لماذا هذه الموسوعة؟
أصدر مركز المسبار للدراسات والبحوث نحو مئتي كتاب بحثي، تناولت رصد وتوصيف حركات التطرف والإرهاب، ودراسة التنظيمات الإرهابية وصلاتها بمنسوبيها وأعدائها.
قَدَّمت هذه الإصدارات توصيفًا لعناصر خطاب الجماعات الداعي إلى فصل المجتمع عن الأفق الحضاري، والساعي إلى تحويل المحايدين إلى متعاطفين ثم إلى مجندين، وصولاً إلى النواة التنظيمية المُسْتَلَبَة.
ما تحاوله هذه الموسوعة؛ هو عكس مسار التطرف، أي بحث سُبُل الخروج عنه بدلاً من الدخول إليه.
تحاول موسوعتنا هذه أن تتسع لتكون دليلاً؛ لمساعدة واضعي برامج الخروج من التطرف والساعين إلى عكس مسار الراديكالية والتعصّب، فتنتخب نماذج مناهج لتدريب المدربين؛ وبرامج إعداد الأئمة العاملين في السجون والمؤسسات العقابية والإصلاحية، وتعرض سيرة محاولات إعادة دمج المتعافين في المجتمع، بعد توبتهم وانقضاء محكوميتهم.
تقوم مبادرات مكافحة الإرهاب، على الوقاية، والمواجهة، والمعالجة البعدية؛ فتكون مكافحة الإرهاب والتطرف قبل وقوعه بالحملات الثقافية التوعوية، والإجراءات الأمنية الاستباقية ضد أفكار الكراهية والتكفير ومنافاة الدولة والمجتمع، بينما تقوم لحظة المواجهة على تكتيكات الردع الآني: الإعلامية والعسكرية، الرامية لإيقاف وتحييد الإرهابيين وأهدافهم أثناء العملية الإرهابية ولو طال زمانها، ولكن بعد استعادة حالة الاستقرار القانوني أو إيقاف أفراد من الفاعلين الإرهابيين وبدء مرحلة المعالجة الهادئة؛ المصحوبة بالإجراءات القانونية وقد يتخللها المراجعات، والتأهيل لمن أنهى المحكومية، وبعد استعادة الأفراد من الفكر المتطرف وانتهاء المحكوميات تأتي مرحلة الاندماج في المجتمع؛ التي تحتاج إلى استراتيجيات متعددة المناهج والسُبل.
تُغَذِّي هذه المراحل الثلاث بعضها البعض، وتُعزز نتائجها ضرورة التركيز على رفد كل مرحلة بخطط ناضجة، للتعاطي السليم مع الموقوفين، وإعداد المتعاملين معهم؛ وتوسيع عملية المناصحة والتأهيل، لوقاية المجتمع من جائحة العصبية، وتمتين حائط صد سَلامه وتعايشه المجتمعي، من اختراقات الكراهية والتطرف والتكفير.
يأتي غرض هذه الموسوعة في الاتجاه العام، لبحث دراسات المواجهة البعدية، من التأهيل وما يتعلق به بتكوين المُدَرِّبين الذين يُدَرِّبون القانونيين والأئمة والأجهزة الأمنية، للتعاطي مع قضايا الإرهاب، وما يتصل به من إعدادٍ للقادة الدينيين القادرين على صناعة الفضاء المُيَسِّر لعملية المناصحة والحوار. وتُطوّف بأبرز النماذج للتجارب العربية والأوروبية والأميركية، في هذه المجالات، مع سبر لأبرز أوجه النجاح، وسبل تلافي مسببات القصور.
تتطور نماذج المناصحة والمفاهمة والحوار والمراجعة والمصالحة -حسب بعض التعبيرات العربية- من خلال عمليات دينية وسياسية وقانونية وأمنية معقدة، ترعاها الدولة؛ ينتهي بعضها بشكل فردي كما في حالة المغرب، فتكون نتيجته مناصحات قادة الجماعات ورجوعهم، بينما في حالات مثل مصر يتم الإشارة إلى برنامج المراجعة بأكمله على أنه جزء من العملية التي تواجه أحزابًا وجماعات متطرفة، تنتهي بتغيير مواقفها تجاه قضايا جزئية مثل العنف. بالإضافة إلى ذلك تتميز الحالة المصرية بمحاولات وضع برامج خاصة للإدماج ورعايتها. في التجارب الهندية تكون العمليات مصحوبة برصد دقيق للخلايا المتكونة وحواضنها، وسبل معالجة الجذور التي ترتبط بظروف أُسَرِيَّة، وتحليل لدور الخطاب الموجه في الإنترنت.
وفي النماذج الأميركية؛ التي تتسم بالتنوّع بسبب تعدد القوانين في كل ولاية؛ يتم الإشارة إلى حالات مساهمة المنظمات الأهلية التي وظّفت دور الأسرة في دعم عملية الاستعادة، وتوظيف المستعادين في أدوار متقدمة في المجتمع، لمكافحة الإرهاب.
انقسم الكتاب من حيث الفكرة إلى بابين؛ الأول مفاهيمي والثاني تنفيذي تجريبي، بينما توزعت مواد الموسوعة إلى أربعة أقسام؛ الأوّل منها يبدأ بمدخلٍ مفاهيمي لأبرز قضايا تأهيل المتطرفين والدليل الفلسفي للتدريب والمتابعة والاندماج؛ فيبحث في المدخل عن إشكاليّات تعريف التطرّف والإرهاب والراديكالية ودرجاتها، والتنظيرات السياسية التي تؤثر عليها، ويتناول مفاهيم الاتجاهات الراهنة لعمليات تشجيع المتطرفين على التراجع عن التعصب؛ ودرجات فك الارتباط بالتنظيمات والأفكار المتطرفة، ويقدّم لاتجاهات التنظير الراهنة في فك الارتباط، بتتبع المحاولات للاستعانة بالخطاب الديني التقليدي والمستجد، ويتضمن أبرز القضايا الإشكالية لنزع التطرف داخل السجون، والمنظور الجندري الداخل في تشكيل روح التنظيرات، ويتتبع الحاجة إلى تطوير الاستراتيجيات بالوقوف على التحديات.
يأتي هذا الجهد في دعم مسارات الاستعادة من التطرف، بإيمان أنّ التدخل في عكس حركة التجنيد؛ يتم بدعم الإيمان بالآخر؛ والعمل على المشترك، وتعزيز الصلة بالأفق الحضاري، والحفاظ على التماسك المجتمعي متمثلاً في الأسرة التقليدية؛ وتعزيز فكرة وقِيَم الولاء للدولة الوطنية، واحترام ثقافة القانون، والإيمان بالفرصة الثانية، وهذا كله دون الوقوع في فخ تبرير الإرهاب، فـ«تبرير الإرهاب إرهاب».
وإذ نقدم هذه الموسوعة، الحديثة، إن لم تكن الوحيدة، في بابها، بهذا التفصيل والتناول من جهات الموضوع المختلفة، فإننا نتقدم بالشكر الجزيل لجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية على مساهمتها الفاعلة في رعاية موسوعة التأهيل، التي بين يديكم. والله ولي التوفيق.
رئيس المركز
تركي الدخيل