات تلك أتت بموجة من الإرهاب، بقيَتْ قوانين الدولة تنظر للإرهاب على أنه جريمةُ اغتيال القيادات السياسية للدولة، قبل أن تطرأ تغيُّرات على الظاهرة والتفاعل معها، فتباينَتْ إزاءها وجهات النظر، وتغيَّرَتْ باختلاف مدارس التفكير، والظروف السياسية، وجملة من العوامل التي تجعلنا قادرين على الإجابة على سؤال: لماذا لا يتفق الدارسون للإرهاب عموماً، والإرهاب في نسخته الأخيرة بشكل خاص؟ وما هي المدارس التي يُمَثلونها؟
جدال لا ينتهي: الإرهاب؛ الإضراب؛ الجماهير؛ والدولة الاشتراكية والرأسمالية
يقول تروتسكي في مقالٍ نشره العام 1911، يفرّق فيه بين الإرهاب الفردي والجماعي ويهاجم الرأسمالية: “تعَوّد خصومُنا الطبَقيّون التذمّر من إرهابنا، بيد أن ما يقصدون ليس واضحاً جداً. إنهم يُفضّلون وصف كل أنشطة البروليتاريا الموجّهة ضد مصالح أعدائنا الطبقيين بالإرهاب. والإضراب في نظرهم هوالطريقة الرئيسية للإرهاب. فالتهديد بالإضراب، وتنظيم حراسة إضراب (piquet)، ومقاطعة رب عمل مستعبِد، ومقاطعة معنوية لخائن من صفوفنا، هذا كله في نظرهم إرهاب، إضافة إلى كثير غيره. إذا تصوَّرنا الإرهاب على هذا النحو، بما فيه كل عمل يثير الفزع أو يضر بالعدو، فطبيعي ألا يكون صراعُ الطبقات بِرُمّته سوى إرهاب. ويبقى السؤال الوحيد: هل يحق للساسة البورجوازيين أن ينفثوا سيل سُخطهم الأخلاقي على الإرهاب البروليتاري، في حين أن جهاز دولتهم كله، بقوانينه وشرطته وجيشه، ليس سوى جهازٍ للرعب الرأسمالي؟”.
ويبرر تروتسكي منطقه بأن الاغتيال لا معنى له؛ لأن “الدولة الرأسمالية لا تستند على الوزراء ولا يمكن إلغاؤها بزوالهم. فالطبقات التي تخدمها الدولة ستجد دوماً بدائل، وتظل الآلة سليمة وتواصل اشتغالها”، ويؤكد: “الإرهاب الفردي مرفوض في نظرنا، بالضبط لأنه يحط، في وعي الجماهير، من دورها، ويجعلها تستسلم لعجزها، ويشد نظرها إلى بطل منتقم، ومُنقِذٍ تأمل أن يأتي ذات يوم وينجز رسالته”، وفي فقرة لاحقة يقول: “ظهَرَ الإرهاب، قبل أن يتبوّأ مرتبة وسيلةٍ للنضال السياسي، في شكل أعمال انتقامية فردية. كذلك كان الأمر في روسيا أرض الإرهاب الكلاسيكية. فقد دفع جَلْد السجناء السياسيين فيرا زاسوليتش إلى التعبير عن شعور الاستياء العام بمحاولة اغتيال الجنرال تريبوف. واقتدَتْ بها دوائر الانتلجنسيا الثورية التي أعوزَها أيُ سند جماهيري.
إن ما بدأ كعملِ انتقامٍ غير متعقِّل، تطوَّر ليصبح نظاماً قائماً بذاته في سنوات 1879م-1881م، وكانت موجات الاغتيال التي يقوم بها الفوضويون بأوربا الغربية وأمريكا الشمالية تأتي دائما عقب فظاعةٍ ما اقترفتها الحكومة، كإطلاق نار على مضربين أو إعدام معارضين سياسيين. إن أهم مصدر لسيكولوجية الإرهاب هوشعور الانتقامِ الباحثِ عن مخرج”.
يبدومن حديث تروتسكي، أن الاتهامَ بالإرهاب ونفيَه قديم، وليس ظاهرةً جديدة، وأن محور “الانتقام”، والجوع إلى البطولة والرمزية، هودافع نفسي يبقى حاضراً، كما أن التبرير الناعم للإرهاب وتغليفه بإطار من المشروعية المطلَبِيَّة السياسية عنصر رئيس، والأهم هو ظهوره في أجندة الدول، سواء التي تتبناه أو التي تتهم الآخرين به.
