د. ريتا فرج (باحثة لبنانية في علم الاجتماع، عضو هيئة التحرير في مركز المسبار للدراسات والبحوث)
عملت الطبيبة والباحثة المغربية أسماء المرابط على موضوع المرأة في الإسلام من وجهة نظر تحررية، أساسها الانطلاق من المرجعية الإسلامية في تناول القضايا النسائية، من خلال إعادة قراءة النصوص الدينية برؤية إصلاحية. انكبت منذ سنوات على التفكير في إشكالية المنظور القرآني للمرأة، فسعت إلى إعادة قراءة النصوص الدينية انطلاقاً من منظور تحرري/ نسائي.
شغلت المرابط منصب منسقة لـ”مجموعة البحث والتفكير في النساء المسلمات والحوار بين الثقافات” في الرباط بين عامي 2004-2007. وفي 2008، عُينت رئيسة لـ”المجموعة الدولية للدراسات والتفكير في النساء والإسلام(GIERFI)” التي يقع مقرها في برشلونة، وهي حالياً عضو في مجلسها الإداري. شغلت منذ العام 2011 منصب رئيسة “مركز الدراسات والبحوث في القضايا النسائية في الإسلام” التابع للرابطة المحمدية للعلماء في المغرب، حتى استقالتها في مارس (آذار) 2018 على خلفية طرحها لقضية المساواة في الإرث بين النساء والرجال، بمناسبة محاضرة جامعية لتقديم مؤلف جماعي خلال الدورة الـعشرين للمجلس الأكاديمي للرابطة، مما أثار حفيظة الكثيرين وخصوصاً السلفيين.
نشرت المرابط مجموعة من الكتب غالبيتها باللغة الفرنسية نُقل بعضها إلى العربية ومن بينها: “عائشة أو الإسلام المؤنث”، “القرآن والنساء: قراءة للتحرر”، “الإسلام والمرأة: الطريق الثالث”.
في هذا الحوار -الذي أجراه معها مركز المسبار- تطرقت المرابط إلى قضايا أساسية شرحت فيها وجهة نظرها حول “الرؤية التحررية للقرآن” إزاء النساء، مشددة على أن المنظومة الفقهية التقليدية عطلت الخطاب القرآني المساواتي والكوني، ومشيرة إلى أن “المقاربة الإصلاحية من الجانب النسائي للآيات القرآنية الخاصة بالنساء وللمدونة الفقهية مسألة ملحة، في سبيل طرح مرجعية جديدة بديلة للمرجعية الفقهية الإقصائية”.
وفي ما يأتي تفاصيل الحوار:
- بداية أود أن تقدمي لنا صورة عامة عن أبرز الإشكاليات التي عملتِ عليها في مؤلفاتك وأبحاثك وتحديداً اشتغالك على المساواة في النص القرآني والمدونة التراثية؟
– أبرز الإشكاليات التي عملت عليها في الكتب والمقالات تمحورت حول المنظور القرآني للنساء، والعلاقات بين الرجال والنساء مثل الزواج والروابط الإنسانية وفق الرؤية القرآنية. حين عملت على ذلك لاحظت أن ثمة فجوة بين النص القرآني والرسالة الروحانية للقرآن وأغلب التفاسير والتأويلات الفقهية. وفي مجمل القول حاولت العودة إلى الرؤية الشمولية الروحية لهذه الرسالة القرآنية، والتي مع التطور ومرور الزمان والصراعات السياسية والأعراف والتقاليد الذكورية، طغت عليها التفسيرات والتأويلات الفقهية، وهي كلها تراكم تاريخي لإنتاج إنساني بحت، مما أدى إلى إقصاء الأبعاد المساواتية والتحررية بين الرجال والنساء التي أقرها القرآن. هذا لب العمل الذي اشتغلت عليه منذ سنوات.
