في الكتاب الثاني والخمسين من السلسلة الشهرية التي يصدرها مركز المسبار للدراسات والبحوث، والذي تم تخصيصه للبحث في التيارات السياسية في إيران، يناقش الباحث اللبناني هيثم مزاحم حضور مفهوم “ولاية الفقيه” في الفكر السياسي الشيعي، وذلك في دراسته التي عنونها بـ:” الفكر السياسي الشيعي في إيران، من المشروطة إلى ولاية الفقيه”. بدأ في البحث عن جذور النظريات التي صبغت الفكر السياسي الشيعي الاثنا عشري منذ بداية الغيبة الكبرى للإمام الثاني عشر المهدي، والتي بدأت بعد وفاة النائب الرابع علي بن محمد السمري أو الصيمري سـنة 329هـ وحتى (1432هـ/2011). ذلك أن الفقه الشيعي:” لا يقتصر على نظرية واحدة فقط حول الدولة، كما يعتقد البعض، بل إن هناك نظريات متعددة أنتجتها دراسات الفقهاء خلال القرن العشرين الميلادي، والذي يعتبر فترة نضوج الفكر السياسي الشيعي وتبلوره. وهذا التعدد هو دليل على أنه ليس ثمة إجماع على نظرية سياسية واحدة حول الحكم لدى الاثني عشرية”.
يتناول في بدء دراسته تقسيم الفقهاء الشيعة من حيث الموقف من قضايا الحكم في عصر غيبة الإمام المهدي، ويقسمهم إلى فريقين اثنين: الفريق الأول: هم الفقهاء الذين لم يؤمنوا بضرورة إقامة الدولة في عصر الغيبة، وبالتالي لم يحددوا شكل الحكم أو الأفراد الخاصين بممارسة الحكم وقيادة المسلمين. والفريق الثاني: هم الفقهاء الذين استنبطوا شكلاً خاصاً لنظام الحكم في عصر الغيبة واقترحوا نظرية إيجابية في المجال السياسي.
يبدأ هيثم مزاحم بحثه طارحاً “الغيبة” بوصفها المحرض الأساسي على البحث عن نظرية سياسية، ومن تلك الرغبة الملحة بدأت تتبلور نظرية “ولاية الفقيه”، وهي النظرية التي وإن تم طرحها والعمل بها نظرياً في زمن متأخر، غير أنها موجودة منذ زمن بعيد، حيث رأى أن:”مسألة الولاية السياسية للفقيه كانت مطروحة بقوة في ذلك الوقت –القرن الثالث عشر-وقد أثارت رؤية النراقي في ولاية الفقهاء العامة التعيينية موجةً من الاهتمام والبحث والنقد من قبل معاصريه وتلامذته والفقهاء الذين جاؤوا بعده، ومن أبرزهم المرجع الكبير الشيخ مرتضى الأنصاري، أحد التلامذة المشهورين للنراقي، الذي قام بنقد آراء أستاذه في كتاب “البيع” في كتابه “المكاسب”.
ثم يعرج على نظرية الحكومة المشروطة، فإنه ومع بداية القرن الرابع عشر الهجري الموافق للقرن العشرين الميلادي، أخذ تطوّر الفكر السياسي الشيعي يثير أسئلة ومفاهيم جديدة في المجتمع وفي أبحاث الفقهاء، مع قيام “حركة المشروطة” التي نجحت في إقرار الدستور وملحقه التعديلي، وتقييد سلطة الملوك وصلاحياتهم المطلقة. وقد انقسم الفقهاء الشيعة في ذلك الوقت في فهمهم للمفاهيم السياسية الجديدة، من قبيل الحرية والعدالة والمساواة والحقوق العامة والفصل بين السلطات والقانون والنيابة والحكم المشروط أو الاستبداد المطلق، إلى فريقين: عبّر أحدهما عن نظرة تقليدية ترفض بصورة مطلقة التطور الديموقراطي، وتدافع عن المسار السياسي السابق الذي يقوم على الفصل بين السلطة الدينية (ولاية الفقهاء التعيينية في الأمور الحسبية)، والسلطة السياسية (في الأمور العرفية)، وهو ما تبلور تحت عنوان “الحكومة الشرعية أو المشروعة”، فيما ذهب الفريق الآخر يدعو إلى التطور والتغيير باتجاه التوفيق بين المشروطة والمشروعة، مع المحافظة على نظرية الدولة القائمة على الإذن العام للسلاطين الصادر عن الفقهاء.