هذه الإطلالة، بقليل من التدبُّر، تدل على أن المشكلة أبعد قليلاً مما نظن، وليست مشكلة “صراع” جديد بين ثقافة بعينها والعالم كما يَتوهّم البعض، بل منتوج تراكمي يُعاد صياغتُه بأشكالٍ متنوعة، بيد أن هذا لا يمنح أحداً صكّ براءة من إثم تأجيجه باستخدام النصوص والسياقات، ولا يلغي أن ثمة جماعات تستغله لكسب رصيد سياسي.
والسؤال، كيف رتَّب دارسوالإرهاب هذه الملفات؟
الخلفيات الحالية: من أين يأتي دارسوالإرهاب؟
يأتي دارسو الإرهاب من خلفيات متعددة، ولكن يظل مجال “العلوم السياسية”، هوالمُنتِج لأكبر عدد من الدارسين في الفترة الأخيرة، وهم يَنظُرون بشكل محدد لوضع الإرهاب في النُّظُم السياسية، ويَطرحون أسئلة من قبيل: كيف يتم إنتاجه داخل النظم السياسية، وكيف يؤثِّر على هذه النظم، وبالتالي كيف يؤثِّر في العملية السياسية وعلى عملية اتخاذ القرار، وكيف تعمل وتتفاعل الحكومات مع الأحداث الإرهابية أو الأحداث التي تؤدي إلى فتح فرصٍ لنموالإرهاب؟
ثم تالياً تأتي “دراسات الحرب والعلوم العسكرية”، التي نبَعَتْ من الحاجة الميدانية لهذه الدراسات، فهي تدخل من باب تحليل تكتيك القتال، وشرح العقيدة القتالية للجماعات، وصولاً إلى العمليات وأنواعها، وأنواع الأسلحة المستخدمة وتقييم الخسائر، وأغلب المنضوين تحت هذه المدرسة من أبناء المدارس العسكرية.
والاتهامات التي تطال هذه المدرسة من قبيل أنها تتوسّع في توصيف الأحداث بأنها أعمال إرهابية، وتعمل على تضخيم الخطر، كلها تنبع من نظرة مؤامراتيّة تزعم أنهم يرغبون في تضخيم ميزانيتهم، ولذلك غالباً ما يتصارع أبناء هذه المدرسة مع الآخرين، ويفضِّلون الانزواء للإدلاء بآرائهم في الجلسات المغلقة، ويستأثرون بالبيانات الفعلية لما هو على الأرض.
وثمة زاوية “العلاقات الدولية”، وهنا يكون الاهتمام بمعرفة من يضع الإرهاب في الأجندات ولماذا، وما هي تأثيرات مكافحة الإرهاب على العلاقات بين البلدان على سبيل المثال، هل تقود إلى تحالفات أم نزاعات؟ وأسئلة العلاقات الدولية تنظر لهذه الظاهرة “الدولية”، وتحاول تفسيرها باستخدام النظريات الجديدة في العلاقات الدولية، كما سنرى.
مؤخراً أُضيف “الإعلام” لمجموعة الدارسين، باعتبار أن الرسالة الإرهابية تقوم على “نشر الذعر”، وهذا يحدِّده تعامل المجتمع وكيفية وصول الرسالة إليه، وهنا يتم دراسة الإرهاب من باب كيف يتم التعامل مع الحادث الإرهابي، وكيف يُعلَن عنه، وأهمية الوصول إلى الصمود المجتمعي، والتعافي، والتوعية. ولعل هذه المدرسة تزدهر بعد الإخفاقات التي عاشها العالم مع تجربة داعش، والتي حققَتْ بعض أهدافها باستخدام “الدعاية” الإعلامية المضادة، وتعتمد هذه المدرسة الإعلامية على قياسات آراء المواطنين، وتقييم آرائهم ومخاوفهم ومقارنتها مع التحديات الحقيقية.
