تشكل مؤلفات الأب يواكيم مبارك (1924–1995) في الإسلاميات (Islamologie) ظاهرة فريدة في تاريخ الكنيسة المارونية المعاصر، فمنذ أطروحته الأولى للدكتوراه عام 1958 «إبراهيم في القرآن» (Abraham dans le coran)[2] والتي سبقها بكتاب «الأسماء الإلهية في القرآن» (les Noms Divins dans le Coran)[3] الصادر عام 1956، عمل على قراءة الإسلام من منظور علمي، مغاير كلياً للمنظورات ذات المنحى السلبي التي بدأت مع يوحنا الدمشقي (Jean Damascène) (ت 749)، أحد الرواد الأوائل الذين جادلوا ضد العقيدة الإسلامية.
درس مبارك، الراهب اللبناني، تلميذ المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون الإسلام في مجاله الإبراهيمي؛ فأقام تأصيلاً توحيدياً بين ثالث الأديان التوحيدية، والديانتين اليهودية والمسيحية، رافضاً النتائج التي طبعت الدراسات المسيحية الكلاسيكية حول الإسلام، الناظرة إلى «الدين الإسلامي كهرطقة مسيحية».
إلى جانب اشتغاله على الأصالة الإبراهيمية الإسلامية كانت له أفكاره ونشاطه في فضاء الحوار الإسلامي- المسيحي[4] حتى وفاته، فاشتهر بخماسية المسيحية والإسلام التي تضم: «أعمال لويس ماسينيون (الجزء الأول)؛ «القرآن والنقد الغربي» (الجزء الثاني)؛ «الإسلام والحوار الإسلامي– المسيحي» (الجزء الثالث)؛ «المسيحيون والعالم العربي» (الجزء الرابع)؛ «فلسطين والعُربة» (الجزء الخامس)[5]. ونشر كتباً أخرى في الدراسات الدينية السريانية والمارونية وتاريخ لبنان الحديث، نذكر منها «الخماسية الإنطاكية: أبعاد مارونية».
تسعى هذه الدراسة إلى تناول وتحليل خلاصات يواكيم مبارك ضمن محورين: الأول: رؤيته عن «الإسلام كإبراهيمية أصيلة»، باعتباره جزءاً من العهد الكتابي (Alliance Biblique)[6] والتدبير الخلاصي (Économie de Salut)، متأثراً بأفكار المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون؛ والثاني: نقده لوثائق المجمع الفاتيكاني الثاني (1962-1965) الخاصة بالإسلام، حيث كانت له تعليقات وتعقيبات عدة، يمكن لنا ملاحظتها في كتابين عنده وضعهما بالفرنسية هما: (Recherches sur la Pensée Chrétienne et l’islam dans le temps modernes et à l’époque contemporaine) «أبحاث في الفكر المسيحي والإسلام في الأزمنة الحديثة والتاريخ المعاصر»، (L’Islam et le Dialogue Islamo – chrétiens) «الإسلام والحوار الإسلامي– المسيحي».
الإسلام «إبراهيمية أصيلة»: من لويس ماسينيون إلى يواكيم مبارك
منذ كتابات يوحنا الدمشقي (676-749م) حول الإسلام فُهم ظهور هذا الدين كانشقاق هرطوقي؛ «فدين الإسماعيليين» (نسبة إلى إسماعيل) هو بدعة مسيحية في أصوله وجذوره العميقة. طغت هذه الرؤية على كتابات العديد من المستشرقين وعلماء اللاهوت في الكنيسة الكاثوليكية لقرون طويلة حتى الحقبة المعاصرة.
نظر بعض المستشرقين إلى الإسلام على أنه ينحدر من «النسطورية» (Nestorianisme)، ورأى فيه آخرون عودة الآريوسية (Arianisme)[7]. في موازاة هذه المقاربة وبفترة زمنية أبعد، دشن الحبر اليهودي الألماني أبراهام غايغر (Abraham Geiger) (1810-1874) عام 1833 مسألة البحث عن أصول القرآن تحت سؤال «ماذا أخذ محمد من اليهودية؟»، «ثم توالت الأسئلة التفتيشية التي تحاسب القرآن على ما يتضمنه النص، وبالتحديد النص الذي عُد من طرف المسلمين في كامل تاريخهم بمثابة النص الرسمي لجماعة المؤمنين، نعني المصحف العثماني. هذه الوثيقة أصبحت تهمة فيلولوجية، ومن ثم تاريخية ليس فحسب ضد المسلمين (من حيث هم جماعة روحية)؛ بل حتى ضد اللغة العربية بما هي كذلك. وفي هذا الصدد قامت الدراسات القرآنية منذ سبعينيات القرن العشرين، على تعليق ادعاء الصلاحية التي كانت تتمتع بها الرؤية التراثية للقرآن بوصفه نصاً معاصراً لنفسه. لقد جرد الإسلام الكلاسيكي من تأويله الذاتي، وتحول فجأة إلى شيء إبستمولوجي عارٍ تجب إعادة بنائه»[8]. في سياق آخر، اعتبر عدد من الدارسين للإسلام، القرآن كتبشير نصراني[9]، حيث إن المسلمين الأوائل أتوا من أصول يهودية- مسيحية، عرفوا بـــ«الناصريين» (Nazôréens)، لذا احترمت هذه الجماعة –حسب هذه الفرضية- الإنجيل والتوراة؛ فالناصريون هم من اليهود الذين آمنوا بيسوع الناصري، وهذا ما يفسر لماذا استخدم القرآن كلمة «نصارى» وليس «المسيحيين»[10].
ماسينيون وانتماء الإسلام للملة الإبراهيمية
دشن لويس ماسينيون (Louis Massignon) (1883-1962) المنهجية النقدية تجاه الدراسات الكاثوليكية والاستشراقية الخاصة بالإسلام، والتي اتجه بعضها إلى وصمه بالبدعة أو الانشقاق المسيحي أو اليهودي، فقد رأى أن الدين الإسلامي يقف على الأرضية الإبراهيمية نفسها التي تقف عليها المسيحية واليهودية، مستنداً إلى المنهج الاستقرائي/ الاستنباطي الذي غيّر الدراسات حول الإسلام تغييراً كاملاً، فأعطاها بعداً موضوعياً لم تكن تتمتع به من قبل.
حصلت تغيرات جوهرية في بداية القرن العشرين في علم الإسلاميات الكاثوليكي، متصلة بالابتعاد عن التفسير التقليدي للعقيدة الإسلامية، الذي يقوم على أساس الانطلاق من مواقع التفوق الطائفي والأفضلية الأخلاقية والدينية[11]؛ هذه الخطوة الحاسمة قام بها ماسينيون وتركت أثراً معرفياً وأكاديمياً في دارسيه وتلامذته، فبغية فهم تنظير يواكيم مبارك حول الإسلام، لا بد من دراسة ما تقدم به المستشرق الفرنسي الذي عشق الصوفي الحلاج[12] (الحسين بن منصور) (المقتول 309هــــ/ 922م)، وأصبحت شخصيته ومذهبه الموضوع الأحب في الدراسات العلمية، التي كتبها، وفي عام 1922 ظهر عمله المؤلف من مجلدين بعنوان «مأساة الحسين بن منصور الحلاج: شهيد الإسلام الزاهد»[13] الذي صنف في جامعة السوربون كأطروحة دكتوراه[14].
خلافاً للنهج العدائي المسبق من طرف أغلبية علماء الإسلاميات الغربيين[15]، فإن لويس ماسينيون بنى موقفه تجاه الإسلام انطلاقاً من فكرة الاتصال، والارتباط الديني بين المسيحيين والمسلمين. وقد رأى في هذا الارتباط بالذات آفاقاً واقعية عريضة أمام الفهم المتبادل بين أتباع هاتين الديانتين الكونيتين. وباختصار –كما يلفت الباحث الروسي أليسكي جورافسكي (…)- نستطيع القول: إن ماسينيون كان ذا فضل ريادي في البحث عن التقريب بين مصالح الأوروبيين والمسلمين في مجال الاتصال والحوار الديني[16]. (…) إن الإسلام بالنسبة له يشكل وحدة عقائدية مستقلة، تتمتع بمباركة الرب، لأنها ترجع من حيث منابعها إلى «الصلاة الثانية لإبراهيم –أبي التوحيد- في بئر السبع عن ولده البكر إسماعيل وشعبه، العرب»، وطبقاً لقصص التوراة والقرآن فإن العرب تحدروا من نسل إسماعيل، ابن إبراهيم وهاجر، جارية سارة، وبهذا الصدد كتب ماسينيون قائلاً: إن «تاريخ الجنس العربي يبدأ من دموع هاجر، الدموع الأولى، في الكتاب المقدس»[17].