- في إحدى المقابلات التي أجريت معك أشرتِ إلى أن “النص الديني يقدم مفهوماً أهم من المساواة، وهو مفهوم العدل” وقدمتِ مثالاً على ذلك في قضية الإرث {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} ففسرت عدم المساواة من باب تحمل الذكر للمسؤولية، لكن أحوال النساء اليوم تبدلت وأصبحن يتحملن الأعباء كالرجل. ما أهمية القراءة الإصلاحية التجديدية في آيات الإرث؟
– هذه إشكالية صعبة لأننا نأخذها في إطار بعيد عن المقاربة الإصلاحية، التي لا بد أن نعمل بها الآن، نأخذها بمقاربة تقليدية، وبالمقاربة التقليدية لا حل لنا، لا بد من إعادة ومراجعة المنظومة الفقهية كلها إذا أردنا تحقيق وحتى فهم قضية الإرث، من الصعب اليوم، وأنا عشت بعض هذه المراحل، أخذ آية واحدة ومحاولة تفسيرها وتطبيقها كما هي علينا اليوم. إذا لم نعمل على مراجعة الأمور بمقاربة جديدة للمنظومة الفقهية، لن نحل هذه المشكلة، لأنه لا بد من فهم قضية الإرث داخل المنظومة الاجتماعية القرآنية. الكل اليوم يركز على آية واحدة { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}، ومنظومة الإرث هي منظومة كبيرة وعميقة ومعقّدة في القرآن، فإذا أخذنا هذه الآية، وهي غير متساوية ومقصدها هو العدل، فلا بد من الأخذ بالاعتبار السياق التاريخي، لأنه مهم جداً، ففي عهد التنزيل القرآني كانت النساء لا ترث بسبب سيادة الثقافة القبلية، فالنساء كن لا يحاربن ولا يأتين بالغنيمة.
في المغرب مثلاً تُدرس هذه الآية بغير فهمها في سياقها التاريخي، فالطالب والطالبة يدرسان هذه الآية {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} فيفهم الطالب منها أنه خير من الأنثى، والأستاذ لا يقدم أي مفهوم جديد ولا حتى العلة التي يقدمها غالبية العلماء، والتي تقول بأن الأخ له ضعف الحصة، لأنه يتحمل كل الأعباء المادية للأخت التي تكون هذه القسمة لها وحدها. فهذه العلة تبين مقصد العدل في الآية .
إذن، إعطاء النساء في هذه الآية النصف هو ثورة في ذلك الوقت، وعلى الرغم من أن المرأة لم تكن تسهم في الحروب ولا الدفاع عن القبيلة، فقد أعطاها القرآن حقاً في الإرث كالرجل الذي كان يحارب. اليوم تغيّرت الظروف تغيراً جذرياً، وأصبحت النساء يسهمن -وفي بعض الأحيان أكثر من الرجال- في العبء المادي، ففي المغرب (20%) من العائلات تعيلها امرأة لوحدها، وهي تأخذ مسؤولية حتى الأخ، فإذن من أجل تحقيق العدل في هذه الآية نظراً للتغيرات الجديدة من المهم الحفاظ على مقصد العدل القرآني وفقاً لفهمنا له اليوم.
أطالب بفتح نقاش وطني بين علماء الدين وعلماء الاقتصاد والاجتماع والحقوق لكي نحل هذه المشكلة، ولكي نبيّن أن تطبيق العدل وفق التفسير الفقهي التقليدي لها أصبح صعباً في الزمن الحاضر. لا بد من الانطلاق بالقراءة الإصلاحية لكل المنظومة الفقهية، والإشكالية ليست إشكالية الإرث فحسب، وهي إشكالية مهمة جداً، فثمة قضايا أخرى علينا الاهتمام بها، خصوصاً أنها تترك تأثيراً في فهم عامة الناس الذين يقعون تحت ضغط القراءة التقليدية المتشددة، وعندما نتكلم عن قضية الإرث من موقع ضرورة تحديث فهمنا لها، نُتهم بأننا نمس بقداسة القرآن وبالدين الإسلامي كله.