وبالحفر في الماضي، فإنّ “علم النفس” حاول في السبعينيات من القرن الماضي الاستحواذ على “تفسير الإرهاب”، حينما حاول صنع نمط معين للشخصية الإرهابية، وفشل في ذلك، قبل أن يعود قبل أعوام ليقَدِّم اعترافات وتفسيرات، تنطلق من التسليم بالسلامة العقلية للإرهابيين، وتعيد إسقاط التفسيرات الشخصية على مراحل مقتطعة لا تطعن في اتساق التصرف العام للإرهابي. فبدلاً من اعتباره سلوكاً إجرامياً، أصبح الإرهاب مسألة في علم الأمراض والانحراف واضطراب الشخصية، وقد وُضِعَتْ مجموعة كاملة من نظم التصنيف، على أساس علاقةٍ مزعومة بين الإرهاب والشذوذ. ثم، في الآونة الأخيرة، تَحوّل الحديث في علم نفس الإرهاب إلى تعيين أحداث حياةٍ معيَّنة تُفسِّر لماذا يتحول الأفراد العقلانيون إلى سلوك إرهابي، ولكن تم استبعاد أغلب الفرضيات التي كانت تشير إلى اعتلالٍ نفسيٍ دائم يعفيهم من المسؤولية. وعلماء نفس الإرهاب يهتمون أيضاً بتفسير ظواهر مثل العمليات الانتحارية، وأهمها الدراسات عن فِرَقٍ فدائيةٍ منتمية لنمور التاميل الإرهابية وغيرها.
هناك مجالات أخرى، مثل “دراسات الصراع”، و”القانون الدولي”، والإدارة العامة”، و”العلوم الشُرَطية”؛ واصلت هي الأخرى تقديم طروحات تنطلق من زواياها التي تفسر حركةَ الجماعات والأفراد على حدٍ سواء، انطلاقاً من منظور “الدولة” والحرب الأهلية وغيرها.
وفي مقاربته حول هذه المدارس، يقول إدون باكرEDWIN BAKKER ، في عرض كتابه عن الإرهاب ومكافحته: “ثمة ثلاث مقاربات أساسية؛ الأولى هي المقاربة العقلانية أو الأدواتية، وهي تحاول فهم الإرهاب والإرهابيين كأفعال عقلانية، وأشخاص فاعلين عاقلين يريدون تحقيق أهداف سياسية محددة، فأفعالهم الإرهابية وهجماتهم هي أدواتهم لذلك، وغالباً ما يتم تنفيذها بعد تحليل للثمن أو -التكلفة- والفائدة”، وما قاله بيكر هنا هوما حاولَتْ أن تُقدِّمه السيدة مارثا كرينشو منذ سبعينيات القرن الماضي، في دراستها لأسباب الإرهاب، ومحاولتها تفسير انضمام فرد لجماعة إرهابية ثم بقائه فيها أو خروجه منها، وقد استطاعت أن تضع بعض الملامح في الثمانينيات لعلم نفس الإرهاب، ولكنها ظلّت تنظر للإرهاب كفعل عقلاني، ونظرت للإرهابيين كفاعلين عقلانيين، يتحرّكون تعبيراً عن ظواهر اجتماعية وسياسية، لتحقيقِ لفتِ نظرِ القيادة أو المجتمع.
ومؤخراً استطاعت كرنشو أن تحسم وجهتها حيال الإرهاب بموجته الدينية وشكله المنبعث من القاعدة وداعش وحزب الله، وتُقِرّ بأنّ هذا النمط جدير بأدوات جديدة غير تلك التي كانت إبان الموجة اليسارية للإرهاب؛ فالحرب على الإرهاب، والعزلة الفكرية، ومجموعة عوامل اجتماعية، كلها أدت إلى ابتكار راديكالي هيّأ لجيل جديد من الإرهاب.
المقاربة النظرية الرئيسية الثانية تخص علماء النفس الاجتماعيين، وتركز بشكل أساسي على تفكير وفعل الأفراد والجماعات الأصغر، وهذا هوالفارق الأساسي بينها وبين المقاربات العقلانية أو الأدواتية التي ترتكز على أنظمة سياسية أوسع، وسلوك سياسي وعمليات سياسية.
وثالث مقاربة أكاديمية أو نظرية رئيسية، هي المقاربة متعددة المجالات، وهي تتسع قبل أن تضيق أمام مأزق التاريخ؛ هذا عوضاً عن ناشطي حقوق الإنسان الذين يهتمون الآن بالآثار الجانبية لحملات مكافحة الإرهاب.