في أساس أطروحة ماسينيون يكمن التصور الإسلامي للأديان السماوية الثلاثة: اليهودية، المسيحية والإسلام[18]؛ والديانة الأخيرة تعود منابعها إلى إسماعيل ابن إبراهيم الخليل [كأصل وليس فرع]، وتشكل الوريث الشرعي لذلك الابن المنبوذ في البرية، «كحمار وحشي» (سفر التكوين 16: 5-14) الذي رُفض واستُثني من العهد الذي أُقيم مع إسحق ابن سارة؛ وبذلك العهد الرباني القديم لم يكن بمقدور إسماعيل الاشتراك في العهد الجديد، وبناء عليه فإن اليهود والمسيحيين، دوناً عن المسلمين، ينتمون إلى الذرية المختارة، ولكن في الوقت نفسه يعد الإسلام رسالة إيجابية أيضاً، نظراً لكون المسلمين يتبعون ملة إبراهيم وولده إسماعيل المبارك، أما ديانتهم التي ظهرت بعد موسى وعيسى عبر النبي محمد، فهي إنذار إلهي بالحساب العسير، الذي سيشمل الخلق كله، وهي الاستجابة الإلهية السرية لدعاء إبراهيم ورغبته حول إسماعيل وأمة العرب، إذ أجابه الرب قائلاً: «وَأَمَّا إِسْمَاعِيلُ فَقَدْ سَمِعْتُ لَكَ فِيهِ» [سفر التكوين]. وبحسب رأي ماسينيون، فإن الإسلام جاء بمنزلة ضمير لليهودية والمسيحية، وإن ظهوره في العالم، إن هو إلاّ «إنذار إلهي»، يذكر اليهود ويحذرهم من عاقبة عدم اعترافهم بالمسيح على الرغم من أنه ولد وعاش بينهم. كما أنه يحذر المسيحيين من التواني في واجبهم «بتنوير المخلوقات كلها، وقيامهم بذلك الدور كشعب مختار»[19]. انطلاقاً من تلك المحطات والمرتكزات الفكرية الأولية، رأى ماسينيون أنه بإمكان المسيحيين، بل من واجبهم، الاعتراف بالمصداقية النسبية، للقرآن، والاعتراف الجزئي بنبوة محمد. وذلك على الرغم من أن محمداً، أقصى بدعوته الجوهر الإلهي بحيث لا يبلغه الإنسان مطلقاً، ورفض، من حيث النتيجة، الفكرة الصوفية حول اتحاد الإنسانية بالإله، وهي الفكرة التي ظهرت في إطار الإسلام نفسه، بعد مضي ثلاثمئة سنة من الهجرة النبوية على يد الحلاج وبعض الزهاد من متصوفة الإسلام[20].
يقدم ماسينيون –كما يوضح جورافسكي– «الحلاج بوصفه أحد الدعاة المعبرين بدقة عن العقيدة التوحيدية، والذين يتجاوزون أهواء وتحزبات الفرق والنحل المتعارضة والمتصارعة في الإسلام، وهو كصوفي سني لم يسلك طريق البغض وتوجيه تهم «التكفير» للنزعات والمذاهب العقائدية الأخرى في الإسلام، وذلك محاولة مخلصة من جانبه للتقريب بين تلك المذاهب والفرق». وبرأي ماسينيون فإن الحلاج، (الملتزم بالعقيدة الصحيحة للإسلام كان أقرب شخص مسلم إلى فكرة المسيحية حول وحدة اللاهوت والناسوت؛ وهي الفكرة ذاتها التي عبر عنها الحلاج في قولته الشهيرة: «أنا الحق»، وفي الاصطلاح الصوفي «الحق» اسم من أسماء الله تعالى، بينما الحقيقة هي «التوحيد»). وبناء على ما تقدم، فإن تصور ماسينيون للدين الإسلامي يستند بالدرجة الأولى، ومن حيث الجوهر إلى النقطتين المركزيتين التاليتين:
أولاً: انتماء الإسلام للملة الإبراهيمية أو للشجرة الإبراهيمية؛ ثانياً: النهج الذي سلكه الحلاج في تفسيره وممارسته للإشكالية اللاهوتية للإسلام[21].
آمن ماسينيون بالحوار الإسلامي– المسيحي[22] وعمل عليه؛ وتتضح ملامح الموقف العملي عنده في هذا الحقل ضمن التصور التالي: إنه من بين المسيحيين والمسلمين يوجد إمكان حقيقي للتفاهم الديني المتبادل «في العبادة المشتركة للإله الواحد» ولهذا يمكن للكنيسة، بل يجب عليها أن تعترف بالإسلام ومكانته الاعتبارية المستقلة كديانة توحيدية. وضمن هذا الفهم تقدم بمبادرات كثيرة لتغيير موقف الكنيسة الكاثوليكية – الرومانية (الفاتيكان) تجاه الإسلام. ولهذا يرى بعض دارسي مؤلفاته، والمهتمون بتحليل مواقفه العلمية وأنشطته الاجتماعية والسياسية، أن مراسلاته واتصالاته الواسعة مع الهيئات الكاثوليكية العليا، بما في ذلك صداقته الشخصية مع جيوفاني باتيسيا مونتيني (Giovanni Battista Piranesi) (الذي أصبح البابا بولس السادس)، مهدت التربة إلى حد معين للنقاشات التي دارت في المجمع الفاتيكاني الثاني (1962-1965) حول العلاقة بين الكنيسة الكاثوليكية والمسلمين[23].
توجد في الدراسات الكاثوليكية المعاصرة حول الإسلام اتجاهات عديدة ليس المقصود بذلك المدارس العلمية، وإنما التفسيرات اللاهوتية لنشوء الإسلام وعقيدته ورسالته. فالاتجاه الأكثر انفتاحاً وقبولاً يمثله ماسينيون وأتباعه (الآباء: يواكيم مبارك[24]، ميشال الحايك وغيرهما) ويطلق عليه الأب جورج قنواتي (1905-1994)[25] «اتجاه الحد الأعلى»[26] ويعترف أنصاره بصوره أو بأخرى بالطابع الإلهي للقرآن، وانطلاقاً من هذه النقطة بالذات يناقشون الرفض للعقائد (اليقينيات) المسيحية الأساسية، مثل: الثالوث أو الأقانيم الثلاثة، والتجسد الإلهي، وينظرون إلى هذا الموقف القرآني الرافض على أنه موقف نسبي وغير مطلق، ويرون فيه نوعاً من ردّ الفعل السلبي من طرف الإسلام على فكرة الثالوث، والانشقاقات والخلافات الطائفية– المذهبية في المسيحية ذاتها. أما الاتجاه المضاد في الدراسات الكاثوليكية المعاصرة حول الإسلام، فيتمثل بالتيار المنغلق ويطلق على أتباعه «أصحاب الحد الأدنى» في الانفتاح على الإسلام أو كما يسميهم مبارك بــ«التقليديين»[27].
الإسلام في أصل التاريخ الكتابي
تركت أطروحات ماسينيون تأثيرها في شخصيتين دينيتين في لبنان هما: الأب يواكيم مبارك والأب ميشال الحايك (1928-2005)[28] الذي يتمحور القسم الكبير من كتاباته حول مسائل جوهرية «تتناول الأديان الإبراهيمية الثلاثة. وقد حثّه سياق التعايش الإسلامي– المسيحي في لبنان على النظر إلى الإسلام نظرة متجددة تختلف عن المفاهيم الموروثة التي تطرد الديانة العربية من تاريخ الخلاص وتدرجها في منازل الضلال. فالإسلام بنظره هو من ذرية إسماعيل[29]، وهو بذلك وارث شرعي للإيمان الإبراهيمي وأمين أشد الأمانة للتوحيد الإلهي. لكن الإسلام بالنسبة للأب الحايك كإسماعيل في صحراء نفي، ما عبرها بعد إلى أرض الميعاد المسيحانية. وعليه، فإن هذه القراءة للإسلام تبرر لاهوتياً إدراجه في سر التدبير الإلهي، وتلقي جانباً كل خطاب إقصائي، لا بل تستثير حوار الإخوة. أما مسألة الصراع العربي- الإسرائيلي، وفي جوهرها القضية الفلسطينية، فهي بالنسبة له صراع يدوم منذ تباعُد ابنَيْ إبراهيم، وجوهر حلها هو في مصالحة إسحق وإسماعيل، وفي الدور الذي على الفرع الإبراهيمي المسيحي أن يلعبه في سبيل هذه المصالحة»[30].
إن التأصيل الذي قدمه مبارك حول إبراهيمية الإسلام ظهر في مؤلفات عدة عنده خصوصاً أطروحته الأولى للدكتوراه في اللاهوت «إبراهيم في القرآن»[31] (Abraham dans le Coran) والجزء الثالث من خماسيته «الإسلام والحوار الإسلامي– المسيحي» (L’Islam et le Dialogue Islamo- Chrétiens). وعلى الرغم من اتفاقه مع الحايك حول المرجعية الإبراهيمية للدين الإسلامي لكنهما يفترقان في النتائج، إذ يتجه الثاني لاعتبار شرعية الإسلام، شرعية مشتقة، أي تابعة وزائدة، وقد ربطه لاهوتياً بإسماعيل أكثر من ارتباطه بإبراهيم «فالإسلام يستقر بهذا المعنى على حافة التاريخ الكتابي ولا يدخل في التاريخ المقدس، فهو يمثل الدين الكوني والأصلي للتوحيد ويرتبط بآدم ونوح وليس إبراهيم»[32]، في حين أنه في التصور اللاهوتي لمبارك يظهر الإسلام متمتعاً بوضعية الاستقلال والفرادة نسبة إلى الوساطة الإبراهيمية[33].