إن المصلحة العامة من مقاصد الشريعة هي مصلحة الناس التي تقتضي اليوم أن نناقش هذا الموضوع، وإذا كان العائق أن الأخ/ الرجل يتحمل مسؤولية الأخت، وهي نسب قليلة جداً في غالبية المجتمعات العربية والإسلامية، فالمرأة اليوم تسهم في الدورة الاقتصادية وتعيل نفسها وعائلتها، والحل واضح إذا كان الأخ لا يتحمل مسؤولية الأخت، فليعطِها حقها، من هنا أهمية القراءة الإصلاحية التجديدية الكلية لآيات الإرث في سبيل تحقيق مقاصد العدل والإنصاف والمصلحة العامة، ولا بد من قراءة كل النصوص بما يتوافق مع المستجدات الاجتماعية والاقتصادية، وليكن دائماً مقصدنا العدل. مشكلتنا الأساسية أن علماء الدين والمؤسسات الدينية يرفضون قراءة الواقع، ويتمسكون بنصوص ومفاهيم وتأويلات القرن التاسع ويريدون تطبيقها على الزمن المعاصر، وهم لا يقدّمون أي حل ويرفضون حتى النقاش.
- تُثير قضية المساواة في القرآن اهتمام العديد من النسويات لا سيما النسوية الإسلامية الرافضة كما يفضل فهمي جدعان تسميتها في كتابه “خارج السرب” بحيث تعتبر أن النص القرآني نص أبوي/ بطريركي مناهض للنساء. ما رأيك في هذه الخلاصة؟
– قبل الإجابة عن هذا السؤال من الضروري أن نميز بين النص الروحي والرسالة الروحية للقرآن وبين النصوص التفسيرية والفقهية، أي بين إسلام الوحي والإسلام المؤسساتي، فالفرق كبير وشاسع. الإسلام المؤسساتي -كما نعلم- بدأ مع بداية القرن الثامن والتاسع الميلادي وهو يتضمن العديد من المرتكزات التي كان سندها العادات والأعراف، أما النص القرآني كرسالة روحية، فلا يمكن أن نعتبره نصاً أبوياً/ بطريركياً. الباحثة الباكستانية أسماء برلاس المنتمية إلى النسوية الإسلامية التأويلية لديها كتاب “المؤمنات في الإسلام: عدم قراءة التفاسير الذكورية للقرآن” تبين فيه سياسات النوع في النص الديني واستغلال المعرفة الدينية لقمع المسلمات، وتنفي مقولة أن القرآن نص أبوي. وبالنسبة لي ولكثير من المثقفات والمفكرات اللاتي يعملن على النص القرآني، نرى أن النص القرآني جاء بمبادئ تحررية من ثقل العادات القبلية وظلم الاستبداد والسلطة الأبوية البطريركية… إلخ، أما النصوص التفسيرية للإسلام المؤسساتي، فقد جاءت على طرف نقيض لأنها تبلورت في سياق استبدادي سلطوي نعلمه كلنا، وسياق اجتماعي ذكوري، فاستخلصت منه كل أنواع التمييز والنظرة الدونية للمرأة، وهذا نراه في جميع النصوص التفسيرية للديانات كلها.
لا نجد المساواة والعدل اللذين يركز عليهما القرآن في المنظومة الفقهية مثلاً، المنظومة الفقهية هي منظومة تمييزية وغير مساواتية، وقد رسخت المفهوم الدوني للمرأة. وهذه هي الإشكالية الكبرى، ولذلك لا بد من التمييز بين إسلام الوحي والإسلام المؤسساتي المتمثل بالمؤسسات الدينية، والتفسيرات الفقهية التي أصبحت وللأسف الشديد مرجعية مقدسة.
- يرى التيار النسوي الإسلامي التأويلي أن القرآن لا يقيم تمييزاً أنطولوجياً بين الرجل والمرأة، فهو يمكن أن يُحيل على وظائف لكنه لا يقيم تراتبية ماهوية بين الجنسين. كيف تنظرين إلى هذا التحليل؟ أليس هنالك مبالغة في هذه الفرضية؟
– ليس هناك مبالغة. فعلاً ليس هناك تمييز أنطولوجي في القرآن بين الرجل والمرأة، فالتمييز إذا وقع إنما هو نتاج المنظومة الفقهية التقليدية الذكورية. في آخر كتاب لي حاولت إظهار (21) آية قرآنية تعبر عن هذه المساواة الأنطولوجية والروحانية، مساواة كاملة، وهذه الآيات لا يتكلم عنها علماء الدين، فقد أبرزوا آيات أخرى.