وبرزت مؤخراً دعوات لدراسة الإرهاب الذي تمثّله داعش والقاعدة والإخوان وغيرها، من باب “”الأخلاق السياسية“، وهي دعوة تَدْرُس نظرية الحرب في الإسلام، وتحاول ربطها بالواقع.
كيف لا تَدْرُس الإرهاب: إرهاب الدولة والفاعل الخفي
في دراستها “كيف (لا) تدرس الإرهاب”، حاولت فيرينا Verena Erlenbusch أن تتَتَبّعَ تطوّر دراسات الإرهاب عبر الحقب؛ فلما ظهرت موجة الإرهاب في النصف الثاني من القرن الماضي، في فترة التحرر الوطني والنضال من أجل الاستقلال، إبان تَفَكُّك المستعمرات من جهة، وتَشَكُّل حركات معارضة إيديولوجية للديموقراطية الليبرالية من جهة، نشأَتْ حاجة لدراسة العنف السياسي الذي تمارسه جماعات لا تُمثِّل الدولة والحركات الاجتماعية المتطرفة، فوُجِدَت الدراسات ضمن حقل الدراسات الإنسانية، وفي أجزاء من حقول القانون الدولي، لوضع فهم وتدابير لهذه الظاهرة.
القانون الدولي في بدايته كان متحمساً لصرف الإرهاب لجرائم اغتيال الزعماء وأسرهم وتهديدهم، ثم توسّع تدريجياً ليتوجه ضد “الأدوات”، كمهاجمة وسائل النقل العامة، وجاءت التعريفات الأكاديمية المبكِّرة، حسبما رصدها صاحب التجربة الأوسع في محاولة تعريف الإرهاب “أليكس شميد”، بأنها كانت تدور حول “الاستخدام العشوائي للعنف ضد السكان المدنيين، بهدف نشر الذعر، والضغط على حكومةٍ أو سلطةٍ سياسيةٍ دولية”. هذا التعريف الواسع أدى إلى فتح الباب لإدخال حركات من بطن التاريخ ووصفها لتكون إرهابية؛ من (الزيلوت) في المئوية الأولى من ميلاد المسيح، ثم بعد ألف عام منهم (الحشاشيين) في القرن السابع عشر، إلى (الفوضويين الأناركيين)؛ وكانت إشكالية مؤجَّلة تنمو في رحم تأجيل بحث المسألة، وهي إغفال إرهاب الدولة، أو التعامي عنه بشكل مؤسسي؛ فعلى الرغم من أن عصر الإرهاب في فرنسا (1793م– 1794م) كان يَدمِج الفضيلة والإرهاب كصنوان للدولة، ويمارس الإرهاب لحماية الديموقراطية، إلا أنّ الدراسات التي تتناول عنف الدولة تجنّبَتْ تناول الإرهاب إلى اليوم، الأمر الذي سيُكرِّره منتقدو مدارس الإرهاب.
الطفرة اللاحقة في الدراسات جاءت بسبب تدويل الإرهاب في السبعينيات، فازداد الضغط السياسي، ليس فقط للرد على العنف الإرهابي، بل لمنعه. كنتيجة لذلك، ظهر ما يعرف بتنميط الإرهابيين، أو وضع ملف شخصي (profile) لشخصياتهم، باعتبار أن الإرهابيين يمكن تمييزهم قبل أن يتمكنوا من القيام بأعمال إرهابية، وانتقل الاجتهاد بهذا في مجال العلوم الاجتماعية، إلى التركيز على دراسة الشخصية الإرهابية لتحديد قائمة بالخصائص التي تسمح بتحديد هوية الإرهابيين الفعليين أو المحتمَلين؛ وكما سيبين لاحقاً، فشل هذا الحقل في تفسير أو فهم أو تقليل الإرهاب. واستجابة لهذه النكسة، دبّ النشاط من جديد لفهم “الحركات الإرهابية” والجماعات وحركتها، فظهر السؤال حول إمكانية اعتبار الإرهاب فعلاً عقلانياً من عدمه.
مدارس نقدية
في التسعينيات، كانت حملات مكافحة المخدرات في أميركا الجنوبية تتقوّى بكل العناصر، وتُوسِّع التعريفات، لتأخذ تمويل مكافحة الإرهاب وتضمه لمكافحة المخدرات، ولما كانت الحركات اليسارية ضعُفَت عسكرياً، صار بالإمكان وراثة ميزانية مكافحتها، وتشابكت عناصر التمويل للمكافحة، للحد الذي أعاد الإرهاب إلى حقل الجريمة المنظّمة، وازدهر المحققون الذين يكافحون مرَوّجي المخدرات واللذين يلاحقون رؤساء الجماعات الإرهابية هناك.
