في سبعينيات القرن الماضي، استغل عناصر من جماعة الإخوان المسلمين، توجه الآلاف من الأقطار الإسلامية للدراسة أو العمل في دولة الكويت، فعملوا على استقطابهم تحت مسميات عديدة، حتى إذا رجعوا إلى بلادهم شكلوا نواة تأسيسية لأفرع الجماعةـ، التي يتم ربطها بعد ذلك بالتنظيم العالمي.
وفي الكلية الصناعية بالكويت كان يدرس المئات من الطلبة الموريتانيين، الذين ثار الحديث بين عدد منهم حول إمكانية إقامة عمل إسلامي منظم بعد عودتهم إلى بلادهم، ففوجئوا بتوزيع منشور عليهم، وهو بين أيدينا الآن.
حمل هذا المنشور عنوان «هل يجوز إقامة عمل إسلامي منظم في دولة موريتانيا الاسلامية؟»، ثم يلي هذا السؤال مباشرة، تمهيد ومدخل للإجابة: «يقتضي أن يعلم المفتي واقع هذه الدولة: هل هي دولة تقيم الشريعة الإسلامية، أم هي دولة كبقية الدول التي تنسب إلى الإسلام، وتقيم قوانين في ديار المسلمين؟»
التشكيك في إسلامية الدولة
يعود كاتب المنشور إلى توصيف علاقة الدولة الموريتانية بالإسلام، من منظوره الأيديولوجي الخاص، فيقول: «إن الخبير بتاريخ هذه الدولة، وواقعها، يعلم أن الذين أقاموا هذه الدولة في أول أمرها كانوا صادقين في انتمائهم للإسلام، وأنهم أقاموا دولتهم على أساس ديني، وأقاموا شريعة الله، وحكموا الحياة بها».
هذا عن القديم أما عن الجديد فتقول الوثيقة: «والناظر في واقع هذه الدولة المعاصر يرى أنه لا يزال للشريعة الإسلامية دور في حكم الحياة، فلم يوضع حتى الآن قوانين وضعية بدلا من الشريعة الإسلامية، ولا تزال المحاكم القائمة في تلك الديار تحكم بالإسلام خاصة فيما يتعلق بالقانون المدني والجنائي».
إلا أن هذه المقدمة لم تكن سوى توطئة لهجوم على واقع الدولة الموريتانية المعاصرة، إذ ورد بعد ذلك: «إلا أن المتبصر بواقع هذه الدولة المعاصر، يجد تحولًا كبيرًا قد طرأ على هذه الدولة في ولاء حكامها، وفي سياستها الداخلية والخارجية، لقد تأثر كثير من حكامها بالثقافة الغربية والحضارة الغربية، وارتبط هؤلاء بالغرب ارتباطًا كبيرًا إلى درجة الولاء للعالم الغربي وخاصة أمريكا، وقد انعكست ظلال هذا الولاء على كل شيء في تلك الدولة».
إلا أن ما جاء في الهامش تعليقا على هذه النقطة كان أخطر من المتن، إذ اعتبرت الجماعة، أن سياسة الحكام الموريتانيين تلك تخرجهم من إطار الموالاة لله إلى موالاة أعدائه، وهو ما يمثل جريمة كبرى: «فالواجب على المسلم موالاة الله، ولا تتحقق الموالاة إلا بالإيمان بالله ومحبته وطاعته، والإيمان بالرسول، واتباع ما جاء به ظاهرًا وباطنًا، ومناصرة المسلمين والذود عن أنفسهم وأعراضهم وديارهم وأموالهم (ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون).