معاناة الإسلام ومحنته في فضاء الظهور الإبراهيمي
يُعرف مبارك الإسلام «كإبراهيمية سلبية أو صحراوية، موجهة لليهود والمسيحيين، في تبليغ مريمي، أخروي أو مسكوني. وهذا التبليغ يضم الإسلام، على الرغم من الصرامة المتشددة والراسخة لتوحيده، في حال من التوتر الثابت؛ هذا التوتر جرى إرضاؤه بمتطلبات نهائية من طرف بعض الأتباع المختارين للرسالة القرآنية، وقد حمل هؤلاء الإسلام في ما يتعدى المخزون الديني الأولي، المحدد من مؤسسه، للعيش في وحدة مع الله، وليس دون الإشارة لمسيح الحب، واليوم الآخر (…)؛ وهكذا في حالة من التوتر الداخلي ومن التطور الدينامي الثابت؛ على الفكر المسيحي أن يعلق أهمية في ذكره للإسلام على أنه كُلٌ (وحدة)»[34]. يرى مشير باسيل عون أن مبارك في خلاصته اقترح رؤية جريئة على نحو ما للإسلام، لأنه يربطه بمُسَارَّة [مناجاة] إيمان تُترجم نفسها في موقف كلي الثقة بكلام الله، وتتحول في مجرى العصور إلى مشاركة حب، بين الإنسان والله في شخص المسيح (…) ومن دون أن يتخلى عن تكتمه اللاهوتي وتحفظه الأكاديمي، يعتقد مبارك أنه كشف في الإسلام دينامية داخلية، تدفعه إلى التعالي المستمر على تعبيراته الثيولوجية المتعددة، ووجوه تحققه التاريخية المختلفة. وإذا ما جرى تعريف الإسلام بمثابة إبراهيمية سلبية أو صحراوية، فالمرجح بسبب الصراع الذي عاشه إبراهيم [بطريرك التوحيد] أمام المتطلبات المعيشة لأبوته؛ فثمة دعوة (رسالة) مزدوجة، انبثقت من هذا الاختبار الوجودي؛ فالإبراهيمية الإيجابية لإسحق، تلاقى معها، كما في تجويف، الإبراهيمية السلبية لإسماعيل، والموصوفان لا يستخرج منهما هنا تقدير ذو قيمة في الأقل، بل تفسير لاهوتي يجهد في الإمساك بالمعنى الخفي للتدبير الخلاصي. ولتحديد طبيعة هذا التفسير. لا يتردد مبارك في استحضار ضرورة الاستبطان الروحي لمجمل الرسالة القرآنية: «نحن نضع أنفسنا، كما يمكن الاستنتاج بسهولة، مع وجهة نظر الاستبطان الروحي الموضوعة في القرآن من الموقف الديني الأولي لأب المؤمنين»[35]. ما يميز الوحي القرآني –كما يعلق عون- على هذا النحو، يبدو أنه إعادة الاستحواذ العربي على الشخصية الرمزية (الشعاراتية) لإبراهيم. وقد استكملت بوساطة العُربة[36] (Arabité)، وهذا الاستحواذ حفظ وعدّل في مصير الدعوة الإبراهيمية، من حيث إنها كشفت في مُسَارَّة إسماعيل تطلباً من الصفاء والأصالة المفقودة، على نحو مخيف في التاريخ الحدثي (Événementielle) للشعب اليهودي[37].
إن رصيد الاختبار المسيحي- الإسلامي، كما ظهر في أعمال مبارك، دفعه إلى دعوة الفكر المسيحي المعاصر لأن يتخذ من الإسلام مواقف ثلاثة: الموقف الأول: المحاولة العلمية؛ الموقف الثاني: المشاركة العملية؛ الموقف الثالث: الدعوة الروحية[38]. «في المحاولة العلمية يحدد مبارك وجهات نظر اللاهوت المسيحي والنظريات المنبثقة عنه تجاه الإسلام والتي اتخذت ثلاثة أوجه: الأولى: في الوجهة المشروعية الإسلامية هي التعريف بالإسلام كإبراهيمية أصيلة. ومن البديهي أنها تناقض النظرة المتوارثة في النصرانية من أيام الدمشقي والتي تعتبر الإسلام بدعةً، كما أنها –كما يوضح مبارك- تناقض الجاهلية المسيحية التي امتدت غياهبها إلى يومنا وهي ترمي الإسلام في ظلمة الوثنية البدائية. وما يزيد الطين بلة أن إبراهيمية الإسلام هذه كما ينظر الإسلام إليها، تناقض النص الكتابي حرفاً وتفسيراً في التراثين اليهودي والمسيحي خصوصاً حصر الوعد والميراث بذرية إسحق، ولم يختص إسماعيل بوعد وميراث مستقبليين»[39]. أما المحاولة الثانية: «فتنظر إليه كغيبية صادقة، أي كتوحيد معادٍ لكل شرك وتنزيه يترفع عن الحلولية؛ فعلاوة على أن هذا التعريف يناقض وضع الإسلام بين البدع المسيحية أو الملل الوثنية، فإنه يناقض الإسلام نفسه، عندما يرفض الإسلام في غيبيته هذه تاريخانية المسيحية، ويستنكر عليها ثالوثها وصلبوتها على حد سواء. فإن نظرة الإسلام على العلاقة التي تربط الكون بالخالق ترفض ارتباط الخالق بالكون، وتنزيه جلاله عن كل انخراط في صلب التاريخ ومحنته. فلا يستحيل عليه التجسد والفداء[40] وحسب، بل يُستنكر عليه تعالى أن يطّلع من سره المكنون على هذا التاريخ»[41]. أما المحاولة الثالثة «فهي تقر للإسلام بلون من المشروعية الدينية، وعندما يتسع نظر المراقب إلى امتداد الإسلام تاريخاً وشعوباً وإبداعاً، فيتصور اللاهوتي، عطفاً على إبراهيمية الإسلام وغيبيته، أن هذه المسكونية الإسلامية مظهر ساطع، وبرهان قاطع لدعوة عبقرية، ومصير فريد، كتبت له الديمومة، إن لم نقل الأخروية، إلى يوم القيامة». ومن الواضح أن هذه النظرة –كما يشدد مبارك- «إلى مسكونية الإسلام تناقض ظاهراً وحدوية النظرة اللاهوتية التي تردّ إلى الخط اليهودي- المسيحي كل الخطوط، وتفرض إخضاع كل ركبة في السماء والأرض وما تحت الأرض لا إلى الإقرار بوحدوية الخلاص وحسب، بل بوحدوية المشروع الكنسي المستند إلى هذا الخلاص. وهكذا يبدو أن المحاولة المسيحية حيال الإقرار بالإسلام كما يرغب الإسلام أن يُعرف من غير المسلمين، والاعتراف له بشيء من المشروعية، محاولة محكوم عليها بالفشل»[42].
يخرج مبارك بخمسة استنتاجات في ضوء هذا العرض والتحليل ما يهمنا منها: الثاني والخامس. يقول في الاستنتاج الثاني: من حديث الإبراهيمية يرجع إلى القول: إنه، إن لم يتضح إلى الآن أمر هذه الإبراهيمية في ما يخص الإسلام، فقد أصبح ظاهراً أن عرفها في المسيحية قابل للمراجعة، إن لم نقل مفروض عليه أن يقلب رأساً على عقب. وإذ كان موقفي الشخصي من هذه القضية موقف رفضٍ «لإسماعيلية الإسلام من خلال إبراهيميته»، فقد أصبح أيضاً «موقف رفضٍ أحدّ لإسحاقية المسيحية، أي النظر إليها كمجرد وراثة للأفضلية اليهودية على حرمان الشعوب»[43]. في الاستنتاج الخامس يتقدم مبارك بموقف اجتهادي عن هوية الإسلام ومرجعيته، فيدعو إلى ضرورة تجريد اليهودية من مثاليتها المنفردة إلى الآن في نظر المسيحية إلى الأديان الأخرى: «فالتساؤلات حيال الإسلام التي تتحدى مجرد الوراثة اليهودية في المسيحية وهي جدة المسيح، تطالب بنظرة إلى الأديان تغاير النظرة اليهودية التي يبدو أن المسيحية تبنتها إلى الآن. وهذا في نظري المعنى المسيحي لما قاله القرآن عن الإسلام بوصفه أمة وسطاً. إن الإسلام القرآني[44] انتفاضة أممية تتحدى تهود المسيحية، وتفرض عليها الانعتاق من الادعاء بالأفضلية على أساس الوعد والانفراد بالميراث، ميراثاً لا يدخله إلاّ من طأطأ الرأس وعفَّرَ الجبين أمام العنفوان الكنسي الموروث عن العنفوان اليهودي والمتجدد اليوم في البطر الصهيوني»[45].
في الموقف الثاني: المشاركة العملية، يشدد مبارك على أهمية الاختبار المسيحي- الإسلامي، انطلاقاً من الأزمات التي يعاني منها الإسلام، فهو يدعو المسيحية إلى عيش المعاناة الإسلامية والتي تندرج في ثلاث مراتب: الأولى، وهي أزمة العقل الإسلامي والعقلانية العربية بنوع خاص، والثانية هي معاناة الصوفية وكل ما يمت إلى التصوف بصلة، سواء كان من عمل الزهد الصافي، أم من مظاهر العبادات الشعبية الساذجة. والثالثة هي المعاناة التاريخانية الإيمانية عند الشيعة[46].
إن عمق الاختبار الإسلامي– المسيحي منظوراً إليه من الأصالة الإبراهيمية للإسلام وشراكته التوحيدية، دفع مبارك إلى مطالبة المسيحية بمعايشة «محنة الإسلام» وتحديداً محنة العقل فيه بعد انكسار التفكير الفلسفي الاعتزالي، بإثباته حقوق العقل في إطار الوحي، وقد آمن بأن الإسلام في تجربته الأليمة يمر بما مرت به المسيحية في عصورها الظلامية، وأن العقل سينتصر على النصوصية التي تعيق حركة التأويل والفهم الحداثي للنص القرآني[47]. يعيد مبارك أزمة العقل الإسلامي إلى مجموعة من العوامل التاريخية والثقافية، يتقدمها «ذبول الفكر الفلسفي في الشرق» الذي تقع على عاتق «كاتب إسلامي كبير، على ذاك الذي سمي حجة الإسلام (…) ولكن من الأكيد أن الغزالي، بالرغم مما تضمنته مؤلفاته من غنى، لم يحل مشكل الفكر الديني الأساسي الذي هو مشكل استقلال العقل استقلالاً كاملاً. لقد ادعى بعكس ذلك، تخزية الفلسفة في «تهافته» وانتهال ينابيع أخرى غير ينبوع العقل بينما ينبغي، عندما نهزأ بالفلسفة كما يقول باسكال، ألا نهمل حسن التفلسف»[48].