كانت آثار مرحلة ما بعد الحرب الباردة باردة؛ فظهر الإرهاب الوريث لليسار كظاهرة يمكن دراستها بعينٍ ناقدة، وربطها بإيديولوجية حمراء، لذلك حينما جاءت أحداث سبتمبر الإرهابية، انخرط القادمون من حربهم ضد اليسار والمخدرات، ليصيروا هم خبراء مكافحة الإرهاب الجديد؛ فقد كانت كلمة الرئيس بوش وتوصيفه للعملية الأكبر في تاريخ البلاد، باباً جديداً لرزق خبراء مكافحة الإرهاب والمخدرات، أصحاب الخبرة البعيدة عن الشرق الأو سط.
لا غَرْو ألّا تُفرِّق الدراسات التي تصدَّت للإرهاب حينها، بين نظرية ولاية الفقيه والولاء والبراء، وبين شيعية حزب الله وأصولية القاعدة!
قامت مجموعة Critical Terrorism Studies في العام 1996م، على يد الأنثروبولوجيَّين جوسيبا زولايكا (Joseba Zulaika) وويليام دوغلاس (William A. Douglass)، وكـردّة فعلٍ نقدية، باقتراحٍ ووصفٍ بديلٍ للإرهاب؛ كخطابٍ يبني الإرهابي كموضوع سياسي، فأصبحت صورة الإرهاب حقيقة هيكلية وقوة تاريخية، وَجَدَت منذ ذلك الحين مكانتها ضمن المشهد الأكاديمي، الذي يتزايد اهتمامه بمبِرِّر الحرب العالمية على الإرهاب، والعلاقة المشكِّكة بينه والقانون الدولي، والسيادة الوطنية، والقوة الإمبريالية.
كانت الجدالات تنتهي إلى تأكيد الحاجة إلى نهجٍ منهجيٍّ جديد ومنظور حاسم في المجال، وكانت الانتقاداتُ تعيشُ على الهامش، قبل أن تتيحَ لها الألفية الجديدة وما حمَلَته من أحداث، ما يزيد من أهميتها كناقدٍ موجِّه لدراسات الإرهاب، وهي محسوبةٌ على مدرسة فرانكفورت الفلسفية النقدية، ومدرسة ويلز الأمنية، التي تنظرُ لأمن الفَرد قبل الدولة، وتريد أن تفتح الباب “لفهم” رؤية الإرهابيين؛ لأنها حصيلة خطأ النظام!
يمكن هنا انتقاد التناول المبتور للتاريخ، أو إهمال تاريخ الدراسات الإرهابية، وهوالانتقاد الأهم في هذا المجال، ونتج هذا التجاهل للتاريخ، عن تناول الإرهاب كواقعٍ لحظيٍّ ومشاهد، لا كتراكمٍ مجتمعي، أو نتيجة لبِنْيَةٍ مجتمعيةٍ تداخلَتْ أسبابها؛ فقد ظهر الإرهاب، كنوعٍ من أنواع العنفِ أو أدواته التكتيكية؛ لا كنتيجة لحالة مسبقة؛ ثم تُطِل مسألة “مأزق تبرئة الدولة من الإرهاب”، فلا يوجد تفسير لتبرئة الدولة وتسمية جهات اللادولة الفاعلة كعنصر وحيد للإرهاب وشرط لازم في أغلب التعاريف، وتحديد الضحايا بالمدنيين فحسب. هذه النقطة تَرقُد جذورها في التاريخ البعيد، ولا يمكن فهمها إلا من المنظور الفلسفي لاحتكار الدولة للعنف، وقد تعرضت لنقدٍ عنيف.
الأكاديمي الأميركي (جيفري سلوكا) مثلاً، يَنقَضُّ على من يشترطون في الإرهاب أن لا يكون مرتكبه دولة، فيسمي رعاة هذا التعريف بـ”داعمي إرهاب الدولة”، ويأخذ عليهم أنهم يرفضون النظر إلى الأمور من الجهة التي يتبناها الإرهابيون، أو المجتمعات التي تؤيدهم، حسب زعمهم.
