عبدالله حميد الدين*
“من كالفن إلى الخلافة” (From Calvin to the Caliphate) مقال في مجلة فورين أفيرز لأستاذ العلوم السياسية في جامعة فرجينيا جون أوين الرابع (John M. Owen IV). وقد أثارت جدلاً في أكثر من وسط بما فيه أوساط المفكرين المسلمين والعرب. أغلب النقد الذي اطلعت عليه ركّز على الدفاع عن تاريخ المسلمين – الماضي والمعاصر – بسبب بعض التعميمات التي قام بها أوين، بعضها انتقد المقارنة بين الحروب الدينية الأوروبية وبين الحروب الدينية المعاصرة بين المسلمين. هنا أريد تقديم نقد من زاوية مختلفة لمقال أوين.
الفرضية الأساسية التي يقدمها أوين هي أنه يمكن النظر إلى كثير من النزاعات بين المسلمين على أنها حروب دينية، وأنه يمكن فهمها بشكل أفضل إذا ما عدنا إلى الحروب الدينية الأوروبية في القرن السادس عشر وما بعد. هذه الفرضية ليست جديد. السردية الأكثر شيوعاً التي تُستخدم لتفسير بعض أبعاد أزمة المجتمعات المسلمة هي سردية “الحرب الدينية”، وقد قام آخرون بالمقارنة بين حروبنا الدينية وبين الحروب الدينية الأوروبية. بعض المؤرخين والباحثين المسلمين أيضاً يميلون للمقارنة بين الحروب الدينية المعاصرة وبين الحروب الدينية بين مسلمي القرون الأولى في تاريخ الإسلام، خاصة الفترة بين القرن الأول والثالث الهجري. ولكن أوين يذهب أبعد من مجرد طرح فرضية، حيث يقدم ما يعتبره تسويغاً مفصّلا للفرضية من التاريخ الأوروبي. هو لا يحاول أن يقنع قرّاءه بوجود حرب دينية، فهذه الفرضية مقبولة، ولكنه يقدم لهم المادة التاريخية التي تجعل تلك الفرضية تبدو معقولة، بحيث يمكن استدامة الفرضية.
خطوط التماس
أنا أعتقد أن أوين مخطئ. والخلل المركزي هو في فرضيته وادعائه بأن الحملات الإسلاموية المختلفة – من الإخوان المسلمين إلى داعش – هي جزء من حرب دينية. وهو بذلك يكرر الخطأ الذي سبقه آخرون، ويتم تكراره منذ أكثر من ثلاثة عقود. إن خطأ أوين ليس مجرد خطأ أكاديمي بل هناك عواقب خطيرة على صناعة السياسات وعلى تقدير أنواع التدخل لمعالجة بعض المشكلات التي يواجهها المسلمون. أوين وغيره يريدون أن يبرهنوا لنا أن خطوط التماس لكثير من النزاعات بين المسلمين هو الدين. وهذا مبني فقط على كون أهداف بعض أطراف الصراع دينية. فمثلا، داعش تسعى للخلافة، وبالتالي فإن حربها ضد الحكومة العراقية وفي سوريا هي حرب دينية. ولكنني أظن أنّ هناك طريقة أفضل للنظر في القضية.
النظام الوستفالي
أنا أرى أن خط تماس النزاع هو فكرة الدولة الوستفالية وشرعية الحدود الوطنية. بعبارة أخرى ليس لدينا حرب دينية بين فاعلين دينيين وفاعلين غير دينيين، بل لدينا حرب بين من لا يؤمن بالدولة الحديثة وبين من يؤمن بها، بين فاعلين دون الدولة هدفهم إسقاط النظام الوستفالي وبين فاعلي دولة هدفهم إدامة ذلك النظام.
ولا شك أن هناك في المجتمعات المسلمة نزاع حول نظام حكم الدولة. والدعوات إلى المشاركة السياسية والشفافية في الحكم هي جزء من ذلك النزاع؛ ولكن هناك أيضاً نزاع حول ما إذا كان لوجود الدولة الوستفالية معنى وشرعية أصلاً. أحياناً يختلط النزاعان؛ لأن الفاعل الواحد قد يكون طرفاً فيهما. الإخوان المسلمون على سبيل المثال موجودون في ساحة النزاع على طريقة حكم الدولة وفي ميادين المطالبة بالمشاركة السياسية، ولكنهم أيضاً موجودون في ساحة النزاع على تأسيس الخلافة وإسقاط الدولة الوستفالية. أما مقاتلو داعش فلا نجدهم إلا في الساحة الثانية.