أما عن أسس “الحكومة المشروطة” فينقل عن النائيني أنّ أسس نظرية الحكومة المشروطة مستنبطة من كتاب الله وسنّة رسوله ووصايا الإمام علي، مشيراً إلى أنّ سبب تقدم الغرب يعود إلى العمل بتلك الأصول، بعكس المسلمين الذين تقهقروا نتيجة لإهمال منابع الدين. ويعتبر أنّ تطبيق هذه النظرية كفيل بإعادة إحياء الشريعة الإسلامية وإقامة النظام السياسي الإسلامي، وأن كل ما أُخذ من الغرب على صعيد إدارة الدولة والحقوق الأساسية إنما هو من إنتاج الإسلام وقد ردّ إلى موطنه الأصلي، “هذه بضاعتنا رُدّت إلينا”. وأهم مهام الحكومة من منظار النائيني اثنتان هما: حفظ النظام الداخلي للدولة والعدالة الاجتماعية، ومنع تدخل الأجانب وإعداد القوة العسكرية للدفاع عن البلاد في مواجهة الأعداء، أي حفظ بيضة الإسلام.
الباحث مزاحم يدخل مرحلة الجمهورية الإسلامية والتي يعيد بدء تكونها إلى أواخر القرن الرابع عشر هجري مع تبلور نظرية ولاية الفقيه العامة المطلقة مع الإمام روح الله الخميني (ت 1989)، وتأسيسه للجمهورية الإسلامية في إيران في أعقاب انتصار الثورة الإسلامية عام 1979 على نظام الشاه.
الحلقة الأقوى في رسم النظرية السياسية الشيعية بدأت مع تحول نظرية “ولاية الفقيه” إلى مجال عملي على يد الخميني، بعد أن كانت نظريةً ذات أدلة وبراهين في القرن الثالث عشر على زمن النراقي.
قال الخميني بضرورة الحكومة في عصر الغيبة بطول مدة غيبة الإمام المهدي والتي قد تطول ألوف السنين ويتساءل: “وهل تبقى أحكام الإسلام معطّلة؟ يعمل الناس في خلالها ما يشاؤون؟ ألا يلزم من ذلك الهرج والمرج؟ وهل حدد الله عمر الشريعة بمائتي عام مثلاً؟ هل ينبغي أن يخسر الإسلام من بعد الغيبة الصغرى كل شيء؟” هذه الفتوى التي أطلقها الخميني حول ضرورة الحكم في زمن الغيبة هي التي جعلت من ولاية الفقيه أساس الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
بل نجح الإمام الخميني-بحسب الباحث- بعد نحو عشر سنوات من تطويره لنظرية ولاية الفقيه في إقامة نظام الجمهورية الإسلامية في إيران عام 1979، على أساس تلك النظرية وتولّيه الحكم فيها بصفته ولياً للفقيه.
وبعد أن يتحدث الباحث عن ملابسات المفهوم وعلاقته بأزمات التشريع، يختم بحثه بالحديث عن النظريات السياسية الإسلامية في إيران. عن ولاية الفقيه الانتخابية المقيّدة وترى هذا النظرية أنّ ولاية الفقيه لا تعني أن يكون الفقيه على رأس الحكومة وأن يحكم عملياً، بل إنّ دور الفقيه في الدولة الإسلامية أشبه بدور المفكر منه بدور الحاكم، هذا فضلاً عن أنّ الناس هم الذين ينتخبون الفقيه. خاتماً دراسته بالحديث عن حسين علي منتظري وولاية الفقيه الانتخابية المحدودة.