بالإضافة إلى انتقادهم للنظر للدولة على أنها محور العملية السياسية، يُلَمِّح المنتقدون إلى أثر التمويل السياسي لدراسات الإرهاب، فهويجعل الهدف من الدراسات محدداً، ويوحي بأن النتائج موجهة؛ فغالب الدراسات المنطلقة من خلفية سياسية تعتمد على منهجية حل المشكلات، وهي منهجية إيجابية تهدف إلى تبسيط المشاكل وتفكيكها، فهي تنظر إلى “الآخر الإرهابي” من منظور “الآخر الشيطاني” الذي تقابله “الأنا الطيبة”. وهنا تأتي المطالبات باستضافة الإرهابيين ومنحهم فرصة للتعبير، لفهم المشكلة كجزء من النظام، لا كلعنة حلّتْ من خارجه.
وهذه الانتقادات قريبة من انتقادات مدرسة فرانكفورت الفلسفية، كما فعل (هابرماس) حين تحدث عن “عدم إمكانية تحقيق الحياد في مجال المعرفة العلمية، لأن المصلحة هي التي أصبحَت تُوجِّه سيرورات المعرفة العلمية”. وما يعنيه بالمصلحة، هوأن المجتمع دائماً يطوِّر المعرفة لغرضٍ ما، يتمثل في المصلحة التقنية، والتي تتجلى في العلوم الوضعية التي تهدف إلى السيطرة الأداتيّة على الطبيعة، والتي انتقلت إلى الإنسان نفسه، الذي تحول إلى أداة أو شيء، ولهذا أصبحَت المعرفة العلمية والتقنية هي التي قادت دائماً إلى تحكم متواصل وأكثر فاعلية.
العلاقات الدولية: لغز الحرب الباردة، والإرهاب، ثم الثورات
الإرهاب ليس مفهوما جديداً لعلماء العلاقات الدولية، من حيث استخدامه للعنف الجماعي المنظم ضد الدولة أو رموزها أو المواطنين العاديين، ولكن ما يجعل إرهاب القرن الحادي والعشرين مختلفاً هو حصوله على مدى أوسع، يُمْكِنه بلوغه باستخدام الوسائل الحديثة، والأدوات المالية والاقتصادية والتكنولوجية التي رافقتها العولمة؛ لذلك، فإن الفاعل “غير الحكومي” القادم من خارج نظام الدولة، والذي يستطيع -بطريقة ما- الوصول إلى أدوات الدولة، يجعل دراسة الإرهاب أكثر تعقيداً وإشكالية، ذلك، في حين أن نظريات العلاقات الدولية التقليدية التي تركز على الدولة، يبدو أن لديها العديد من نقاط الضعف في شرح العلاقة بين الدولة وبِنْيَةِ الإرهاب.
لم تنجح النظرياتُ الكلاسيكية في العلاقات الدولية في تفسير انتهاء الحرب الباردة، وفشلَت في التنبؤ بذلك، فظهرَت الحاجة لِطَيف من النظريات الجديدة التي تتجاوز النظريّة الواقعيّة، وعليه، ظهرَت نظريّاتٌ كُلِّيّة، من بينها (النظرية البنائية)، والتي بفضلها صعد البُعد الثقافي في نظريات العلاقات الدولية.
وعلى الرغم من أن التحليل البنائي لا يستبعد متغير القوة (الواقعي)، إلا أن البنائية ترتكز بالأساس على كيفية نشوء الأفكار والهويّات، والكيفية التي تتفاعل بها مع بعضها البعض، لتُشَكِّل الطريقة التي تَنظُر بها الدول لمختلف المواقف، وتستجيب لها تبعا لذلك؛ فأبرزت البنائيّة قضايا الأقليّات، والإرهاب والتنظيمات الإرهابية، تحت توصيف ما يُعرف بالفاعل الخفي، واهتمّت بمصدر التغيُّر أو التحوّل؛ فمن وجهة نظر بنائية، فإن القضية المحورية في عالمِ ما بعد الحرب الباردة، هي كيفية إدراك المجموعات المختلفة لهوياتها ومصالحها، ومدى قدرة الخطاب على صياغة الكيفيّة التي يحدِّد بها الفاعلون هويّتهم ومصالحهم ومن ثَمّ يقومون بتعديل سلوكاتهم. صحيح أنها تعتمد على فكرة أن الدول هي الوحدات الأساسية للتحليل، ولكن يُثار النقاش حول وحدوية الدول ومركزيتها في التحليل لدى البِنائيين، إذ ليس كل البِنائيين يتبنّون هذا الطرح؛ فبالإضافة للدول كفواعل أساسية في النظام الدولي، تُعتبَر المنظمات الدولية الحكومية والغير حكومية، وباقي الفواعل غير الدول (Non-state actors)، بمثابة فواعل أساسية إلى جانب الدولة، ولكن تختلف في مدى تأثيرها على فعاليات السياسة الدولية وصياغتها، ويُعتبر هذا بمثابة تنويع على الطرح الواقعي في هذا المجال.