استعان مبارك بالرؤية القرآنية في تأويله «لإله التوراة» مكرس الاصطفاء الديني، واعتبر أن القرآن وضع بشأن هذا الموضوع بياناً قطعياً «ليس ضد الاختيار الإلهي وإنما ضد التعسفية المنسوبة إلى الله وما يترتب عليها من تفرد، فتُصيب قوماً بفوائد وتجلب المصائب لقوم آخرين. لقد أعلن القرآن، على طريقة رسائل الرسول بولس إلى أهل رومية وغلاطية، أن كل أولئك الذين يدعون الانتماء إلى دين إبراهيم يشاركون في بركته وإرثه. وهذا هو جوهر القراءة القرآنية للكتاب المقدس، وإني أعتقد أن التفسير المسيحي، شأنه شأن التفسير اليهودي لكلمة الاختيار، لم يعطِ هذه القراءة حتى الآن ما تستحقه من اهتمام. على ألا يدفعنا هذا إلى تصحيح تأويل من الواضح أنه لا يمكن الدفاع عنه، بإعطاء الإسلام حصة، من قبيل أنه من ذرية إسماعيل. أظن أني أظهرت، ولن أكفّ عن تكراره، أن الإسلام ليس إسماعيلياً، بالمعنى الذي يفيد أنه قد يطالب بجزء من الإرث. نيابة عن كل المنبوذين والمستبعدين، بسبب غيرة أولئك الذي يزعمون أنهم الشعب المختار، لقد أعاد القرآن، كلياً، النظر في مسألة الانتخاب والميعاد والإرث ليمنحها دون أي تمييز لذرية إسحق وإسماعيل، ذرية عليها أن تتعارف، في إطار أمة واحدة، على أبوة إبراهيم وشمولية الإله الواحد»[49].
إن الإسلام، إبراهيمي بطريقة بارزة «لكنه لا يتحدر من أصل توراتي»[50]. وإذا ما وجدت وساطة إسماعيل عرشها في وسط الوساطة العربية، فهذا بالتحديد لأن الوحي القرآني، أتى حاملاً تتمة تصحيحية لمُسَارَّة إسحق، والذي تمثله رمزياً التجربة التاريخية للشعب اليهودي، وهذه تجسدت في سياق اجتماعي سياسي، حدّد مصير الدعوة الإبراهيمية[51]. ليس بمقدورنا القول عن الإسلام –كما يرى مبارك-: إنه هرطقة (Hérésie) أو انشقاق كتابي أو توراتي (Schisme Biblique)؛ فهو توحيد إبراهيمي لا ينفصل عن النسب الروحي (Descendance Spirituelle) لأب التوحيد –أو بطريرك التوحيد كما يسميه فتحي بن سلامة- ليؤسس انشقاقاً؛ إنما هو أصل من أصوله وإيمانه، ولا يمكن اعتباره إسماعيلية (نسبة إلى إسماعيل) (Ismaélitisme)[52]. إن الإسلام هو الاعتراض العربي على كل تفرد عرقي أو عشائري؛ فهو دين أبناء إسحق وأبناء إسماعيل ودين كل المؤمنين[53].
التأصيل الإبراهيمي التوأمي: اليهودي- الإسلامي
عمل مبارك على ما يمكن أن نسميه «التأصيل الإبراهيمي التوأمي» بين اليهودية والإسلام بهدف الربط بين إسماعيل وإسحق ضمن أرومة تجمع إليهما المسيحية، رافضاً أي إحالة انشقاقية للدين التوحيدي القادم من الصحراء، أو كما كان يصفه ماسينيون بــ«الإسلام الجريح» الذي يعيش في غربته بعيداً عن إخوته في التوحيد الإبراهيمي، كدين «منبوذ» يريد تأصيل جذوره ضمن «فضاء توحيدي روحي» أو «الروحانيات الإبراهيمية» المنبثقة من شجرة واحدة. إن «مصير إسماعيل، على نحو ما، أساسي في الوعد بإسحق، حتى لا يترك هذا الأخير مخفضاً من شأنه في خصوصية عرقية. فما هي بركة إسحق «لكل الأمم»، والتي تبدأ بالاستبعاد العرقي للمتحدرين من إسماعيل؟ أليست هذه بالحري أولى معاداة للسامية ظهرت إلى الوجود؟»[54]. يناقش مشير باسيل عون هذا الطرح ويرى أن صفاء صاحب «الخماسية» يلزمه برسم توازٍ وثيق بين مُسَارَّة إسحق ومُسَارَّة إسماعيل، والاثنان متلقيان لبركة إبراهيم. وذاك منوط بتماهي الإسلام بأصالة مع مصير إسماعيل، أن يصبح، إذا شئنا القول، لا غنى عنه لبقاء اليهودية، لأنه يحمل في داخله الحياة نفسها التي يفتقدها تراث الإقصاء الذي يطالب فيه المصير التاريخي للشعب اليهودي. بحسب مبارك، أحدث الإسلام في عقب (خط نسب) إسماعيل ثورة مشابهة، لتلك التي أحدثتها الكتابات المسيحية للعهد الجديد في عقب إبراهيم من طرف إسرائيل. يقدم الإسلام نفسه بمثابة «إسماعيل روحي» (Ismaël Spirituel)، مشابه في ذلك لكنيسة المسيح، «إسرائيل روحي» (Israel Spirituel). وفي الحالتين، توجد قرابة بيّنة مع اليهودية. «يفترض على الديانتين التوحيديتين: المسيحية والإسلام، بوصفهما ضمن الأرومة الإبراهيمية، أن تتشاركان مهمة تصحيح مسار المصير التاريخي للعهد القديم، المودع فيه أوْلى العهود المبرمة مع الإنسانية. حتى ولو انتشر في اتجاهين مختلفين –وهنا التحليل لعون- فالدينان التوحيديان بقيا ملتحمين في الاتجاه الوحيد نفسه، من السعي للصفاء والأصالة، ويتوقان إلى استخراج الخلاص الكامن من الوعد الإلهي من أجل بسطه على مجمل الكون، وتكييفه مع تعدد الانتظارات البشرية. كل واحد بحسب طريقته، إنهم يضفون الطابع الكوني على حمولة العهد الإبراهيمي[55]: «القرآن، الكتابة الموقتة (écriture Provisoire)، كما القبلة المكية، ألقت الستر على السر الإلهي، على العكس من الصليب الذي شق ستر المعبد من الأسفل إلى الأعلى. لكن الإسلام لم يتعرف بعد إلى الإثبات أن هزيمة الصليب، قد خلصت المعبد من رجس الخراب المقيم فيه، على صورة إله قومي منتصر، وأن تكون أورشليم مدينة جديدة»[56].
إن التأصيل الديني/ الإبراهيمي للإسلام الذي حاجّ من أجله مبارك أسهم في تطوير تنظيراته حول القدس، باعتبارها رمزاً وتاريخاً دينياً وثقافياً مشتركاً بين الأديان التوحيدية الثلاثة، وقد دافع عن أحقية الإسلام في هذا الإرث متأثراً بما طرحه ماسينيون[57]، في ما أطلق عليه «جيوسياسية روحانية للعالم المعاصر»؛ فالإسلام ضروري لجغرافية القدس[58] الروحية وفي الوقت نفسه لجغرافيتها السياسية[59] وهو شريك لا يمكن استبعاده من فضاء المدينة على كل المستويات. وفي هذا السياق اعتبر مبارك أن المطالب المسكونية تستوجب الاعتراف بالإسلام «كوريث ذي حصة كاملة لا كمحروم. وإن الشرط لقبول اليهودية في القدس، هو أن تعترف للإسلام فيها بالدور الذي رفضته إلى الآن. فالإسلام في القدس هو الأخ البكر يضاف إلى الأديان الأخرى، على الرغم من إنكار أخوته»[60].
يواكيم مبارك ووثائق المجمع الفاتيكاني الثاني: الإسلام أصل
أحدث المجمع الفاتيكاني الثاني (1962-1965) الذي دعا إليه البابا يوحنا الثالث والعشرون، تحولاً جذرياً في موقف المسيحية الكاثوليكية تجاه «غير المسيحيين»؛ فلأول مرة في تاريخ المسيحية يتم الاعتراف بشكل رسمي بالمسلمين، كما جاء في وثيقة «في عصرنا» (Nostra Aetate)[61] وطُرح الموقف من غير المسيحيين بصورة أو بأخرى في عدد آخر من الوثائق من بينها: «نور الأمم» (Lumen Gentium): «الدستور العقائدي في الكنيسة» حيث شمل «تصميم الخلاص» جميع الذين يعترفون بالخالق «ومن بينهم أولاً المسلمين»[62]؛ وفي «الدستور الرعوي في الكنيسة وعالم اليوم» (Gaudium et Spes)، وفي القرارات المجمعية: «في رسالة العلمانيين» (Apostolicma Actuositatem)، و«في مهمة الأساقفة الرعوية في الكنيسة»، و«في نشاط الكنيسة الإرسالي»، وفي البيانات والإعلانات الصادرة عن المجمع «في الحرية الدينية» و«في التربية المسيحية».