وكعادة الجماعات في خطابهم إلى جمهورهم المستهدف، يتم تطعيم آرائهم الفقهية بآيات من الذكر الحكيم، ليتحول بذلك الرأي الموجه إلى نص قدسي قاطع وتكمل الوثيقة: «وموالاة أعداء الله من الكفرة المشركين جريمة كبرى في حكم الإسلام وشرعه (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تسرون إليهم بالمودة) وقد توعَّد الله الذين يتخذون أعداءه أولياء بجعلهم من الأعداء (ومن يتولهم منكن فإنه منهم) والكفار أعداء يبغضون ويكرهون ويحاربون، فلا يجوز محبتهم ومناصرتهم وموادتهم وحكام العالم الإسلامي أكثرهم اليوم إن لم يكونوا كلهم أعطوا ولاءهم للدول الكافرة، فكانوا سلما لأعداء الله، حربا على أولياء الله».. ثم تتعالى نبرات الهجوم عند ختام ذلك القول بــ«إلى الله المشتكي، ولا حول ولا قوة إلا بالله».
حشد وتعبئة
تمتلأ الوثيقة بالخطاب الحشدي التعبوي المليء بالكراهية وتشويه الدولة الموريتانية، تمهيدا للدفع بالمخاطبين بها إلى الاستعداد لتكوين كيان يتصدى لتلك الدولة التي تعمل ضد الإسلام «وفق كتاب الوثيقة».
فالدولة الموريتانية -وفق الوثيقة- جعلت «القوانين الوضعية تتسلل إلى الحياة العامة، باسم النظم ووضعت قوانين للتجارة أحلت الربا والمكوس، وقامت القوانين في الشركات بعيدًا عن التعاليم الإسلامية، وأُعطيَ الذين درسوا القوانين ورضعوا ألبانها دورا كبير في التحقيق في الجرائم، بعيدًا عن الضوابط الشرعية، ثم إن تنفيذ الأحكام الشرعية لا يأخذ دوره إلى التنفيذ دائما وخاصة إذا كانت القضايا تتعلق بعلية القوم».
اعتبرت الوثيقة من«تشجيع الحكومة الطلاب للدراسة في جامعات الغرب في سن مبكرة» غرضا خبيثا يهدف إلى معاداة الإسلام، وليس العمل على تحصيل العلوم الغربية التي يمكن أن تساهم في نهضة البلاد!
تقول الوثيقة: إن «هناك عشرات الألوف من الطلاب في مختلف الاختصاصات في جامعات الغرب وخاصة في أمريكا، سيكون لهم دور كبير في توجيه البلاد وجهة متأثرة بالغرب وحياته، وقد أعطي هؤلاء مناصب قيادية خطرة في كثير من المجالات في الجهاز السياسي والتربوي، وقد راحت روائح فجورهم وانحرافهم، بل إن الصحف نشرت صورا سيئة لمن هم في الصف الأول من الحكام تبين مدى انغماسهم في الرذيلة والمحرمات».
المظلومية الإخوانية
كتب المنشور بشكل احترافي ومدروس، فبعد أن اعترف بأن الدستور الموريتاني يعتمد الشريعة الإسلامية كأساس للحكم، ذهب بعد ذلك لإثبات أنها مفرغة من مضمونها، وأن الواقع لا يدل على ذلك، ضاربا في هذا السياق بعدة أمثلة فضفاضة، تمتلئ بالشحن الوجداني، لأولئك الشباب المتحمس للإسلام، ولم يبق بعد ذلك سوى إثبات أن الدولة الموريتانية تضطهد الشباب المسلم، كي تشتعل أفئدة هؤلاء الشباب ضد حكومتهم.
تقول الوثيقة: «وفي مجال السياسة الداخلية، والحياة الاجتماعية، فإن الدولة أخذت تضيق الخناق على العاملين بالإسلام، وتحد من نشاطهم، وزرعت الرعب والفزع في نفوس الدعاة، ووجهت الإذاعة والتلفاز وجهة سيئة، فالمتبع لهذين الجهازين يجدهما لا يختلفان كثيرا عن إذاعات وتلفزيونات بقية الدول العربية والإسلامية، ومن ينظر في الحياة الاجتماعية يجد تحولات هائلة قد تمت في الفترة السابقة تدل على تخطيط دؤوب لإفساد الحياة الإسلامية في تلك الديار».