بالإضافة إلى هذا، فالدولة عند البِنائيين لا يتم معالجتها من منطلق الطرح الواقعي كمعطىً مُسبَق، بل من خلال اعتبارها ظاهرة اجتماعية تتكون بفعل الضرورة التاريخية. إذاً نحن أمام اعتراف بأهمية الأفكار، إلى جانب القوة المادّية في تشكيل البِنيات، ودورٍ مكتمِلٍ للهويّات يؤثّر على سلوك الدول؛ وثمة تداخل بين الهيكل، والمؤسّسات، والبِنْيَة، وبين الفاعل.
يَعتبر البِنائيون أن الفوضى (التي هي بدهية النظريات الأخرى) أقرب من أن تكون مزيجاً مُهَيكلاً ناتًجا عن ممارسة الفاعلين أنفسهم، والذين يوجِّهون ويتحكّمون (حسب مصالحهم وهوياتهم) في القواعد والمصادر المتاحة من قِبَل بِنية مُعيّنة.
إن الهويات والمعايير والثقافة عناصر تلعب دوراً مهماً في السياسة العالمية، وتؤكد البِنائية على أن دراسة الإرهاب تستلزم وضعه في إطاره الاجتماعي والثقافي والتاريخي، لا مناقشته بعيداً عن أُطُرِها التي تطورت في ظلها.
مناقشات ثم: كيف نسهم؟
من الواضح أن الجدال العالمي حول الإرهاب يتحرّك في مناطق لا تتطابق مع ما يعانيه الشرق اليوم، أو ما نعيشه من الموجة الجديدة للإرهاب، كما أنّ دراسات الإرهاب، حتى تلك التي تتخصص في دور التطرّف والراديكالية ومكافحتها، وعلاج الإيديولوجية، والترويج، تتمحور في خلاصتها العلمية على اعتبار “الغرب” هو مكان التهديد والضحية، وهنا يمكن استلاف ما قاله عبد الغفار مكاوي في نقده لمدرسة فرانكفورت في موجاتها الثلاث، إذ يقول إنها “نظرت إلى العقلانية والتنوير من منظور غربي وحسب، وبذلك وقعت في التمركز حول الذاتية الغربية، التي تصوّرَت ولا زالت تتصور إلى حد كبير أن تاريخها هو التاريخ العالمي”.
في الشرق تَحمِل جذور المشكلة فروعاً تسرَّبَت عميقاً، تظهر في البناء المؤسّسي للدولة، والتي نبت هيكلها بعيداً عن خبرة المجتمع في بعض الأحيان، وحتى تراثُها المستنير ونهضة النخبة تمّ تحييدهما عن العملية التراكمية للوعي وحدث الانقلاب عليهما؛ فنشأت المجتمعات الجديدة متوترة، وزادت العمليات التحديثية أو التأصيلية، وفي نسختيها جملة أمراض مصاحبة وخطيرة جعلت العلاج صعباً؛ صحيح أن علاجها ممكن بالبحث، والنظر البعيد عن التوتر والمؤمن بسياق المجتمع والمعترِف به، ولكنّ إطار العلاج وجذر المشكلة تم عزلهما عن ظاهرها، حتى صار الأمر كمرض في عضو يَظهَر عَرَضُه في عَرَضٍ آخر من الجسم. فمشكلة الإرهاب أنّ أعراضه وصلت أوروبا، فصار التفكير فيها خارج جذوره، ومحاولة علاجه تهتم بالأعراض أو الفروع التي تؤذي هذا الطرف أو ذاك.
