شيء مشابه لتأثير الفراشة يطل علينا في السياسة، بعد أن تكشف في صحف غربية كيف تطورت الأحداث من رحلة صيد قام بها مجموعة من شباب العائلة الحاكمة إلى اتفاق يعيد رسم خريطة الشرق الأوسط انطلاقا من سوريا. سأوجز هنا القصة في مجموعة من المشاهد حسب ترتيبها الزمني.
المشهد الأول نوفمبر (تشرين الثاني)، ديسمبر (كانون الأول) ٢٠١٥:
مجموعة من القطريين، بينهم أعضاء من العائلة الحاكمة، تسافر إلى جنوب العراق ترصدا لموسم هجرة طائر الحبارى، وهو موسم صيد خليجي متوارث من سنين ما قبل الطفرة النفطية. طائر الحبارى مرغوب بسبب طعمه، وبسبب ما يشاع عن كون هذا اللحم منشطا جنسيا. والطائر نفسه صعب الصيد، لأنه في حال التعرض لخطر مباشر يتقيأ مادة تعمي الطيور المهاجمة أو تشل حركتها وقتها.
المشهد الثاني:
أحد الخدم المصاحبين للقافلة يركض في منتصف الليل مهرولا نحو خيمة قائدها، الذي تسميه صحيفة نيويورك تايمز أبا محمد، ويخبره بأن قوات كبيرة تحاصر المكان الذي عسكروا فيه. يخرج أبو محمد إلى “القوات”، يرى أنهم قيدوا رفاقا له وألقوا بهم في سيارة رباعية الدفع. يحاول أن يغريهم بما يملك معه ومع باقي الرفاق من نقود، لكن الخاطفين يخبرونه بأنهم غير مهتمين بالأموال.
المشهد الثالث:
وفد قطري مكون من (١٥) شخصا يمر من صالة كبار الزوار في مطار بغداد، مصطحبا معه (٢٣) حقيبة سوداء متمائلة، يرفض التفتيش. أمام إصرار سلطات المطار يوافق على أن تمر الحقائب بأجهزة الكشف. يرى الموظفون قوالب، ملفوفة بغطاء أسود سميك لا يكشف عما تحته، ويسألون عنه الوفد القطري، لكن الأخير يرفض الإفصاح عن محتواه. ثم يتدخل رئيس الحكومة العراقية وينقل المحتوى إلى البنك المركزي العراقي، بعد أن علم أن فيه (٣٦٠) مليون دولار. وأنها مخصصة كـ”فدية” لإطلاق سراح المختطفين.
الفدية توسط لها السياسي العراقي القريب من الميليشيات الشيعية، حازم الأعرجي، لكن يبدو أنه بالغ في حجم نفوذه في المطار، وفي وعوده بأن تتم العملية في سرية تامة.
المشهد الرابع
الموضوع برمته يتخذ منحى سياسيا مختلفا تماما. حيث يتدخل رجل إيران الأقوى في المنطقة (قاسم سليماني) لكي يطرح المطالب الإيرانية في موضوع الرهائن. مبلغ الـ(٣٦٠) مليون دولار يتحول إلى جائزة ثانوية. أما المطلب الأساسي فمطلب إيراني استراتيجي، اسمه “صفقة البلداتالأربع“. والمقصود منه تبادل السيطرة على أربع بلدات سورية. اثنتان منها يسيطر عليهما المسلحون السنة في شمال غرب سوريا، هي الفوا وكفرية. واثنتان منها يحاصرها حزب الله الشيعي الموالي لإيران، على الحدود بين سوريا ولبنان، وهما الزبداني ومضايا. هاتان القريتان ذات أغلبية سنية، وتسببان مشاكل لنظام بشار الأسد.
ولا تتوقف الصفقة عند هذا الحد، بل المطلوب فيها أيضا مبادلة مجموعات سكانية، بهدف إحداث تغيير ديموجرافي، يمهد لتغيير “جغرافي/ سياسي” ترغب فيه إيران. حيث تريد أن تضمن في أي حل نهائي ممرا آمنا، يحافظ على “الهلال الشيعي” موصولا جغرافيا من طهران حتى بيروت.
طهران قدمت الطلب خلال محادثات سرية رعتها الأمم المتحدة في إسطنبول. وعلى الرغم من أن الجميع نظر إلى الصفقة بتشكك، وعلى الرغم من أنها أوشكت على الفشل حين فجرت سيارة في حافلة كانت تضم سكانا شيعة مهجرين بموجب الصفقة، وعلى الرغم من عدم تحمس الحكم في سوريا، ولا الجماعات السنية الممولة قطريا، للصفقة، فإنها تمت إلى حد كبير.
بالنسبة للمبلغ المالي الذي احتجزته السلطات العراقية، تم العثور على طريق بديل لتوصيل دفعة أخرى مماثلة، ولكن عبر مطار بيروت، الذي يخضع لسيطرة الجهاز الأمني لحزب الله.
المشهد الخامس
قاسم سليماني بنفسه –حسب ما صرح مسؤول عراقي لصحيفة نيويورك تايمز– هو الذي أجرى المكالمة آمرا بإطلاق سراح المختطفين. أبو محمد، وقد فقد (٤٠) رطلا من وزنه، ورفاقه وقد غارت عيونهم بعد احتجاز دام (١٦)شهرا، نقلوا من غرفة احتجاز بلا نوافذ في طابق تحت الأرض إلى بيت ضخم يبدو أنه مزرعة. هناك التقوا ببقية المختطفين من المساعدين والخدم الذين رافقوا شباب العائلة المالكة في رحلتهم. هذا القسم الثاني من الرهائن لقي خلال فترة الاختطاف معاملة أفضل من قبل الخاطفين. أُخبِر أعضاء الأسرة المالكة، وقد عادت إليهم ألقاب التفخيم في الخطاب، بأنهم سينقلون إلى الدوحة.
المشهد السادس
في ٢١ أبريل (نيسان) ٢٠١٧، بعد حوالي (١٦) شهرا من المحنة، وصلت الطائرة عائدة بالرهائن إلى مطار الدوحة، حيث كان في استقبالهم الأمير تميم بن حمد شخصيا. بالإضافة إلى أقارب الرهائن.
ختاما
حوالي مليار دولار دفعت إلى الخاطفين في إطار تلك الصفقة، نظير تحرير أعضاء العائلة القطرية المالكة. لكن المبلغ –على فداحته– لا يساوي شيئا أمام الاتفاق غير المعلن الذي تم بموجبه، ولا سيما الجزء الذي يتعلق بصفقة البلدات الأربع. الصفقة منحت إيران (التي وصفها مسؤول قطري أخيرا بالشريفة) حجر أساس في خطتها لتقسيم سوريا بما يخدم خطتها الاستراتيجية للمنطقة.
الفقرة السابقة تجمع وجهي أزمة السياسة مع دولة كقطر: ثروة مالية تغرس سلوك الاستهتار، ومسلك سياسي يتحرك في حقله. غدا يعرف سوريون كثر ماذا فعلت السياسة القطرية بهم، وكيف كانوا مجرد أرقام على رقعة سياسية في يد طفل، يحسبها لعبة كـ”بنك الحظ” أو “بنك السعادة”.