«المسيحيون المجهولون» (Chrétiens Anonymes) والانقلاب الكوبرنيكي
أقرت وثائق المجمع الفاتيكاني الثاني أطروحة التعددية الخلاصية التي تضم المسلمين. تأسس هذا الإقرار على جهود اللاهوتي الألماني كارل رانر (Karl Rahner) (1904-1984) الذي طرح نظرية «المسيحيون المجهولون» (Chrétiens Anonymes)[63] في بداية عام 1960، قاصداً بها أن الخلاص يشمل الجميع على طرف نقيض من المقولة التي ظهرت في القرن الثالث الميلادي: «لا خلاص خارج الكنيسة»، فالأديان غير المسيحية يمكن أن تكون طريق خلاص لأتباعها، وهذا معناه أن نعمة الله تعمل أيضاً خارج المسيحية، وأن غير المسيحيين يمكن أن يخلصوا بطريقهم الخاصة حتى إذا لم يعرفوا المسيحية»، «فمن المستحيل عنده من الناحية اللاهوتية الحكم على الملايين بالهلاك لمجرد انتمائهم إلى الديانة غير المسيحية (…) فهناك وسائل مختلفة للخلاص»[64].
تمّ تشبيه موقف الكنيسة تجاه الإسلام بــ«الانقلاب الكوبرنيكي»[65]، علماً أن هذه الثورية المسيحية تجاه الأديان الأخرى لقيت معارضة من داخل الفاتيكان، تجسدت لاحقاً بانشقاق عدد من الأساقفة أسسوا «جمعية القديس بيوس العاشر» بررت معارضتها لهذه التعاليم وانشقاقها عن الكنيسة، بأن مقررات المجمع كانت من الليبرالية بحيث إنها خرجت عن أساس العقيدة وثوابتها، وما تزال هذه الجمعية قائمة حتى اليوم. حاول البابا بنديكتوس السادس عشر استعادتها إلى حضن الكنيسة الأم؛ فعرض في مايو (أيار) 2012 على قادتها مواقع استرضائية في مؤسسات دولة الفاتيكان، مقابل إعلان قبولهم بتعاليم المجمع الثاني، إلا أن هؤلاء تمسكوا بموقفهم المعارض والرافض لهذه التعاليم[66].
لن نتطرق إلى الأعمال التحضيرية للمجمع الفاتيكاني الثاني التي رافقت الموقف الذي أطلقه تجاه «غير المسيحيين»، ولكن من الضروري الإشارة إلى سياقين مهمين: يتمثل الأول، في أن «الدراسات والأبحاث والتحاليل والمقترحات التي انطوت عليها الملفات التحضيرية لأعمال المجمع، لم تتطرق إلى موضوع الإسلام، فما خلا بعض الدراسات التي أعدتها جامعات في أوروبا، ومنها جامعة لوفان الناشطة في الكونغو، وهي الجامعة الكاثوليكية التي استندت إلى أوغسطينوس لتدعو آباء المجمع، إلى استطلاع عمل النعمة الفائقة الطبيعة في الأديان غير المسيحية واعتبار هذه الأديان كطريق التمهيد للمسيحية. وإذا كان معظم أساقفة الكنيسة الكاثوليكية اللاتينية الغربيين لم يفطنوا، في بادئ الأمر، إلى المنفعة اللاهوتية والروحية الكبرى في مخاطبة المسلمين من على منبر المجمع، فإنه من المستغرب أن تكون الكنائس الشرقية المنغرس كيانها في تربة الشرق العربي، قد أعرضت عن التطرق إلى موضوع الإسلام في الأعمال التحضيرية للمجمع، ولو أن بعض الأساقفة الشرقيين العرب، ومنهم البطريرك مكسيموس الرابع، اعترضوا في أثناء دورة الأعمال الثانية على تضمين الوثيقة الإعدادية في الحركة المسكونية حديثاً مُسهباً عن الدين اليهودي من دون ذكر الإسلام. ففي الدورة الثانية (سبتمبر/ أيلول- ديسمبر/ كانون الأول 1963) (…) طالب أساقفة من العالم العربي آباء المجمع بذكر الدين الإسلامي وذكر المسلمين الذين يشاطرونهم في الشرق أزمة الصراع مع النظام اليهودي السياسي. ويعتقد بعض اللاهوتيين، ومنهم الأب يواكيم مبارك، أن أزمة الصراع العربي– الإسرائيلي التي كانت تعصف بالشرق الأوسط هي التي حثّت آباء المجمع على اعتماد مبدأ الحديث عن الإسلام والمسلمين في النصوص»[67]. والسياق الثاني: اتخاذ قرار فاتيكاني «بتشكيل لجنة فرعية حول مسألة الإسلام، كان من بين أعضائها خبراء من «المعهد الدومينيكاني للدراسات والأبحاث الشرقية» في القاهرة، ومن « معهد الآباء البيض الكاثوليك للدراسات الشرقية» في تونس ضم علماء إسلاميات مشاهير على مستوى عالمي، من بينهم الأب جورج قنواتي»[68] المتأثر بالاتجاه الماسينيوني[69] الذي دفع إلى أن يكون لمبارك دور ريادي في تحفيز النظرة اللاهوتية الجديدة تجاه الإسلام، فقد كان بين رجال الدين المسيحيين الشرقيين المشاركين في الأعمال التحضيرية، وتضمن كتابه: «أبحاث في الفكر المسيحي والإسلام في الأزمنة الحديثة والتاريخ المعاصر»، تفاصيل مهمة حول الأجواء المرافقة للمجمع في ما يتعلق بالمسلمين، وسجل تحفظات على ما ورد في نصوصه بشأنهم.
الوثائق وإشكالية انتماء الإسلام إلى الإرث الإبراهيمي
يلفت جورج قرم في كتابه «يواكيم مبارك: الرجل الاستثنائي» (Youakim Moubarac; un homme d’exception) إلى أنه ليس هناك شك في أنه من خلال عمل مبارك مع الفاتيكان، كان لاعباً رئيساً في تشكيل العقيدة الجديدة للكنيسة، التي تعترف بمكانة الإسلام الكاملة في عالم الأديان المكشوفة»[70]. غير أن هذا الدور الذي يُسجل له تاريخياً لم يمنعه من مقاربة النصوص المتعلقة بالمسلمين من زاوية نقدية[71]، خصوصاً ما يرتبط بتشديده على «أصالة الإسلام في المجال الإبراهيمي» وهي الأطروحة الأساسية التي كتب حولها ودافع عنها في المؤتمرات والمؤلفات التي وضعها، خصوصاً أن الفاتيكان في وثائقه عن الإسلام ومواقفه اللاحقة ومن بينها «رسالة الفادي» التي وضعها البابا يوحنا بولس الثاني، يضع الدين الإسلامي، على غرار الدين اليهودي، في موضع القربى العظمى إلى المسيحية. «غير أنه فيما تُنزِل الدين اليهودي في منزلة القرابة الأصلية، يجوز لها أن تعتبر الدين الإسلامي قائماً على قرابة امتداد، ومعنى هذا القول –وفق تحليل مشير باسيل عون– أن الإسلام الذي يعترف بالله الواحد ويكرم الأنبياء ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يواصل، في شيء من الاختلاف، ما تنعقد عليه بشرى الإنجيل من دعوة إلى الإيمان بالله الواحد، وإكرام أنبياء العهد العتيق، والتخلق بمكارم الأخلاق. واستناداً إلى هذا التصور يتجلى الإسلام في لاهوت الأديان الكاثوليكي دين التوحيد والتنزيه والتنزيل والرحمة، فيما تنادي المسيحية، وقد اعتصمت بالتوحيد والتنزيه، بالاعتلان الذاتي الثالوثي لله، وتقول بفيض في الحب الإلهي انبثق منه تجسد وافتداء وتأليه. ومع أن الكنيسة تعتقد بأن هذا الاعتلان هو كمال الكشف الإلهي، وأن الإسلام، ما دام لا يعترف بكمال الوحي الإلهي المعتلن في شخص يسوع المسيح، يظل في خارج الانتماء الكلي إلى حقيقة الاعتلان الإلهي الذاتي، إلا أنها تعترف اعترافاً صريحاً بقيمة الدين الإسلامي الذاتية، وتقدر حق القدر كل البذار الصالحة التي ينطوي عليها الوحي القرآني»[72].
تعقيباً على ما ورد في البيان المجمعي في «علاقة الكنيسة بالأديان غير المسيحية» الخاصة بالديانة الإسلامية، «يعتقد مبارك أن المجمع في النصين المخصصين للدين الإسلامي، لا يصرح بانتماء الإسلام إلى الإرث الديني الإبراهيمي، ولا يدخله في تدبير كتابي أو موازٍ للتدبير الكتابي، بل يعزز موطن القرابة الكتابية بين اليهودية والمسيحية ويضع الإسلام في مجموعة الأديان الأخرى»[73]. (…) وفي تاريخ صوغ النص المتعلق بالإسلام والمخصص للدستور العقائدي «الكنيسة» يشير مبارك إلى أن عملية التأليف النصي تطورت من إنشاء أول إلى إنشاء نهائي، هو الصيغة الأخيرة التي وافق عليها آباء المجمع. وبين الصياغتين بعض من الاختلاف، أبلغُه أن النص الأول كان يبرز انتماء المسلمين إلى إسماعيل واعترافهم بأبوة إبراهيم لهم، فيما النص النهائي أغفل عن ذكر هذين العنصرين، وأن النص الأول كان يتحدث عن الله الذي تكلم بواسطة الأنبياء، فيما النص النهائي أعرض عن ذكر الأنبياء في مثل هذا السياق؛ لكي يتجنب الإلماح إلى مسألة نبوة محمد ورسالته. ويبدو أن أغلب آباء المجمع كانوا يعتبرون أن الإسلام لا يحظى بما حظي به آباءُ العهد القديم من وحي إلهي مباشر»[74].