أسست المقاربة التقليدية منظومتها كلها على آية القوامة، واستعملتها كذريعة أو كبرهان لأفضلية الرجال على النساء. ومن هنا أصبح هذا المفهوم للقوامة هو الذي يستعمل ويفسّر جميع الآيات الأخرى، وأُخذت كقاعدة عامة تشرّع وتفسّر مثلاً ميراث المرأة، وقوامة الرجل، وشهادة النساء، وغيرها من العلاقات الإنسانية مثل الطلاق الذي هو بيد الرجل لأنه قوّام على المرأة، والتعدد لأن الزوج قوّام على المرأة، والطاعة، هذا المفهوم السخيف الذي لم يشر إليه القرآن، والذي بنت عليه المنظومة الفقهية كل تصوراتها حول طاعة المرأة للرجل. يعطونني آية واحدة بأن المرأة لا بد أن تطيع زوجها، ما وجدت هذه الآية. فكل هذه الآيات بُنيت واستُخرجت من مفهوم القوامة وقد فهموا القوامة كسلطة، ليس من باب مسؤولية إعالة العائلة، بل في إطار السلطة المطلقة للزوج أو الرجل على النساء.
عندما نفتح أي كتاب للتفسير من تفسيرات ابن كثير أو القرطبي… إلخ، حتى لدى المفسرين الذين تبنوا نظرة معتدلة ولديهم نوع من الحرية في استخدام الرأي والعقل، كلهم فسروا القوامة كمنظومة سلطوية. هذه إشكاليتنا اليوم، فالعديد من التفسيرات فيها مغالطات كثيرة عبر تبنيها نظرة دونية صريحة واضحة تجاه المرأة، فهي بدون عقل ولا بد أن يكون الرجل دائماً قواماً عليها. أبو حامد الغزالي يفسّر هذه القوامة كأنّ المرأة هي عبدة الرجل؛ هذه التأويلات كلها خاطئة، لأن القوامة في سياقها والسياق المجتمعي التقليدي تكفل الرجال بحاجات النساء. ففي ذلك الوقت وحتى الآن في بعض المجتمعات، يتكفّل الرجال بحاجات النساء والأسرة كلها، وهي مسؤولية قبل أن تكون أي مسألة أخرى. وهي مسؤولية وليست تشريفاً، فالآية تقول “بما أنفقوا” {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} وحتى الفضل قال القرآن: “مَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ”، ولم يقل: بما فضل بَعْضَهُمْ على بعضهن، فالفضل يكون متبادلاً، فالرجال يمكن أن يكونوا مفضلين على النساء بمعيار آخر، والنساء يكن مفضلات على الرجال بمعيار آخر؛ وحسب القرآن فإن أهم المعايير لتقويم الإنسان ذكراً كان أم أنثى: التقوى والعمل الصالح، والآية القرآنية واضحة {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} هذه هي الأفضلية وليس بالسلطة أو بأفضلية مطلقة. إذن، القوامة كاستبداد وتسلّط طغت على التفسيرات الفقهية وترسّخت في الذهنيات والأعراف حتى الآن. فهذا هو الذي جعل آيات المساواة وآيات العدل وآيات المساواة الأنطولوجية والروحانية والمعايير الأخرى كلها تُلغى بمنظومة القوامة.
- ما رأيك في المناهج المتبعة من قبل النسوية الإسلامية وتحديداً المنهجية التأويلية أو الهرمينوطيقا كمنهجية تسمح بالنفاذ إلى المساواة بين الجنسين في القرآن؟
– في النسوية الإسلامية هنالك مناهج مختلفة، وفي العموم المقصد واحد وهو إعادة الاعتبار للمساواة من داخل المنظومة الدينية، وأنا أتفق مع هذا المنهج صراحة، وأرى أنه من الممكن إخراج –من المنظومة القرآنية– مبادئ كاملة للمساواة في الحقوق بين الرجال والنساء من داخل القرآن نفسه.