إذن هناك مؤامرة ضد الإسلام والمسلمين، وفق الوثيقة، تتجلى واضحة في الداخل الموريتاني، لكن لا بد لهذه المؤامرة من أطراف خارجية يشرفون على تطبيقها، بعد أن خططوا لها، ولهذا جاء المقطع التالي في الوثيقة كالتالي: «وفي السياسة الخارجية ارتبط ولاء حكام هذه الدولة بالغرب، بل إن هذه الدولة أصبحت منفذة لسياسة أمريكا في المنطقة، فنجدها تضغط على أهل السنة والحركات الإسلامية في الوقت الذي تمد الصليبيين في لبنان والنصيرية في سوريا بسيل من الأموال».
اعتبر كاتب هذا المنشور، أن مناداة الدولة الموريتانية بالسلام مع اليهود في فلسطين، هي مناداة للتمكين لليهود في القدس، كما نادت بذلك الدول «المنحرفة»، كما مكنت هذه الدولة لأمريكا بما أقامته من قواعد، وبما استوردته من جنود ومدربين وخبراء لجيشها «وفق نص الوثيقة».
تصل الوثيقة إلى الهدف منها، وهو ضرورة إقامة كيان إسلامي منظم في موريتانيا يتصدى لكل تلك الخطط المزعومة فتقول: «القول: إن هذه الدولة وإن كانت لا تزال تطبق الشريعة، إلا أنها في ابتعاد منظم مستمر عن هذه الشريعة، والشريعة هناك في سبيلها إلى الاضمحلال والزوال، وما دام الأمر كذلك، فلا بد لمن يرى هذا القطر أن يقيم تنظيما إسلاميا قويًا في تلك الديار لتقويم المسار إن استطاع، ولوراثة الحكم في حال انهياره، لتفويت الفرصة على من يحاول إزالة الحكم الإسلامي في تلك الدولة، وإحلال الحكم الكافر الصريح محله، أو حين يعلن النظام هناك ردته الواضحة في المستقبل».
تكشف الوثيقة بشكل صارخ عن الهدف من إنشاء التنظيم في موريتانيا وهو «وراثة الحكم في حالة انهياره» كما تبدو لغة الوثيقة تكفيرية، تتشابه -لحد بعيد- مع خطاب التنظيمات التكفيرية، وذلك حين يقول كاتب الوثيقة بأن الحكم الموجود هو كافر متوارٍ وليس صريحا، كما يتوقع أن يعلن النظام هناك ردته الواضحة في المستقبل.
وفي النهاية يعود الكاتب إلى المراوغة وهو يقول: «إننا نقر بأن للشريعة في تلك الديار دورا، ولكننا نوجب العمل على إقامة عمل إسلامي منظم لما نرى من أخطار تعمل باستمرار على تقويض الشريعة الإسلامية وزوالها…».
دار إسلام أم دار حرب
أرفق بهذا المنشور، وريقات أخرى تفرد للآراء الفقهية القديمة لمفهوم دار الإسلام ودار الحرب، مع ملاحظة أن إرفاق هذه الوريقات عند الحديث عن موريتانيا يشي بدلالات تكفيرية واضحة.
جاء في تلك الوريقات أن «دار الإسلام تتمثل في جميع الأرض التي يعترف فيها بالسلطة العامة للمسلمين، بمعنى أن يكون للدولة الإسلامية على هذه الأرض كل مظاهر السيادة والسلطان، فلا توجد عليها سوى سلطة الدولة الإسلامية المتمثلة في الخليفة باعتباره رئيسا للدولة الإسلامية، قال الكاساني: إن قولنا دار الإسلام ودار الكفر بإضافة “دار” إلى الإسلام وإلى الكفر، وإنما تضاف الدار إلى الإسلام أو إلى الكفر لظهور الإسلام أو الكفر فيها».
