-1-
تحدث الشيخ سعيد عقيل (رئيس جمعية نهضة العلماء فيإندونيسيا) بحضور شيخ الأزهر عن أهداف الجمعية، التي تدعو إلىتوجه إسلامي جديد يقوم على المحبة والتسامح ونبذ التطرف والعنف،فأشار إلى أن هذا التوجه ينبع من “خصوصية” الإسلام السائد فينوسانتارا (إقليم جزر جنوب شرق آسيا، الذي يضم إندونيسيا،وماليزيا، وسنغافورة، وجنوب تايلاند والفلبين، وبروناي)، وهو إسلاممغاير “لإسلام العرب” السائد في الشرق الأوسط، والذي يتسمبالتشدد والصدام مع الآخر.
لم يقبل شيخ الأزهر تصريح الشيخ عقيل ورد عليه بالقول: “إنالله لو علم أن إندونيسيا أهل لرسالته الخاتمة لما نزلت على محمدالعربي.. قلوبكم لن تكون مؤمنة إلا إذا أحبت هذا العربي.. الله اختارالعرب ليقوموا بهذه المهمة وقد قاموا بها خير قيام.. لولا مجيء هؤلاءالعرب لربما كنتم حتى الآن مذهبًا من مذاهب جنوب شرق آسيا التيتتعارض مع الحق”.
بالتركيز على فكرة الدفاع عن عروبة الإسلام، تجاهل شيخالأزهر الفكرة الجوهرية التي تقدمها “نهضة العلماء” والتي تمثلصلب المشكل، وهي أن ثمة “أزمة” في الطرح الإسلامي الموروث منالمدونة التقليدية في الفقه والكلام. هذا الطرح المثقل بخصائصالتفكير النقلي التي تقوم على الحصرية والثبات من جهة، وبتوابعالتاريخ السياسي التي أفرزت المذهبية والعنف من جهة ثانية. وهيالخصائص والتوابع التي غلبت على التدين الإسلامي في الشرقالأوسط وطبعته بطابعه الخشن، والتي ترشح دوريًا لإنتاج التطرفوالإرهاب الأصولي. ما يقصده الشيخ الإندونيسي بـ“ إسلام العرب”هو هذه النسخة القائمة من الإسلام الفقهي التي تعاني بالفعل منأزمة تكيف مع الواقع الحديث.
بوجه عام، وبعيدًا عن فكرة تبجيل “العروبة” التي تكاد تحتكرالإسلام، لا يرحب الفكر الديني التقليدي بحقيقة التعدد في أنماطالتدين نتيجة لتعدد السياقات الاجتماعية، فهو لا ينظر إلى تعدديةالدين بوصفها تجليات اعتيادية لواقعة التنوع الطبيعي داخلالاجتماع، بل بوصفها أشكالًا من التحريف في العقيدة الدينيةالواحدة. ومن هنا يأتي توجسه من الثقافات والتقاليد “المحلية” التيتتفاعل بشكل تلقائي مع الإسلام، والتي يدرجها عادة في إطار البدع.
لا يقر الفكر التقليدي بوجود أزمة جوهرية في مجمل المدونةالفقهية الموروثة ولا في صلب الفكرة التراثية ذاتها. وهو قد يقبلالحديث عن مشاكل فقهية فرعية ناجمة عن تطور الواقع، لكنها فيجميع الأحوال قابلة للحل من داخل “النظام الأصولي” المعتمد منعصر التدوين. وبالنسبة إلى القطاع الأكثر رسوخية، لا ترجع هذهالمشاكل الفرعية إلى قصور الفقه عن مواكبة “الواقع” المتطور، بل إلىانتكاس “الواقع” وخروجه عن روح الدين الذي يمثله الفقه. ولذلكفالاجتهاد التجديدي في الوعي الرسوخي، لا يعني تغيير الطرحالديني ليتكيف مع الواقع، بل يعني تغيير الواقع ليعود إلى التكيف معالطرح الديني.
في الحد الأدنى، لا مجال للحديث عن مقاربة تجديدية تتجاوزالنظام الأصولي، حتى لو كانت هذه المقاربة تؤسس نفسها على“جوهر” الدين أي على قيمه الكلية المطلقة ذات الطابع الروحيالأخلاقي. فالدين ليس مجرد جملة من القيم التي يترك تمثلهالاستدلال العقل ونزوعات الشعوب، بل لوائح تفصيلية مغلقة يلزمتطبيقها على نحو ما فهم السابقون من النصوص، أو بتعبيرالشافعي: لا يجوز لمسلم أن يقول في الدين “إلا من جهة علم مضىقبله”.
