تمتاز إندونيسيا بتعدديتها الدينية التي يشكل الإسلام واحدا من أهم الأديان فيها. يقرأ المهتمون بالتفاعل ما بين الإسلام والديمقراطية، التجربة الإندونيسية.
يعتقد بعض الخبراء، أن التقاليد الإسلامية الفريدة في إندونيسيا قد تشكلت عبر قرون عديدة من التدفقات العالمية من الناس والأفكار، وارتباط المنطقة بالمناطق العربية وأوروبا وجنوب آسيا والصين[1]. من جهة أخرى، يرجع آخرون نجاح التجربة الديمقراطية في إندونيسيا، إلى حدوث تغيرات جذرية في العقلية السياسية لدى المسلمين الإندونيسيين، إلى جانب عوامل داخلية، ترجع إلى تأثير المسلمين الإندونيسيين الليبراليين في عقود سابقة، أسهمت، في اتجاه المسلمين الإندونيسيين، للتصويت إلى أحزاب علمانية أو غير دينية، بدلا من التصويت لأحزاب إسلامية[2].
ألقي في هذا التقرير الضوء على إسهامات نورشوليش مجيد (1939-2005)، وهو مفكر إندونيسي مسلم، دعا إلى الديمقراطية، والتحديث، والتعددية، ويعتبر من أكثر المفكرين تأثيرا في تاريخ إندونيسيا المعاصر.
ترأس مجيد الرابطة السابقة للطلبة المسلمين، على مدى فترتين (1966-1974)، وهي أكبر تنظيم طلابي في إندونيسيا. أنهى دراسته الأولى في المدرسة الداخلية المعروفة بدار السلام في جونتور، ثم التحق بمعهد حكومي للدراسات الإسلامية في جاكرتا ليكمل دراسته لنيل درجة الدكتوراه في الدراسات الإسلامية في جامعة شيكاغو، بالولايات المتحدة الأمريكية[3]. وكان قد كتب أطروحته حول أفكار ابن تيمية[4].
تحتوي محاضراته الضخمة، وأوراقه، على إحالات في المراجع لعلماء اجتماع ومفكرين بارزين أمثال بيرتراند راسل، وجان بول سارتر. كان مجيد يرى نفسه، ويأمل أن يراه الآخرون، مصلحا ومفكرا مسلما، مستندا إلى الأسس الفلسفية[5].
عرف مجيد على نطاق واسع بكونه مرجعا لتاريخ الإسلام وتعاليمه. كان أول مفكر إندونيسي مسلم يطرح علنا فكرة العلمانية السياسية، ليس بالأمر المشروع إسلاميا وحسب، بل هو ضروري. في خطاب ألقاه في بداية السبعينيات، رأى أنه “ما دام المسلمون غير قادرين على التمييز بين المقدس وغير المقدس، وبين الإسلام والشؤون الاجتماعية والسياسية الدنيوية، فإنهم لن يتمكنوا من الالتزام بجوهر الإسلام كونه هو المقدس، كما لن يفلحوا في تكريس الشكل الحديث للسياسة كونها الشيء غير المقدس”. وقد عبر مجيد عن ذلك بقوله: “إننا لا نعني بـ”العلمانية” تطبيق العلمانية كونها الاسم الآخر للأيديولوجية، إنها نظرة عالمية جديدة مغلقة وكأني بها دين جديد فعلا”. بالنسبة لمجيد، ولأن المقدس الوحيد هو الله، تصبح العلمانية أو اللاقدسية ضرورة دينية. وقد عرف مجيد بشعاره العلماني “نعم للإسلام، لا للحزب الإسلامي”[6].