ما هو الإسلاموي
الخطأ المركزي الآخر الذي وقع فيه أوين هو أنّه افترض أن كل من يريد حكم الشريعة إسلاموي. هذا خطأ كبير، وقد أثّر في طبيعة التوصيات التي قدمها أوين في آخر مقاله. وسبب هذا الخطأ هو غياب تعريف واضح للإسلاموي. الإسلاموي ليس مجرد مسلم يريد أن يرى حكم الله نافذاً. الإسلاموي هو مسلم تبنى أيديولوجية حديثة، وتلك الإيديلوجية هي التي تمنح الإسلاموي رؤيته السياسية للعالم واستراتيجيات المناورة في العالم. أنا أرى أن الإسلاموي هو مسلم يتبنى الأفكار التالية، وإنْ بدرجات متفاوتة بين إسلاموي وآخر:
- التركيز المتواصل على إهانة الغرب للمسلمين.
- اعتبار أن الاستعمار مشروع متواصل ولم ينته.
- عدم شرعية الدولة المعاصرة والحدود السيادية.
- الذهنية المؤامراتية: العالم يتآمر ضد المسلمين، خاصة العالم الغربي.
- الحلم بانبعاث إسلامي يقوم على عودة الخلافة.
- الإيمان بأن النموذج السياسي المثالي هو ذلك الذي وجد قبل 14 قرناً.
- أولوية الهوية الإسلامية على كافة الهويات وخاصة الهويات الوطنية. الإسلاموي يرى أن واجب المسلم هو الالتزام بهدف استعادة الخلافة وأن هذا الالتزام يجب أن يفوق التزامه بالدولة الوطنية التي ينتمي إليها.
- وجوب إقامة حكم الشريعة.
- التوجه الثوري ورفض الواقع القائم.
- فلسفة اجتماعية/ سياسية ترى أن هناك طليعة وهم الفاعلون الأساسيون في حركة التاريخ، وهم أيضاً ممثلو الإرادة الجمعية. وهذه الطليعة لديها حق فرض الإرادة الجمعية على كل المجتمع، بل يجب عليها ذلك.
- حتمية العمل المنظم – في الغالب سريّ – لأجل تحقيق الهدف الأسمى: الخلافة.
فهم الإسلامويين لهذه الأفكار يتنوع والتزامهم بها يتفاوت، وغرضي هنا هو مجرد التوضيح بأنّ ما يجعل الإسلاموي إسلاموياً لا يوجد في الإسلام، وإنما في أفكار تم تطويرها في بدايات القرن العشرين. الرغبة في حكم الشريعة ليست إلا عنصراً واحداً من محددات الإسلاموي. والواقع هو أن هناك الكثير ممن يريد أن تكون الشريعة مصدر الحكم الوحيد ولكن ليس لديهم إيديلوجية إسلاموية.
إن خطأ أوين في تعريف الإسلاموي جعله يقول إن نزاع الإسلاموي هو ضد العلماني. هذا خطأ. من يريد حكم الشريعة ينازع العلماني. ولكن الإسلاموي أولاً وآخراً هو في نزاع مع روح الحداثة، وبشكل خاص مع فكرة الدولة الوستفالية.
سوء فهم الإسلاموي جعل أوين يقدم على خطأ آخر وأخطر. ذلك أنه افترض أنه ممكن بل مرغوب برعاية إسلامويين معتدلين. ولكن هذا غير ممكن. إنه مثل القول بأهمية رعاية ثوريين معتدلين يريدون إسقاط نظام الدولة الحالي. هناك الكثير من المعتدلين بين مطالبي حكم الشريعة. ولكني أعتقد أنه لا يمكن أن يكون هناك إسلاموي معتدل.
إن التمييز بين دعاة حكم الشريعة وبين الإسلامويين في غاية الأهمية، وله آثار في السياسات. يمكن لنا – بل يجب – علينا أن ندعم حقوق دعاة حكم الشريعة، ولكن بشرط أن تكون تلك الدعوات مقيّدة بقبول النظام الوستفالي. ولكن لا يمكن لنا بل لا يصح أن ندعم أي شكل من أشكال الإسلاموية؛ لأنّ سبب وجودها هو إسقاط النظام الحالي وإنشاء نظام جديد.
إن عنف داعش ليس لكونها تحارب حرباً دينية، وليس لكونها تملك حماساً دينياً. إن عنف داعش هو لأنّها قررت أن تحقق حلم الإسلامويين. داعش تجسد الإسلاموية بشكل كامل: محاربة النظام الوستفالي. هذا ليس “من كالفن إلى الخلافة” بل من حسن البنا، مؤسس حركة الإخوان المسلمين، إلى داعش.
[1] نشرت المقالة في اللغة الإنجليزية على موقع العربية الإنجليزي، على الرابط التالي:
* كاتب سعودي، باحث ومستشار في مركز المسبار للدراسات والبحوث.