وحدة بدون انتظام*
آدم غارفنكل* ( ( Adam Garfinkle
يحمل التاريخ في طياته كنوزاً من الرؤى، فلو أننّا دققنا المطالعة في كل صفحاته لوجدنا أمثلة لكل شيء تقريباً. ولكن لما كان التاريخ يعطي دروساً في “س”، ومعه السيناريو المعاكس، والمضاد، والمضاد الإيجابي، إذن ما فائدة التاريخ؟ إنّ التاريخ يصلح لتقديم احتماليات مستقبلية: أن يكون مصدر إلهام وليس للتنوير فقط.
مثال: جامعة القرويين كانت الجامعة الأولى في العالم، حيث تأسست عام 859م في مدينة فاس وكانت مؤسستها سيدة تدعى فاطمة الفهري. كانت جامعة القرويين وريثة الإرث الفكري الغني للأندلس، وكانت عبر تاريخها الممتد خلال (1100) سنة تقبل الطلبة اليهود والمسيحيين إلى جانب الغالبية العظمى من طلابها المسلمين. أمّا الإنجاز الأعظم للجامعة، فربما كان تنشئة الإبداع الانتقائي في دار السلام. لقد كانت جامعة القرويين مهد المدرسة المالكية، ولكن الأفكار الأخرى كانت مقبولة، إذْ كانت جامعة مشيّدة حول مسجد، وترحّب بالباحثين وطالبي العلم من كل مكان.
لقد أنجزت جامعة القرويين في ذروتها أمراً سامياً: وحدة بدون انتظام، حيث مثّلت الجامعة مجتمعاً من الباحثين يدينون بالولاء الكبير لمؤسسة تنويرية تجمعهم ببعض لغرض عظيم، وهو السعي للمعرفة والحقيقة. لكن تلك الوحدة لا تحتاج إلى انتظام، ولا يمكنها أن تنتظم. يجب أن يُسمح للعقول الساعية بأن تتبع كل معلومة وكل منظور دون قيود مصطنعة ومعتقدات متزمتة. تصبح المؤسسة التعليمية أو الدينية ذات عظمة –فقط- إذا احتضنت الوحدة دون فرض نظام من خلال تحقيق توازن إيجابي بين الإجماع على الهدف والإجماع على الممارسة. إنّ هذا هو الشكل الأنقى من التسامح.
تواجه جميع الأديان العظيمة هذا التحدي، بما فيها الديانات السماوية الثلاث، بكل تأكيد، وكل دين واجه المشكلة بشكل مختلف.
إنّ التنوّع والاختلاف في الديانتين المسيحية والإسلامية جاء بسبب الهيكلية الإمبراطورية التي جلبت شعوباً مختلفةً ووضعتهم في مجتمع ديني. لقد تولّد التنوع في الإسلام والمسيحية داخل الأراضي المتجاورة وسط أنماط مختلفة من النفوذ السياسي. أمّا التنوع الديني في اليهودية، فقد نشأ من تأثيرات الغزوات الأجنبية والمنفى والتشتت بعد عام (135) من العهد المسيحي الذي استمر حوالي (1800) سنة. لقد أدى النفي إلى انتشار اليهود في العالم، وكانت مجتمعاتهم ضعيفة سياسياً وسط مجموعات واسعة من البلدان المضيفة. لقد ولّدت هذه الظروف خوفاً هائلاً من التفرقة، حيث توعظ الأدبيات العبرية بالحذر من مخاطر التفرقة، وتستخدم سيرة يوسف وإخوته حتى الدمار الذي وقع في العهد الروماني لإيصال الرسالة نفسها: ابقوا معاً ولا تفرقوا، خصوصاً في أزمنة الهوان والمنفى؛ لتواجهوا الصعاب مجتمعين.
وفي الوقت نفسه، كان رجال الدين اليهود يرفضون الدمج ما بين الحاجة إلى الوحدة والحاجة إلى الانتظام. لقد شددوا على أنّ التعددية كانت ضرورةً طبيعية في دراسة التوراة، وفي حياة الجماعات المنفية. وهكذا وفقاً للتقليد العبري: “هناك سبعون وجهاً للتوراة” (بيمدبار رباه 13:15-16)، لذا يستطيع كل فرد قراءة النص وفهم شيء خاص به. أما في (أفوده زاره 19أ)، يقول بيت أحد الحاخامات: “من يتعلم التوراة من حاخام واحد لا يرَى البركة”، كما اقتبس رجال الدين من جيرمايا (23:29): “كما تفتت المطرقةُ الصخر وتخرج منه جزيئات فإن كلّ آية من الكتاب المقدس تنقل عبرا مختلفة” (سانحدرين 34أ). يختلف حكماء التلمود كذلك فيما بينهم، بحيث يسعون إلى الإجماع، ولكن هناك قضايا عديدة لا تزال عالقة، إلّا أنّ الاحترام المتبادل يبقى سائداً.
لقد توحدت التقاليد المختلفة بعد تمجيد التلمود. لقد نشأ يهود إيبيريا بشكل مختلف عن اليهود الأشكناز ويهود الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. لم تكن الاختلافات حول المبادئ الأساسية، لكنها خلقت تنوعاً في أساليب التعبير الديني والممارسات. لقد عاش اليهود مع هذا التنوع لأنهم تعلّموا الاحتفاء به، وهكذا حافظوا على الوحدة دون فرض انتظام.
ولكن –ويا للأسف- تشهد الديانة اليهودية -أخيراً- انقسامات أدّت إلى التنغيص وليس الاحتفاء، حيث أصبحت الحاخامية الأرثوذوكسية المرتبطة بدولة إسرائيل أكثر صرامة وأقل تسامحاً مع التقاليد اليهودية المختلفة عنها. إنّ إصرارها على توحيد الصف اليهودي في نظام واحد يهدد القيمة الأشمل والأوسع للوحدة اليهودية.
لا يوجد في الصراع اليهودي لتحقيق الوحدة دون الانتظام ما لا يعقله المسلمون المفكرون، ففي عصرنا الراهن يعلمون جيداً الإشكالية في وجود كادر محدود من رجال الدين وأتباعهم، يصرّون على فرض شكل من أشكال الانتظام. ربما يجب علينا إعادة تأسيس جامعة القرويين وإنشاء فروع عديدة لها في الشرق الأوسط؛ لكي يتمكن الطلاب من دراسة فن الحفاظ على الوحدة دون فرض نظام. مقابل كل نص يهودي يحث على الوحدة دون انتظام، هناك نصان يستطيع المسلم المتعلم الاقتباس منهما، فلنتعلم، وربما نعمل معاً في المستقبل، في جامعة القرويين الجديدة.
* المقال مترجم عن اللغة الإنجليزية (Unity Without Uniformity)، لمزيد من التفاصيل راجع الرابط التالي:
* بروفيسور أمريكي حاصل على شهادة الدكتوراه في العلاقات الدولية عام 1979. من أبرز خبراء الخطاب السياسي في الولايات المتحدة. عملَ في كتابة خطابات وزير الخارجية الأمريكي. يترأس حالياً مركز “أميركان انترست” البحثي السياسي. له مؤلفات عدّة ومشاركات في دوريات ومجلات معروفة يتناول فيها قضايا الشرق الأوسط والسياسة الخارجية الامريكية والعلاقات الدولية.