عمل مجيد على تطوير دعمه للأفكار الحديثة التي تنادي بالمساواة والتسامح والتعددية والتوافق والمعارضة وسيادة الشعب، من منطلق المعتقدات والتقاليد الإسلامية. ومن خلال نهجه هذا، فضلا عن كونه أحد الكتاب والخطباء المؤثرين، أصبح أحد عناصر التغيير المهمة في الثقافة الإسلامية بين معاصريه، وأسهم في بلورة خطاب إسلامي حديث وممارسات سياسية في إندونيسيا[7]. وقد كانت شعبية ونفوذ مجيد محل استياء كبير من قبل المسلمين الذين يعتقدون بأن الإسلام والعلمانية لا يجتمعان.[8]
التسامح والتعددية الدينية
يدعو مجيد من خلال تأويله للإسلام إلى التركيز على التسامح والتعددية الدينية. وفي هذا الصدد، يعقد مقارنات، مشيرًا إلى التعايش بين المسلمين واليهود والمسيحيين خلال فترة الحكم الأموي في الأندلس. وإلى ميثاق إيليا، كنماذج تاريخية ملهمة في تشكيل المجتمع الإندونيسي المعاصر. مؤكدا أهمية إيجاد أوجه التشابه والاستمرارية بين الأديان. وفقًا لمجيد، لا يوجد فرق جوهري بين رسائل الديانات السماوية في العالم[9]. إذ يرى أن التوحيد هو المصطلح الشائع بين الأديان السماوية، لكنه يعتقد أيضا أنه يمكن لأتباع مختلف الأديان الموافقة أيضًا على مجموعة من المصطلحات المشتركة التي تشمل المزيد من القيم، ولا تقتصر على التوحيد فقط[10]. وقد لقيت أفكاره دعما كبيرا من زميله المقرب عبدالرحمن وحيد الذي يعتبر أحد عناصر الحداثة للثقافة السياسية الإسلامية في إندونيسيا، وابن وحيد هاشم، الذي ترأس نهضة العلماء لفترة طويلة من الزمن[11].
قدم تقرير بعنوان (نموذج الديمقراطية في العالم الإسلامي: التجربة الإندونيسية) قراءة للتجربة الإندونيسية الديمقراطية، لفت الكاتب إلى أن المسلمين المثقفين في إندونيسيا قاموا بدور نشط للغاية في تعزيز نشر الديمقراطية، من خلال المحاضرات والكتابات واتخاذ الإجراءات التي دعت إلى الديمقراطية. ويرى التقرير أن حركة الإصلاح الإندونيسية استندت دائما إلى منظمات. مشيرا في هذا السياق إلى إسهامات مثقفين مثل عبدالرحمن وحيد (1940-2009)، وأحمد سيافي معاريف (مواليد 1935)، ونورشوليش مجيد؛ الذين ترأسوا منظمات كبيرة، ونشروا أفكارهم من خلالها. إذ ترأس وحيد منظمة نهضة العلماء (40 مليون عضو)، وترأس معاريف منظمة المحمدية (30 مليون عضو)، وترأس مجيد رابطة الطلاب الإسلامية وخريجيها (أكثر من 10 ملايين عضو)[12].
الخلاصة
في ظل ما سبق، إلى أي حد يمكن أن نصف أفكار مجيد على أنها تقدمية، وهل هي متحررة من الإرث التنظيمي الإسلاموي فعلا؟ هذا ما يحتاج إلى نقاش مستفيض يعتمد على عمق بعيد، وغرضنا هنا الإضاءة على جهوده.
[1]– Martin Van Bruinessen, “Indonesian Muslims in a Globalizing world”, RSIS, 2.
[2]– “نموذج للديمقراطية في العالم الإسلامي: التجربة الإندونيسية”، فكر وفن، متاح على الموقع:http://www.goethe.de/ges/phi/prj/ffs/the/a97/ar9523678.htm
[3]– مايكل دومر، الإسلام- الدولة والمواطنة: نحو خطاب إسلامي ديمقراطي مدني، (عمان، مؤسسة كونراد أديناور: 2014)، 60.
[4]– Martin Van Bruinessen, “Nurcholish Madjid: Indonesian Muslim Intellectual”, ISIM Review spring 2006, 22.
[5]– Ibid.
[6]– دومر، الإسلام- الدولة والمواطنة: نحو خطاب إسلامي ديمقراطي مدني، 60.
[7]– المرجع السابق.
[8]– Martin Van Bruinessen, “Indonesian Muslims in a Globalizing world”, RSIS, 11.
[9]– Ann Kull, “Modern Interpretation of Islamic History in the Indonesian context. The case of Nurcholich Madjid”, Page 4, available at the link: https://www.academia.edu/3520466/Modern_Interpretation_of_Islamic_History_in_the_Indonesian_Context._The_Case_of_Nurcholish_Madjid
[10]– دومر، الإسلام- الدولة والمواطنة: نحو خطاب إسلامي ديمقراطي مدني، 61.
[11]– المرجع السابق، 62.
[12]– “نموذج للديمقراطية في العالم الإسلامي: التجربة الإندونيسية”، فكر وفن، متاح على الموقع:http://www.goethe.de/ges/phi/prj/ffs/the/a97/ar9523678.htm