إن خروج تظاهرات احتجاج ضد نظام مُحكم عقائدياً، على فكرة دينية جوهرها نيابة الإمام المهدي المنتظر وبالتالي نيابة الله، مثل نظام ولاية الفقيه المطلقة الإيرانية، يسترعي الالتفات إلى أن الأوضاع الداخلية، الاقتصادية والسِّياسية، بإيران قد وصلت وضعاً حرجاً، فالمتظاهرون يعون خطورة مواجهة الحرس الثوري حامي النظام، والنظام أيضاً يعي خطورة التجاوز على قدسيته، لذا أسرع إلى تحشيد تظاهرات مضادة، بذريعة ذكرى البيعة لولاية الفقيه (الثلاثون من ديسمبر/كانون الأول)، ووردت أخبار أن قسماً منها انقلب على النظام نفسه.
مازالت تظاهرات (2009) إثر إعلان نتائج الانتخابات آنذاك ثم التراجع عنها بأمر الولي الفقيه آية الله علي خامنئي؛ حيَّة في الذاكرة، وتسببت بوجود جرح في النظام لم يلتئم بعد، فقد كادت تعصف بنظام الولاية برمته، وكانت استفتاء واضحاً على النظام نفسه، ذلك النظام الذي شُيد على أساس فكرة متناقضة مع فكرة أو نظرية الانتظار المعروفة في التقليد الإمامي، وإثر تلك الأوضاع اُعتقل مرشح الرئاسة الإصلاحي مير موسوي وداعمها رجل الدين مهدي كروبي. ولو فاز موسوي، أو لنقل الإصلاحيون آنذاك، لأُعيد ترتيب السياسة الإيرانية الداخلية والخارجية، بشكل مِن الأشكال، لكن الولي الفقيه حسمها لصالح أحمدي نجاد.
غير أن النظام الإيراني لم يأخذ ما حصل في ذلك العام على محمل الجد، وأن التظاهرات التي أُخمدت لم تكن إلا إعداداً لتظاهرات جديدة كلما سنحت الفرصة، أو اشتدت وطأة الأزمة الاقتصادية. من خلال الشعارات التي رفعها المتظاهرون، سابقاً ولاحقاً، يظهر أن قطاعات واسعة من الشعب الإيراني تنظر إلى “حزب الله” كعالة على الاقتصاد الإيراني، وقد أعلنها السيد حسن نصر الله بأن تسليح حزبه ومعاشاته وكل ما يتعلق بوجوده من الخزينة الإيرانية، ثم جاءت الأزمة السورية (2011)، وتوغلت إيران فيها عبر تحشيد ميليشيات عراقية بدعم إيراني كامل، يُضاف إلى ذلك أزمة اليمن وما يتعلق بتسليح ودعم “أنصار الله” التي اشتهرت باسم “الحوثيين”، كل هذا لم يكن غائباً عن الشعب الإيراني، خصوصاً وأن 2017 غير 1979، مِن ناحية تأييد الثورة وتقدم وسائل التواصل ودورها في إشعال فتيل الغضب.
لم تتوقف هتافات المتظاهرين عند المطالب الاقتصادية أو المعاشية، إنما تعدتها إلى هتاف إسقاط ولاية الفقيه، وإن حرق صور الولي الفقيه علي خامنئي والهتاف بموته، تبعث برسالة إلى أن القدسية التي يحتمي بها خامنئي، والتي كسبها من مرشد الثورة روح الله الخميني (ت1989)، قد بدأت تُهتك، لأن النظام قائم على تلك القدسية، فحرق صورة نائب الإمام يعني أن الفكرة أو العقيدة أصبحت مكشوفة، وليس هناك ما يُبررها. نقول هذا لأنها ليست فكرة سياسية بحتة، في طبيعتها، وإنما فكرة دينية اهتزازها يعني سقوطها، وإن كان بنطاق ضيق داخل إيران.
منذ 1979 ومع شعار “الموت لأمريكا” وإيران تصف معارضيها بالعملاء أو الجواسيس، وإن أي اضطراب ليس لصالح النظام يُصنف بالمؤامرة، سواء كان ذلك في تظاهرات (2009) العارمة أو تظاهرات الجمعة الماضية (29 ديسمبر/كانون الثاني 2017) الغاضبة، وهذا لم يكن فعلاً إيرانياً فحسب، بل هو فعل السلطات التي جاءت عن طريق الثورات أو الانقلابات، ومن الواضح أن إيران الثورية مازالت تبني علاقاتها الداخلية والخارجية على أساس الثورة وليس الدَّولة، لذا أي صوت يطالب بإصلاح أو يتقدم بانتقاد يُعتبر مؤامرة خارجية، وأن عبارة “الشيطان الأكبر”، وإن امتنع إعلام النظام عن ترديدها مؤخراً، لكن وجود عدو تُرمى عليه أسباب المشاكل حالة ثابتة في العقيدة السياسية الإيرانية.
غاب عن أركان ولاية الفقيه أن المتظاهرين، في الغالب منهم إن لم يكن كافتهم، هم مِن ولادات ما بعد الثورة، ولم يعنهم خطاب الولاية، ولا إنجازات الثورة التي مازال النظام يُثقف بها، كذلك غاب عن أركان النظام أن هناك ملايين الإيرانيين من المنفيين وأبنائهم مِن جيل ما بعد الثورة يتحركون كمعارضة ضد النظام، بمعنى أن هذا النظام الإلهي لم يُقدم نموذج التمهيد لدولة المهدي المنتظر، والحق بنيابته، وهي فكرة تحقيق دولة مثالية أوصافها تشبه أوصاف الجنة المستحيلة على الأرض.
بذلك لا يُنظر إلى هذه التظاهرات، وإن تمكن النظام من قمعها، على أنها سحابة عابرة، أو حفنة عملاء مثلما يصفهم النظام نفسه، إنما حدوثها تعبير عن أزمة خانقة، على النظام الإيراني فيها مراجعة أولوياته من دكتاتورية الولاية المطلقة إلى السياسة الخارجية والدور الإيراني بالعواصم الأربع: دمشق، بيروت، صنعاء، بغداد. هذا ليس كلام خصوم إيران إنما المسؤولون الإيرانيون أنفسهم أكدوا امتداد سطوتهم على العواصم الأربع. فلم يعد نائب الإمام فوق غضب الناس، ومهما بلغت القدسية فالقول المأثور يُبرر الخروج عليها: “لولا الخُبز ما عُبد الله” (الميداني، مجمع الأمثال)!