إن المناهج المتبعة من قبل الحركة النسوية الإسلامية تعمل على تفكيك التأويلات الذكورية، وهذا مهم، وهذه هي المرحلة الأولى، وبهذا التفكيك يمكننا الرجوع إلى المقاصد والمبادئ الكونية الكبرى، لأن هذه المبادئ هي التي همشت، فإذا فتحتِ اليوم كتاباً للفقه أو للحديث، وأخذتِ مسألة النكاح والزواج لا تجدين أي كلام عن المبادئ الكونية الكبرى التي يتكلم عنها القرآن، كالعدل والإنصاف والرحمة والمحبة والتشاور والمعروف. وهذه كلها مبادئ أعلنها القرآن في نطاق الأسرة وفي نطاق العلاقات الزوجية، لن تجديها! لن تجدي باباً للعدل في أي كتاب للفقه أو أي كتاب للحديث، لماذا؟! هذا هو السؤال المهم. إن المناهج المتبعة من قبل الدراسات النسائية الجديدة تقدم منظوراً مغايراً، وأعتقد أن الأهم هو تفكيك الإطار المرجعي للمنظومة التراثية التقليدية، الذي ارتكز على آية القوامة وآيات أخرى ترتبط بالإرث والشهادة، وهمشت آيات عدة تبرهن على المساواة الروحانية والاجتماعية، وذلك من أجل أن نبرهن على الأبعاد المساواتية للقرآن فنقرأ النص الديني قراءة جديدة، تأخذ مبادئه الكونية الأخلاقية وتطورات العصر والتحولات الاجتماعية بعين الاعتبار.
إن المقاربة الإصلاحية وخصوصاً من الجانب النسائي للآيات القرآنية الخاصة بالنساء وللمدونة الفقهية مسألة ملحة، في سبيل طرح مرجعية جديدة بديلة للمرجعية الفقهية الإقصائية، ولا بد للنسوية الإسلامية من العودة إلى لب الرسالة القرآنية وبعدها الشمولي الكوني والإنساني، وهذا مهم جداً، هذا من جهة. ومن جهة أخرى علينا التركيز على البعد الإنساني الذي يختزنه القرآن، فثمة رؤية تحررية إنسانية عميقة، لا بد من درسها وتظهيرها. وفي الخلاصة علينا قراءة آية القوامة وآيات الإرث والشهادة والتعدد في ضوء الأبعاد الكونية التي رسخها القرآن كالرحمة والعدل والإنصاف. فإذا غيرنا الإطار المرجعي غيرنا كل شيء.
- إن الاهتمام الأكاديمي والبحثي بموقع النساء في الديانات التوحيدية جاء متأخراً، وشهدنا في العقود الأخيرة تطوراً في هذا المجال على مستوى الدراسات ومناهج التحليل. وقد طُرح في الغرب ما يعرف بـ”اللاهوت النسوي” ومن أشهر أعلامه اللاهوتية النسوية الأميركية “إليزابيث شوسلر فيورينو” التي حاولت من خلاله الإضاءة على مستويات التهميش/ تهميش المرأة من قبل التقاليد الذكورية في المسيحية. لماذا تتجه الديانات إلى تهميش النساء، حضوراً وفاعلية؟ وإلى أي حد يحتاج الإسلام إلى “لاهوت نسوي” على شاكلة التجربة النسوية الغربية؟
– هذا التهميش للنساء سائد لدى الديانات كلها. ثمة ذكورية في جميع الحضارات، والنظرة الدونية للمرأة لا ترتبط بالدين فقط. في الإسلام يهدف التهميش إلى إبعاد النساء عن الفضاء الاجتماعي والسياسي، ويتضح ذلك عبر التاريخ والعصور. يمكن تفسير هذا التهميش في الفضاء الإسلامي في ثلاث نقاط أساسية:
أولاً: بعد ثورة تنزيل القرآن، في ذلك العهد القبلي العربي المعروف برؤيته الدونية للمرأة، جاء القرآن وأعطى النساء حقوقاً ثورية، والنبي محمد (صلى الله عليه وسلم) كان عنده رؤية منفتحة. ولكن بعد وفاته بفترة من الزمن تعرضت النساء للتهميش نتيجة الصراعات السياسية، ومعلوم أنه بعد الثورات وعلى الرغم من مشاركة النساء بها، وبعد الصراع على السلطة السياسية، تتعرض النساء للضغط من أجل إبعادهن عن الفضاءين السياسي والاجتماعي. إذن، بعد الثورة التحريرية همشت النساء وطُلب منهن العودة إلى بيوتهن، وأُخرجت الأحاديث عن طاعة المرأة لزوجها، كطاعة الرجل للحاكم.