وفي وجهة نظر مخالفة لخلاصة مبارك يرى الأب روبير كاسبار (Robert Caspar) (ت 2007)، أن النص النهائي حين أغفل في «بيان علاقة الكنيسة بالأديان غير المسيحية» عن ذكر إسماعيل، كان من مقاصده ألا يُحمل الإيمان الإسلامي اعترافاً صريحاً بالانتساب المطلق إلى إسماعيل، وألا يتجاهل التعبير اللاهوتي الإسلامي عن إيمان المسلمين بكرامة إبراهيم. وفي هذا كله حرص مجمعي على صون المقصد الإسلامي في التعبير عن فحوى الإيمان القرآني، إذ يستخدم المجمع العبارات عينها التي يستخدمها المسلمون في التعبير عن إيمانهم»[75].
ينبهنا أليسكي جورافسكي إلى ملاحظة مهمة في كتابه «الإسلام والمسيحية» حيث يشير إلى أنه في مسودة القسم السادس عشر من الدستور العقائدي «في الكنيسة» قيل عن المسلمين: «أبناء إسماعيل، الذين يعترفون بأبيهم ويؤمنون بالله وهم ليسوا غرباء عن الوحي الذي نزل على الآباء. وقد امتنع المجمع عن الإشارة القاطعة والصريحة إلى أتباع المسلمين «ملة إبراهيم» واستعاض عنها بعبارة وصفية تتحدث عن المسلمين «الذين يعتقدون أنهم يتبعون ملة إبراهيم…». أما نص «التصريح» النهائي فكان أكثر تحديداً. حيث يشير إلى ارتباط المسلمين بالتقليد الإبراهيمي، ولكن ليس من الناحية التاريخية، وإنما من حيث التبعية الإيمانية لإبراهيم»[76].
الخاتمة
رفض يواكيم مبارك نسبة الإسلام إلى إسماعيل مناقشاً الأطروحات التي سعت إلى اعتبار الدين الإسلامي فرعاً انشقاقياً إبراهيمياً لا يتمتع بأية أصالة على صلة بـــ«أب التوحيد»، ناقداً الرؤى التوراتية الاصطفائية الدينية، القائمة على مقولة «شعب الله المختار». آمن بـــ«الأرومة الإبراهيمية» الجامعة للأديان التوحيدية الثلاثة؛ وأمضى حياته مدافعاً عن وجهة نظره هذه بإخلاص، لا سيما أمام المحافل العلمية والمؤتمرات وفي مؤلفاته، والرجل له معرفة عميقة بالإسلام، ديناً وتراثاً، لا تقل عن معرفته بالمسيحية، كالاهوتي مسيحي عاشق للإسلام وعارفٍ به.
أخذ محمد أركون على لويس ماسينيون -وكذلك مبارك– أن أبحاثهما اتجهت إلى «نزعة الإغراق في الاعتقاد»؛ «أي الإغراق الزائد عن اللزوم في الإيمان الديني على حساب ممارسة العقل النقدي. فالإيمان جيد، ولكن لا ينبغي المبالغة فيه، أو قل لا ينبغي أن يحصل ذلك على حساب الاستكشاف التاريخي النقدي لكل جوانب الدين وملابساته. وهذه الممارسة النقدية أو الاستكشاف العلمي كان قد أصبح ضرورياً، بل ملحاً وعاجلاً بالنسبة للإسلام وتراثه الكبير. كان ينبغي تطبيقه على الإسلام من أجل تحريره من الجمود الفكري المزمن والطويل (…) يكفي إلقاء نظرة على الوضع الحالي لكي يفهم سبب تحفظي؛ ففي هذه اللحظة أصبح الإرهاب الدولي مرتبطاً -في نظر الرأي العالم العالمي- بالإسلام المُصادر من قبل حركة ذات جوهر سياسي ولكنها مغلفة بغلاف الدين»[77].
إن تأثير ماسينيون لا يمكن الاستهانة به في حقل الدراسات الغربية والكاثوليكية حول الإسلام، وتأثيره بمبارك –وسواه من اللاهوتيين- أعطى دفعاً باتجاه نشأة اتجاه لاهوتي مسيحي متحرر من تبعات التاريخ العقائدي/ الصراعي وحصرية الخلاص، وهذا يقوي الحوار بين الأديان حين يتم التركيز على النزعة الإنسانية في الدين والقيم المشتركة، خصوصاً في المجتمعات العربية والإسلامية التي ما زال الدين يحتل حيزاً كبيراً عندها في منظومة المعنى بأنساقها المختلفة. تشتد الحاجة إلى هذا الحوار في سبيل الحد من العنف الرمزي العقائدي بين أبناء الأديان، والذي يؤدي –بدوره من بين عوامل أخرى- إلى تنامي التطرف الديني، الحركي والتنظيمي، وهذا يعني أنه علينا أحياناً، وخلافاً لوجهة نظر أركون، «الإغراق في الاعتقاد» في المجال الروحاني الديني من أجل تجسير العلاقات بين الأديان، والحد من الأصولية الاجتماعية الدينية الكامنة والتي تؤدي إلى اضطرابات وتوترات؛ فالروحانيات العابرة للديانات تشكل أيضاً الترياق ضد الإرهاب الديني، وليس التأويل وحده قادراً على القيام بهذا الدور عبر تحرير النص المقدس من سجن الانغلاق الفكري.
[1] باحثة لبنانية، عضو هيئة التحرير في مركز المسبار للدراسات والبحوث في دبي.
[2] Moubarak, Youakim, Abraham dans le Coran, Vrin, Paris, 1958.
نال على أساسها درجة الدكتوراه في اللاهوت؛ يضاف إليها أطروحته للدكتوراه حلقة ثالثة في جامعة السوربون: «الفكر المسيحي والإسلام منذ البدايات حتى سقوط القسطنطينية» (La pensée Chrétienne et l’islam, des origines jusqu’à la Prise de Constantinople) 1969 والتي استكملها لاحقاً ببحوث تقدم بها لدكتوراه دولة في الآداب تحت عنوان «الفكر المسيحي والإسلام منذ سقوط القسطنطينية حتى المجمع الفاتيكاني الثاني»
La pensée Chrétienne et l’islam, de la Prise de Constantinople à Vatican 2, 1972.
[3] Moubarak, Youakim, les Noms Divins dans le Coran et en épigraphie Sud sémitique , Louvain, Muséon, 1956.
[4] انظر كتابه:
L’Islam et le Dialogue Islamo – chrétien, pentalogie Islamo – chrétienne, éditions du cénacle libanais, Beyrouth, 1972-73.
كُتبت دراسات ومقالات عدة باللغات الأوروبية عن مبارك ومجالات اهتماماته المعرفية والفكرية، ومن بينها الحوار الإسلامي– المسيحي، ونحيل هنا على كتاب موريس بورمانس (الأب) (Maurice Borrmans):
Quatre acteurs du Dialogue Islamo- Chrétien, Arnaldez, Caspar, Jomier, Moubarak, librairie Philosophique j. Vrin, 2016, Études musulmanes, (152 pages).
انظر أيضاً كتاب أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية مشير باسيل عون الذي يعد من بين أبرز الشارحين لأطروحات مبارك:
Aoun, Mouchir, Le dialogue islamo- chrétien comme lieu Théologique; Youakim Moubarac, Dossier H, l’âge d’Homme (Lausanne – Paris), 2005.
[5] صدرت هذه الخماسية عن منشورات الندوة اللبنانية في بيروت ووضعها مبارك كلها بالفرنسية ونشرت بدءاً من عام 1986، ولم يترجم إلى العربية سوى مقتطفات منها وكتاب واحد: «فلسطين والعُربة»، حمل في طبعته العربية عنوان «القدس– القضية» يتناول فيه مبارك تاريخ القدس في العصور المختلفة، ويشير إلى أن أول ذكر مكتوب للمدينة يعود إلى عام 1370، يأتي مع إحدى صحائف تل العمارنة، ففي الصحيفة المذكورة يستنجد حاكم المدينة بالفرعون أخناتون، إذ كانت البلاد مهددة بالغزو. وخلال عرضه لتاريخ القدس في العهد الإسلامي بدءاً من الفتح العربي، يشير إلى محطات تاريخية مهمة ودالة فيقول: «أعار [معاوية] مدينة القدس أهمية كبرى لأن مكة والمدينة لم تكونا تحت سيطرته في بداية عهده، غير أن أهمية القدس السياسية في عهد معاوية لم تكن مجرد استغلال لأهميتها الدينية في عهد عمر، بل تركيزاً على هذا التراث وإعلاء من شأنه، ففي القدس بويع لمعاوية بالخلافة، ولدى مجيئه من دمشق وكان حاكماً عليها، مر بكنيسة القيامة وجثا مصلياً ثم مر بضريح السيدة العذراء وركع ركعتين». وفي الكتاب يلفت مبارك إلى مفارقة حين يتحدث عن الأماكن المقدس المُختلف عليها في القدس بين الأديان التوحيدية الثلاثة والتي أرهقت الوجدان الديني. يقول: «ثمة مكان مقدس وحيد يشكل استثناء لهذه القاعدة العامة من الخلافات على الأماكن المقدسة نفسها، ومن المشادات ضمن نطاقها. فخلال ثلاثة أيام في السنة، يحق لرهبان الفرنسيسكان أن يقدسوا في مسجد الصعود. وعليه فإنه المكان الوحيد في القدس (وحتى في العالم) الذي اتفقت ديانتان مختلفتان على التعايش فيه». إن هذا الاستشهاد يهدف بالدرجة الأولى إلى التدليل على الأهمية التي اتصفت بها العلاقات المسيحية– الإسلامية في تاريخ هذه المدينة، وهي مسألة ضرورية في توطيد المشتركات بين الأديان باستحضار نماذج تاريخية. انظر: مبارك، يواكيم (الأب)، القدس– القضية، تعريب: مهاة فرح الخوري، مجلس كنائس الشرق الأوسط، 1996، ص8-23-75.
