في البداية حاول النظام في إيران أن يقلل من شأن المظاهرات التي شهدتها البلاد. وسائل إعلامية على علاقة به رددت خطا واحدا في تفسير هذه المظاهرات، مفاده أنها مظاهرات من قبل المتشددين ضد حكم الرئيس “الإصلاحي” حسن روحاني.
كما نرى فإن هذا خط مختار بعناية لكي يُدخل المهتمين بالشأن الإيراني في حيرة. لعبة الإصلاحيين والمتشددين أثبتت نجاحها أكثر من مرة قبل ذلك، وخدرت مخاوف العالم من إيران واستراتيجيتها الثابتة، التي لا تتغير بإصلاحيين ولا متشددين، وأعني بها مد نفوذها الإقليمي من خلال ميليشيات تنسخ إحداها الأخرى.
لكن هذه الخدعة، الضابط الجيد والضابط السيئ، صارت الآن منبوذة. ومنبوذاً صار هذا التفسير سريعا، وظهر أن الاحتجاجات ليست لمتشددين ضد إصلاحيين، بل ضد فلسفة حكم النظام الإيراني نفسها. إفقار البلد من أجل مشاريع توسعية. هتافات المتظاهرين الداعية إلى الخروج من سوريا والالتفات إلى الإيرانيين، وهتافاتهم الداعية إلى سقوط الديكتاتور، لخصت مطالب المتظاهرين بأصواتهم. وليس بأصوات آخرين، في هذه الجهة أو تلك.
هنا غير النظام الإيراني خطه الإعلامي. وتحول إلى اتهام دول أخرى بالوقوف خلف هذه المظاهرات. دول –والمقصود السعودية (2) – صرح قادتها بأن الوقت قد حان لنقل المعركة إلى إيران.
فهل هذا صحيح؟ بالتحديد، هل فعلا ثمة دور خارجي في مظاهرات إيران؟
نعم. بالتأكيد.
لكنه ليس بالطريقة التي يريد النظام في إيران تقديمها إلى العالم، وكأن هذه المظاهرات يقودها مستأجرون يتلقون أوامرهم من جهة معينة. الأمر أبسط من هذا.
سقف التوقعات في إيران ارتفع بعد الاتفاق النووي. ظن المواطن العادي أن الرخاء الاقتصادي قادم، وأن الانفتاح والاستثمارات الأجنبية قادمة (1) . وظن النظام أنه حاز ما يريد. استمر في توسعه الإقليمي، والآن ينتظر أن يتوسع أكثر. رفع مستوى التمويل لحزب الله أربعة أضعاف. أنفق عسكريا في سوريا، وشغل ميليشيات في العراق، وسلح ميليشيات في اليمن.
وكان يمكن أن يستمر هذا الوضع. فالاتفاق النووي لم يلزم إيران بسلوك إقليمي مختلف. ولا حتى حد من قدرتها التسلحية الهجومية داخل المنطقة.
فما الذي تغير؟
عاملان متزامنان. استراتيجية إقليمية أعلنت التزامها بمكافحة الإرهاب، وإدارة أمريكية جديدة وضعت هذا الهدف في قمة أولوياتها. لو بحثنا عن تأريخ علني لتلاقي هذين العاملين في المكان والزمان فهو قمة الرياض، واتفاقها على الالتزام بمكافحة كافة أشكال الإرهاب، الإرهاب السني والشيعي أيضا. وذلك في حضور الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وقادة من أكثر من خمسين دولة إسلامية.
بعد هذه القمة بدأت الخطوات التي اتخذتها الرباعية العربية لمكافحة الإرهاب، مصر والسعودية والإمارات والبحرين، ضد قطر. ثم رفض ترامب التصديق على التزام إيران بالاتفاق النووي، وتصعيد رمزي للعقوبات الاقتصادية تصل إلى الحرس الثوري الإيراني، الذي يتحكم مباشرة في (١٠%) إلى (٣٠%)من الاقتصاد الإيراني، بينما يتحكم بشكل غير مباشر في أكثر من ذلك. ثم أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن الاتفاق يجب أن ينظر في الصواريخ الباليستية الإيرانية. وبعده عرضت مندوبة أمريكا في الولايات المتحدة، نيكي هايلي، ما وصفته بأدلة على تسليح إيران للحوثيين واستخدام هذه الأسلحة في ضرب أهداف مدنية سعودية.
مع تنحية كل الاعتبارات الأخرى، فإن هذه الإجراءات كانت كفيلة بتدني النظرة الاقتصادية نحو إيران، وإدراك الشركات العالمية أن الأمر لا يسير في منحى إيجابي.
الدول الأخرى ساهمت فعلا في المظاهرات الإيرانية بأن أظهرت تصميمها على عدم السماح للنظام في إيران بالاستمرار في تصرفاته غير المسؤولة، ولا الاستفادة من ميليشياته التي يتحكم بها في أربع عواصم عربية. والمواطن الإيراني أدرك ذلك مباشرة، أن الرخاء ليس قادما، وأن المغامرات العسكرية ستلتهم كل شيء، وأن المعركة الأبدية ستخلق مزيدا من الفساد وتخنق أي اعتراض عليه.
هناك أيضا إحساس الإيرانيين بأن الجوار الإقليمي ينفتح على العالم، ويتغير اجتماعيا ويتنوع اقتصاديا، بينما هو مخنوق بحكم آيات الله. يمكننا تلمس وصول هذا الإحساس إلى السلطات الإيرانية من قرار رمزي صدر قبيل المظاهرات، حين أعلنت أنها لن تقتاد من “يخرق أحكاما شرعية إلى مراكز الحجز ولن تفتح ملفا قضائيا باسمه“. يبدو أن السلطات وصلها هذا الإحساس، لكنها لم تفهم جوهره. إن القضية ليست الحجاب على الشعر، بل الحجاب على البلد. هذه القضية –بالنظر إلى مدى سيطرة النظام الإيراني على مفاصل السلطة– تجعل من الصعب تخيل أن تسفر المظاهرات الحالية عن تغيير جذري، لكن المظلمة قائمة، وتغييرها يستدعي أن يختار النظام الإيراني بين سلوك التنمية الاقتصادية أو سلوك التوسع العسكري، أو حسب تعبير المتظاهرين: بين أن يلتفت إلى إيران أو أن يوسع نفوذه خارجها.
1 “الاتفاق النووي الإيراني حظي بدعم ساحق من المواطنين الإيرانيين، لكنهم توقعوا أن ينتج عنه مزيد من التنمية الاقتصادية“، تريتا بارسي، رئيس المجلس الوطني الإيراني الأمريكي – سي إن إن ١/١/٢٠١٨
بي بي سي ١٥ ديسمبر (كانون الأول) 2٢٠١٧.