ثانياً: مع الفتوحات الإسلامية دخلت ثقافات وتقاليد جديدة لم يعرفها العرب في ذلك العصر مثل ثقافة الحريم التي تم استحضارها من الفرس. هذا إلى جانب مفاهيم العبودية التي تركت تأثيراً كبيراً في النساء المسلمات، وأدت إلى الانقلاب على الثورة التحررية القرآنية.
ثالثاً: شاركت النساء في العديد من التفسيرات في المدونة العلمية الإسلامية، ومعروف أن دور المرأة كان مهماً جداً، فهي كانت تعطي الدروس حتى في المساجد في مكة والمدينة، وحين أتى عصر التدوين وخصوصاً تدوين المدونة الفقهية، وجدنا أن المرأة غابت عنه غياباً تاماً مع حضورها في بعض التفاسير وبعض علوم الحديث. هذا يُفسَّر بأن ثمة صراعاً على السلطة العلمية والسياسية، والنساء دائماً يغبن عن الصراعات السلطوية أو يغيّبهن الرجال. أدى ذلك إلى احتكار الرجال للعلم والمعرفة الدينية وأصبحت المذاهب مثل القلاع مغلقة أمام النساء، فتحول العلم الديني إلى نوع ٍمن السلطة السياسية أبعدت النساء عنها.
أما بالنسبة لمفهوم اللاهوت النسوي فأنا شخصياً لا أؤمن بهذا المشروع لأنه تمييزي وغير عقلاني، فمفهومي لله هو مفهوم مجرد من كل تعريف جنسي، أنا أؤمن بمفهوم الله خالق الإنسان رجلاً كان أو امرأة، ولا يمكن لنا أن نشبه الله بالرجل أو المرأة، كما يدعي بعض اتجاهات اللاهوت النسوي، فالله منزه عن هذه التشبيهات.
- ثمة العديد من الأحاديث النبوية المعادية للنساء التي تتعارض مع مقاصد النص القرآني. أليس من الأجدى إلغاء هذه الأحاديث وتنقيح المدونة التراثية من كل ما هو معادٍ للمرأة المسلمة؟
– بصراحة هذه إشكالية حقيقية. لا بد من مراجعة منظومة الحديث، مراجعة كاملة عميقة، لأن –وأنا أقولها بصراحة– الأحاديث المعادية للنساء أصبحت من المصادر الأساسية لثقافة التمييز ضد المرأة، وغدت المشكلة اليوم أن الخطاب الديني المتشدّد يلغي الروح القرآنية المساواتية بأحاديث آحاد أو أحاديث مشكوك فيها. هذه هي الطامة الكبرى، فالذي يقرأ السيرة النبوية يتضح له أن النبي (صلى الله عليه وسلم) في تعامله مع زوجاته أو النساء الأخريات، أو حتى مع الرجال في عهد الرسالة، يكتشف أنه تعاطى برحمة وعدل، وهذا دليل على أنه كانت له مقاربة بيداغوجية مليئة بالمحبة والاحترام والعطف على المستضعفين في الأرض، ومنهم النساء، في ذلك الوقت.
حرر النبي (صلى الله عليه وسلم) النساء من الجهل والعبودية في البيئة القبلية العربية، وبعض الأحاديث مثل حديث: “لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة”، هو حديث سياسي، وفي صحيح مسلم لا أثر له وهو موجود في صحيح البخاري. وهناك مؤرخون ومفكرون وحتى رجال دين اتفقوا على أن هذا الحديث هو حديث نتاج سياسي بحت. المشكلة أننا نقصي أحاديث رائعة مثل “النساء شقائق الرجال”. فهذا الحديث يبين أن السيرة النبوية كانت بعيدة عن الصورة التي يروج لها اليوم الخطاب الديني المتشدّد.