[6] Daou, Fadi, Tabbara, Nayla, L’Hospitalité Divine, L’Autre dans le dialogue des théologies chrétienne et musulmane, Lit Verlag, 2013.
يمكن قراءة الكتاب بالعربية بعنوان: الرحابة الإلهية: لاهوت الآخر في المسيحية والإسلام، منشورات المكتبة البوليسية، لبنان، 2011.
[7] إن فرضية الأصول النسطورية للإسلام دافع عنها ووضعها عالم الإسلاميات والمستشرق السويدي تور أندريه (Tor Andrae). انظر كتابه:
Les Origines de L’Islam et du Christianisme, 1926.
نقلاً عن:
Michel, Younès, L’islam, une Religion d’ascendance abrahamique, Nurt SVD 2, 2015, p 277.
[8] المسكيني، فتحي، الفلسفة والقرآن أو الإيمان في زمن المراجعين، موقع مؤمنون بلا حدود، الدراسات الدينية، 5 نوفمبر (تشرين الثاني) 2018، ص9.
[9] اهتم العديد من المستشرقين بالدراسات القرآنية وتفاوتت الأطروحات التي خرجوا بها، وأفاد المسلمون من المناهج التي اعتمد عليها الاستشراق العلمي لفهم النص القرآني، وفي المقابل ظهرت في تاريخ الاستشراق وكذلك عند الدارسين المعاصرين للإسلام آراء واتجاهات تشكك في أصالة القرآن، نذكر من بين المعاصرين المؤرخ الأمريكي جون وانسبرو (John Wansbrough) (1928-2002) الذي ذهب إلى أن القرآن ما كان موجوداً خلال قرن ونصف قرن بعد ظهور الإسلام، وادعت الأميركية باتريشيا كرون (Patricia Crone) (1945-2015): أن الرواية الإسلامية التقليدية عن ظهور الإسلام وعن القرآن غير صحيحة على الإطلاق، لأن الوثائق المكتوبة تأخرت لقرنين، ولذلك لا بد من الاعتماد على الكتابات السريانية والعبرية والأرمنية والبيزنطية من القرنين السابع والثامن الميلاديين، والتي تشير إلى أن الإسلام كان في أول عهده فرقة يهودية. انظر: السيد، رضوان، ما هي الدراسات الإسلامية، موقع الدكتور رضوان السيد، على الرابط التالي:
http://www.ridwanalsayyid.com/home2.aspx
[10] هذه الفرضية تقدم بها المطران يوسف درة الحداد تحت اسم (الأستاذ الحداد) في كتاب له نشر بالعربية عام 1986 تحت عنوان “القرآن نداء نصراني” وقد سبقه إليها المستشرق السويدي تور أندريه (Tor Andrae) كما أشرنا سابقاً. راجع: يوسف بدرة الحداد، القرآن نداء نصراني، منشورات المكتبة البوليسية، بيروت، 1986.
[11] جورافسكي، أليسكي، الإسلام والمسيحية، سلسلة عالم المعرفة، العدد (215) نوفمبر (تشرين الثاني) 1996، ص101.
[12] إن زيارات ماسينيون إلى الشرق وتحديداً إلى العراق جذبت اهتمامه إلى الصوفي الحلاج، فقد تركت سيرته الشخصية وعقيدته الفلسفية الصوفية انطباعاً هائلاً عليه، بل أسهمت إلى درجة واضحة في تغيير وجهته الروحية. ومن موقع التلميذ والعالِم، يلفت مبارك إلى هذا التحول والتأثير بين شهيد العشق والمستشرق الفرنسي -ونعتبر نصه هنا بمثابة الشهادة- يقول فيه: «وإذا كان من مجال هنا لذكر من تتلمذتُ على يده في الإسلاميات والروحيات، فيطيب لامتناني أن يلاحظ أني لم آخذ عن لويس ماسينيون تساؤلاته العلمية واللاهوتية عن ظهور الإسلام في تاريخ المسيحية، وتحدياته الكبرى للكنيسة، بقدر ما انتبهت لهذا الشغف العجيب الذي جعل ماسينيون يعود إلى الإيمان المسيحي بوساطة صوفي مسلم سني، جنى من وراء قربه إلى الله، على سنيته، شرف الشهادة القصوى في نعمة الاستشهاد والامتثال بالمصلوب. فهذا الامتثال الماسينيوني بمعاناة الحلاج، وُصِف بالاقتداء الخفي بالناصري المعذب، من خلال الإسلام السني، وتمسك الحلاج الشديد بالوحدانية؛ أظن أننا نكون قد بلغنا ذروة ما هو مقدر للحوار بين الإسلام والمسيحية، حيث لا ينصت النصارى إلى أدعية الأذان وتراجع التجويد، بقدر ما ينصتون إلى ما تعاني النفوس الإسلامية في الأعماق، وما يتململ في الصدور من وراء مشربيّات السنة وهي متعطشة إلى ينابيع الروح ونشوة الهيام بالله». مبارك، يواكيم، الكرازة والحوار على ضوء الاختبار الإسلامي– المسيحي، منشورات النور، بيروت، الطبعة الأولى، 1977، ص28-19.
[13] انظر: Massignon, L, La Passion d’al-Hallaj, Martyr Mystique de L’Islam, Paris, 1922.
[14] جورافسكي، أليسكي، الإسلام والمسيحية، ص104.
[15] يمكن القول: إن ثمة العديد من الخطوات والمؤشرات والمواقف في الأوساط الغربية كانت لها رؤية ودية مع الإسلام، ولكنها خجولة، فبدءاً من القرن الثاني عشر، ستشهد هذه الأوساط ما أسماه المستشرق الفرنسي ماكسيم رودنسون (Maxime Rodinson) (1915-2004) بــ«نمو رؤية أقل حدة»، بسبب تضاعف العلاقات بين أوروبا والشعوب الإسلامية في المجالات السياسية والثقافية والتجارية، أفضى بالمسيحية، على الرغم من التنافس الديني والصراعات المسلحة التي كانت تعيشها، إلى أن تغير تدريجياً الزاوية التي تنظر من خلالها إلى غير المؤمنين. وبرز في هذا القرن اقتراح الفيلسوف الإنجليزي والراهب الفرنسيسكاني روجر باكون (Roger Bacon) (1220-1292) بجرأة حول ضرورة أخذ الإسهام الروحي للإسلام بعين الاعتبار عند دراسة نظرة اللاهوت المسيحي إلى السر الإلهي من الوحي. انظر: ميشال، لولون، الكنيسة الكاثوليكية والإسلام، ترجمة: فاطمة الجامعي الحبابي، عادل بن محمد عزيز الحبابي، المعهد الملكي للدراسات الدينية، الأردن، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 2001، ص29.
[16] جورافسكي، أليسكي، الإسلام والمسيحية، مرجع سابق، ص104.
[17] المرجع نفسه، ص107.
[18] للمزيد عن خلاصات لويس ماسينيون حول الإسلام انظر:
Rocalve, Pierre, Louis Massignon et L’Islam, institut français de Damas, 1993.
راجع الفصل الأول من الكتاب (Les Sources) (الأصول) وتحديداً ما هو مدرج تحت عنوان: (Abraham, Isaac et Ismaël) «إبراهيم، إسحق وإسماعيل».
[19] جورافسكي، أليسكي، الإسلام والمسيحية، مرجع سابق، ص107-108.
[20] المرجع نفسه، ص108.
[21] المرجع نفسه، ص109-110.
[22] نُشرت كتب كثيرة حول العلاقات الإسلامية– المسيحية، نحيل هنا على ورقة مهمة تتضمن ببليوغرافيا لأهم الكتب والمجلات والمقالات التي صدرت بين عامي 1960-1966، في اللغات الأوروبية حول العالم العربي والإسلام، أعدها الأب جورج قنواتي (1905-1994)، وتحتوي على مجموعة من المراجع حول الحوار الإسلامي- المسيحي. وتمّ تبويب الورقة بشكل علمي ووضع لها فهرس للأعلام لتسهيل عملية البحث بالإضافة إلى تقديم لها. انظر:
Anawati, Georges, Bibliographie Islamo – arabe ; Livres et Articles sur L’islam et L’arabisme parus, en langues occidentales, durant la période 1960-1966, Institut dominicain d’études orientales du Caire, Volume; 9, 1967, pages; 143- 213.
انظر أيضاً:
Borrmans, Maurice, Prophètes du dialogue islamo- chrétien; louis Massignon, J. Md Abd-el-Jalil, Louis Gardet, Georges Anawati, paris, 2009.
[23] جورافسكي، أليسكي، الإسلام والمسيحية، مرجع سابق، ص110-111.
[24] Moubarak, Youakim, Harpigny, Guy, L’Islam dans la réflexion théologique du christianisme contemporain, Cancilium, N0 116, Paris, 1976.