لقد ظهرت جملة أحداث لم يتم تفسيرها خلال القرن الأخير؛ ابتداء من انهيار الشرق في وجه الاستعمار، ثم صعود فكرة القومية والدينية، ثم الفكرة الوطنية وفكرة الدولة، والانقلابات العسكرية في الخمسينيات، وما رافقها من ثورات اجتماعية، مصنوعة كانت أم طبيعية، وكان رأسمال الوعي ينهزم بشكلٍ موازٍ لها، وكل هزيمة لمشروع سياسي كانت تُضاف لرصيد “شهوة العودة للماضي”، وثمة تُجّار برَعوا في التربُّح من هذا الرصيد الماضوي.
ولما كان عطب النظريات السياسية في العالم العربي ونظريات علم الاجتماع بيِّناً، لم يستطع أحد التنبوء بتحوّل الهامش إلى حركات تمرّد وغضب وإرهاب، ولم يستطع “دارسو” الخطاب أن يدركوا أن لغته الدينية في عمقها توجِد إشارات مجتمعية ورسائل سياسية، ولم تستطع الآلة العلمية الغربية ومدارسها أن تتواضع لدراسة المجتمع العربي عوضاً عن دراسة الأعراض، خاصة بعد انقراض جيل المستشرقين الكبار.
إذن، فتناول الإرهاب في الشرق مبتور؛ إما هو تراثي يستدعي نصوصاً ميتة ويحاكمها، أو عصري يخاطِب عبارات تائهة بلغة التحليل النفسي، في حين توارت النظريات الصلبة التي حاول جيلُ النقدِ الفكري الفلسفي تبَنِّيها، لصالح نظريات قصيرة النفَس تُحاول ملاحقة الأحداث السريعة، فتبدو مُنَجِّمة متنازعة، ولا يلِفُّها كتاب كامل.
المفكرون يعملون في جزر، ودوائر الأمن تعمل في عزلة، في بلاد لا يتّحد فيها إلا الإرهابيون؛ إذ يناقشون أفكارهم ويصنعون نصّهم الديني الجديد، رغم خلافاتهم الداخلية، في عزلة عن “مجتمع الدولة” الذي ينذوي باستمرار، تحت أخطاء نخبته وقادته معاً.
أبواب التعاون المطلوبة تحتاج أن تُطرق لننتهي. فمثلاً، جُمَل المثقفين المعتادة التي تقول بأن “الحل الأمني لا يمكن أن ينجح”، يجب أن يفتح لها رجال الأمن أذرعهم، فيتعاونوا مع باحثي العلوم السياسية، ويمنحوا سجلات العمليات للمراكز البحثية، ليستطيعوا متابعة مسار العملية على أرض الواقع، وتعيين حجم التأثير الديني والسياسي والاجتماعي بشكل علمي يُمَكِّن من تفسير الظاهرة؛ فالتفسير هو الذي يجعل الحكم عليها ممكناً.
في المحافل الدولية، دائماً ما يخوض الباحثون العرب حربهم لإدخال إرهاب الدولة ضمن النقاشات، عساهم يَرُدّون ما تفعله إسرائيل أو يحرجونها، ولهذا تُطِل المطالبة بالنظر إلى إرهاب الدولة في غالب الخطابات العربية. وتبدو المطالبة السياسية واضحة أيضاً في الخلط بين جبهات التحرر وبين الجماعات الإرهابية، بيد أن هذا له تفسيره الواضح، ويبرز بجلاء حينما نترفّع عن التوجهات السياسية، وندرك أنّ المطلوب هو”فهم” هذه الظاهرة، وسياقها الاجتماعي، ومداها السياسي.
خاتمة
تتنوع مدارس الإرهاب ودوافعها وزوايا النظر إليها، ولكن الثابت أنه تَحَدٍ يقع داخل “المنظومة الحضارية” الجديدة، وليس لعنة جاءت من السماء، فهويحتاج إلى علاج يَرجِع إلى جذور التطرّف، ويجعل على أصحاب الهويّاتِ المنغلقةِ مسؤوليّةَ فتحِها، لتكون أكثر تقبُّلاً للآخر، وأقل رغبة في الانتقام، ولتعزيز العدالة والتسامح، ومنح الآخر فرصة، ومحاصرة العنف بأدوات جديدة؛ كالحب والسلام والتفهم.
بإمكانكم الاطلاع على الدراسة الكاملة من خلال الملف أدناه
الدراسة من هنا