في إطار “المقابلة” مع هذه الرؤية الرسوخية يلزم قراءة الطرحالتجديدي القادم من إندونيسيا، والموقف المتوقع حياله من قبل القوىالتقليدية، بما في ذلك الأزهر المعروف بتوجهه الوسطي المعتدل؛فوسطية نوسانتارا –كما سيظهر بعد قليل- تبدو أكثر انفتاحًا علىالتعددية والتطور من وسطية الأزهر “النسبية” المستمدة من عقيدتهالأشعرية، التي تظل مخلصة لسلطة النظام الأصولي الموروث.
-2-
يرجع إنشاء جمعية “نهضة العلماء” إلى أوائل القرن الماضي(1926)، لكن مصطلح “إسلام نوسانتارا” لم يظهر “كمفهوم” لافتإلى عام 2015، بعد أن تبنته الجمعية وروجت له كنموذج وسطيمعتدل يستطيع تمثيل الإسلام أمام العالم، بدلًا من النموذج التقليديالخشن الذي يمثله “إسلام الشرق الأوسط”. في مايو (أيار) 2016دعت الجمعية إلى “المؤتمر الدولي للقادة الإسلاميين المعتدلين، تحتعنون “إسلام نوسانتارا كمصدر إلهام للسلام العالمي” وفيه تم تقديمنمط التدين الإندونيسي بطابعه الروحي المتسامح كنموذج قابلللتعميم داخل العالم الإسلامي، وقادر على استعادة الثقة المفقودة فيالإسلام عبر العالم. وأشار الإعلان الصادر عن المؤتمر إلى أن“الإسلام يسهم في الحضارة العالمية من خلال احترام وتقديرالثقافات الموجودة، وتعزيز الانسجام والسلام بينها”، ودعا المجتمعاتالإسلامية إلى “تذكر الجمال والحيوية التي انبثقت عن التفاعلالتاريخي بين روح وتعاليم الإسلام وواقع الثقافات المحلية، والذيتمخضت عنه حضارات عظيمة كتلك التي شهدها الأرخبيلالإندونيسي“. وفي مارس (آذار) 2017 أعلنت الجمعية بالتحالف معمنظمة “جيرا كان بيمودا أنصار” عن ميلاد “حركة الإسلام من أجلالإنسانية”.
واضح أننا حيال صوت إسلامي جديد يعبر بلغة مختلفة عن تيارإصلاحي، معني بفكرة التواصل الإنساني وتعزيز قيمة السلام.وواضح -بالنظر إلى سياقه الزمني ومشاغله النظرية- أنه يصدر كردفعل عكسي لحالة العنف والإرهاب “الإسلامي” التي ضربت الشرقالأوسط والعالم على يد الجماعات الأصولية المتطرفة خصوصًا القاعدةوداعش، والتي أساءت بشكل فادح إلى سمعة الإسلام وحولته عبرالغرب إلى واحد من أشكال الفوبيا، وواضح أخيرًا أنه يضع مسؤولية هذه الحالة على عاتق النسق الفقهي التقليدي الذي نحت له مصطلح“إسلام الشرق الأوسط”.
-3-
مقابل “إسلام الشرق الأوسط” يضع التيار الإندونيسي–ببساطة– مصطلح “إسلام نوسانتارا” برغم وعيه باستهجان الفكرالتقليدي الذي يكره الحديث عن “إسلامات إقليمية متعددة. فماذايعني هذا المصطلح الذي تروج له جمعية نهضة العلماء (الجمعيةالإسلامية الأكبر في العالم من حيث عدد الأعضاء- حوالي “50“مليون عضو حسب متوسط التقديرات)، والذي يحظى بدعم “رسمي”معلن من قبل الدولة الأكبر في العالم من حيث عدد السكان المسلمين(حوالي “250“ مليون نسمة)؟
فيم يختلف عن إسلام المدونة التقليدية ذات النفس السلفي؟ وفيميختلف خصوصًا عن الإسلام الأشعري الذي يتسع لقدر محسوب منالوسطية؟
هل هو تطوير نظري لنمط التدين الشعبي الإندونيسي؟ أم هوهذا النمط نفسه؟ وفي هذه الحالة، فيم يختلف عن بقية أنماط التدينالشعبي في العالم الإسلامي، التي تشترك جميعًا في خصائصوسطية مخففة لا تطابق حرفية المدونة الرسمية؟
هل يطرح نفسه كنموذج تجديدي من خارج النظام الأصوليالمدرسي؟ أم لا يزال ينسب نفسه جزئيًا إلى هذا النظام؟ وفيالحالتين، ما فرص نجاحه في فرض رؤيته، على المدى القريب أوالمتوسط، داخل الساحة الإسلامية السنية، التي لا تزال تخضعلحراسة مشددة من قبل القوى التقليدية، فضلًا عن ضغوط القوىالأصولية الجديدة التي تمثلها جماعات الإسلام السياسي؟ هلوصلت أصداء هذا التيار إلى المحيط العربي مثلما وصلت إلى الغربالذي يتفاقم وعيه بالمشكل الإسلامي ويبدي حفاوة واضحة بهذاالنموذج الإندونيسي؟
يتبع