تكمل: «وظهور الإسلام والكفر بظهور أحكامها، فإذا ظهرت أحكام الكفر في دار فقد صارت دار كفر فصحت الإضافة، ولهذا صارت الدار دار الإسلام بظهور أحكام الإسلام فيها من غير شريطة أخرى، فكذا تصير دار الكفر بظهور أحكام الكفر فيها، أي من غير شريطة أخرى».
وتضيف الوريقات: «ويقول، أي الكاساني، في موضع آخر: “ووجه قول أبي حنيفة (رحمه الله) أن المقصود من إضافة الدار إلى الإسلام والكفر ليس هو عين الإسلام والكفر، وإنما المقصود هو الأمن والخوف، ومعناه أن الأمان إن كان للمسلمين فيها على الإطلاق والخوف للكفرة على الإطلاق فهي دار إسلام، وإن كان الأمان فيها للكفرة على الإطلاق والخوف للمسلمين على الإطلاق فهي دار كفر والأحكام مبنية على الأمان والخوف لا على الإسلام والكفر»”.
ويكمل كاتب الوريقات: «فأساس التفرقة بين دار الإسلام ودار الحرب أو الكفر عند الصاحبين ظهور أحكام الإسلام أو الكفر، وعند أبي حنيفة الأمن والخوف، فإن كان الأمان فيها للمسلمين على الإطلاق فهي دار إسلام، وإن كان الأمن للكفار على الإطلاق فهي دار الكفر».
ويستطرد الكاتب: «فعلى رأي أبي يوسف ومحمد أن الأرض التي لا تقام فيها شريعة الله ليست دار إسلام، بل دار كفر ولو كان أهلها مسلمين، وعلى رأي أبي حنيفة أن الدار لا تعد دار حرب إذا علت فيها أحكام الإسلام أو تم إلقاؤها، بل لا بد من ملازمة انتفاء الأمان للمسلمين».
وينقل الكاتب عن عبدالقاهر البغدادي قوله: «إن أي إقليم يرضى سكانه بالإسلام دون قيود وتسود السلالة الإسلامية الذميين فيه فهو دار إسلام” وعرفها آخرون بأنها “الموضع الذي تحت يد المسلمين” وأما ابن المرتضى فعرفها بأنها “الموضع الذي تحت يد المسلمين”.
كما ينقل عن ابن القيم الجوزية خلاصة مذهب الجمهور إذ يقول: «قال الجمهور: دار الإسلام هي التي نزلها المسلمون وجرت عليها أحكام الإسلام».
وأورد بعض فقهاء الشافعية حيث قالوا: «إن كل إقليم حكم حكمًا إسلاميًا، واستقر فيه الحكم الإسلامي فترة فهو من دار الإسلام، ولو أزيل عنه حكم الإسلام بعد ذلك، ولو أخرج أهله المسلمون منه، أو انتفى لديهم الأمان، فالعبرة بقيام شريعة الإسلام في الإقليم، واستقرارها فيه فترة من الزمن، ولا يعد أي حكم قائمٍ بعد ذلك إلا حكما مغتصبًا يتعين على المسلمين استرداده، ومثل ذلك فلسطين والأندلس والقوقاز والقرم وغيرها من البلاد التي حكمها المسلمون».
لكن الكاتب يستطرد بقوله «ولكن يبدو أن ما ذهب إليه هذا الفريق من أن كل أرض خضعت لحكم الإسلام فترة من الزمن، ولو أزيل عنها حكم الإسلام تعتبر دارا إسلامية غير دقيق وفيه تجوز، فهم لم يفرقوا بين الإقليم الذي يحكم بالإسلام وبين الإقليم الذي زالت عنه هذه الصفة».
وفي سبيل تعضيد رأيه يورد ما ذهب إليه الدكتور مصطفى وصفي إذ قال: «وهذا بخلاف قرية إسلامية في حدود الأراضي التي تغتصبها إسرائيل أو التي يسيطر عليها الشيوعيون ويمنعون عنها الشعائر قهرا وجبرا، أو كبلاد أوروبا النصرانية فهذه كلها ليست دار إسلام لأن الشعائر لا تظهر فيها».