[25] عالِم وراهب دومينيكاني مصري.
[26] جورافسكي، أليسكي، الإسلام والمسيحية، مرجع سابق، ص111.
[27] المرجع نفسه، ص112.
[28] تخرج ميشال الحايك في الجامعة اليسوعية في بيروت والجامعتين الكاثوليكية والسوربون في باريس، وحصل على الدكتوراه في أصول الدين وإجازة الأستاذية في الآداب، وشهادة معهد الدراسات العليا للعلوم الاقتصادية والاجتماعية، وعُيِّن أستاذاً للدراسات الإسلامية والحضارة الشرقية في الجامعة الكاثوليكية، ونائب مدير البيت الفرنسي– اللبناني، وكاهن رعية (Saint-Germain-des-Prés)، وواعظ الصوم في كاتدرائية القديس جاورجيوس في بيروت. نشر كتباً عدة باللغة الفرنسية من بينها: (Le Christ de L’islam) «المسيح في الإسلام» (1959)، (Le Mystère d’Ismaël) «سر إسماعيل» (1964). وفي العربية: «كهف الذكريات –ديوان شعر» (1961)، «العبور والميعاد» (1966)، «رسالة إلى بني جيلنا» (1969)، وغيرها. له دراسات رصينة في مجالات متخصصة منها: «أصل استعمال اصطلاح عيسى المسيح (يسوع المسيح) في القرآن» (1962)، «تقارب جديد للإسلام» (محاضرات الندوة اللبنانية، 1986). فاز بتقدير المجمع اللغوي الفرنسي، ووسام مدينة باريس. انظر: مراد، يحيى، معجم أسماء المستشرقين، دار الكتب العلمية، بيروت، 2004، ص312. في الواقع لم نفهم لماذا وضع يحيى مراد الأب الحايك في خانة المستشرقين كما لو أنه ليس عربياً، فالحايك ليس رجل دين أوروبي أو فرنسي درس الإسلام وتاريخه وعقائده ومنظومته الإيمانية من الخارج، فنشره لعدد من مؤلفاته في الفرنسية لا يعني أننا بإمكاننا إدراجه في خانة المستشرقين.
[29] انظر:
Hayek, Michel, Le Mystère d’Ismaël, Mane, 1964, (300 pages).
[30] فليفل، أنطوان، ميشال الحايك: النزعة العلمانية في الفكر المسيحي (3)، جريدة الأخبار اللبنانية، رأي، الأربعاء 14 أبريل (نيسان) 2014.
[31] لم نتمكن من الحصول على نسخة من الكتاب باللغة الفرنسية، وكان من المهم الاستناد إليها من أجل توضيح وجهة نظر مبارك حول إبراهيمية الإسلام وأصالته كزاوية ثالثة في المثلث التوحيدي: اليهودية والمسيحية والإسلام.
[32] Daou, Fadi, Tabbara, Nayla, L’Hospitalité Divine, L’Autre dans le Dialogue des Théologies Chrétienne et Musulmane, op.cit.
[33] Aoun, Basile Mouchir, La Paternité Abrahamique; Youakim Moubarak, en; Le Christ Arabe, Cerf Patrimoines, 2016, p 119.
[34] Moubarac, Youakim, L’Islam et le Dialogue Islamo –Chrétien…, op.cit. p. 131.
[35] Moubarac, Youakim, L’Islam, Paris, Casterman, 1962, p 61.
[36] المقصود بهذا المصطلح الذي نحته مبارك المحتوى الثقافي والحضاري الغني للعروبة، مصنفاً هذه الأخيرة في أبعادها السياسية، إذ ينتقد المفاهيم التي أُسست عن الوحدة العربية إبان القرن التاسع عشر، معتبراً أنها في الزمن الراهن لم تعد صالحة ولا بد من تجاوزها نحو الفضاء الثقافي المتمثل بالعُربة.
[37] Aoun, Basile Mouchir, La Paternité Abrahamique; Youakim Moubarak; op.cit. P 116-117.
[38] سوف نتطرق إلى الموقفين الأول والثاني لأنهما يندرجان مباشرة في خلاصات مبارك حول إبراهيمية الإسلام، ولمن يريد الاستزادة حول الموقف الثالث: الدعوة الروحية يمكن له العودة إلى المرجع الذي استندت إليه بدءاً من الصفحة (35).
[39] مبارك، يواكيم، الكرازة والحوار على ضوء الاختبار الإسلامي– المسيحي، مرجع سابق، ص13-14.
[40] إن الإسلام هو أكثر الأديان الإبراهيمية صلابة في مسألتي التنزيه والوحدانية.
[41] مبارك، يواكيم، الكرازة والحوار على ضوء الاختبار الإسلامي– المسيحي، مرجع سابق، ص14. من المفيد القول: إنه نُشرت كتب عدة حول الجدل العقائدي المسيحي– الإسلامي، نذكر في هذه الدراسة الكتاب المهم للأكاديمي التونسي عبدالمجيد الشرفي، «الفكر الإسلامي في الرد على النصارى إلى نهاية القرن الرابع/ العاشر (580 صفحة)، وهو في الأساس أطروحة لنيل درجة الدكتوراه، تضمنت تحليلاً وعرضاً مكثفاً حول الردود الإسلامية على المسيحيين (النصارى). انظر: الشرفي، عبدالمجيد، الفكر الإسلامي في الردّ على النصارى إلى نهاية القرن الرابع/ العاشر، الدار التونسية للنشر، تونس، 1986.
[42] مبارك، يواكيم، الكرازة والحوار على ضوء الاختبار الإسلامي– المسيحي، مرجع سابق، ص15-16.
[43] المرجع نفسه، ص18-19. يرد مبارك هنا بشكل مباشر على فرضية ميشال الحايك الذي ربط الإسلام بإسماعيل ونظر إليه كفرع وليس كأصل إبراهيمي، تحديداً في كتابه «سر إسماعيل» (Le Mystère d’Ismaël).
[44] يشكل الإسلام القرآني الرد المعاكس للاعتراف بالآخر الديني/ الكتابي على نقيض التصلب اليهودي والمسيحي/ الكنسي ما قبل المجمع الفاتيكاني الثاني، الذي اعترف بوقت متأخر جداً بالمسلمين، واعتبرهم شركاء في التوحيد والتدبير الخلاصي. وفي رأينا أن القرآن له الأسبقية التاريخية في الاعتراف بالديانتين اليهودية والمسيحية، فصحيح أنه افترق عنهما عقائدياً حول مجموعة من العقائد، لكنه اتفق معهما حول المسائل العقائدية الأساسية. وبإمكاننا القول اجتهاداً: إن المسيح خارج الإطار الآبائي (نسبة إلى آباء الكنيسة) حمل رسالة كونية موجهة لكل الأمم والشعوب، من هنا بالإمكان تفسير الرابط التوحيدي والتاريخي الذي أسس له الرسول محمد بينه وبين عيسى –وكذلك موسى-، واتضح ذلك في القرآن والأحاديث النبوية، نذكر منها: «عن أبي هريرة (رضي الله عنه)، قال: قال رسول الله: «أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة وليس بيني وبينه نبي، والأنبياء أولاد عَلاَّتٍ [أي الإخوة لأبٍ من أمهات شتى]؛ أمهاتهم شتى ودينهم واحد».
[45] مبارك، يواكيم، الكرازة والحوار على ضوء الاختبار الإسلامي– المسيحي، مرجع سابق، ص21.
[46] للمزيد راجع وجهة نظر مبارك في الكتاب نفسه من الصفحة (23) حتى الصفحة (33).
[47] اقتنع مبارك بأن الإسلام قادر على التمييز بين الروحانيات والزمنيات (أي بين الدنيا والدين، بين المقدس والتاريخي)، كما فعلت المسيحية بعد آلام انفصال طويلة، وفي هذا السياق يقول: «أما أنا فإني مقتنع من كون الإسلام على أتم استعداد لخطو هذه الخطوة الحاسمة نحو التمييز الدقيق بين الروحانيات والزمنيات؛ ولأنه اتجه نحو ذلك على صعيد المبادئ نفسها، فبالأولى أن يتجه على صعيد التطبيقات الاختبارية. وأعتقد مخلصاً أنه جدير ومستعد، كالمسيحية، للانسياق في المجتمعات المتعددة العناصر، وإنشاء نظام سياسي للدول لا يكون فيه العنصر الديني عقبة في سبيل التقدم أو سبباً لسيطرة فئة على أخرى، بل على العكس يصبح عاملاً قوياً من عوامل المساواة والحرية. وقصارى القول: أرى أن الإسلام مستعد لكي يحوّل نظام الحاضرة الإسلامية ويسمو به إلى مناخ أمة إسلامية تتعايش مع غيرها من الأمم». يصل يواكيم في تفسيره إلى اعتبار أن «المدينة الإسلامية هي المنظمة الدولية الأولى والوحيدة ذات الإلهام الديني التي اعترفت لغير المسلمين بوضع قانوني، في وقت تجاهلت فيه كل ما هو غير مسيحي المدينة المسيحية القروسطية، التي تشكلت مع ذلك في أوروبا بعد ظهور الإسلام». يواكيم، مبارك، حول لبنان وفلسطين والحوار الإسلامي- المسيحي، تقديم: جورج قرم، توما دياب، ترجمة: سلام دياب، دار الفارابي، بيروت، الطبعة الأولى، 2014، ص168-117.
[48] مبارك، يواكيم، القدس: القضية، مرجع سابق، ص172.
[49] يواكيم، مبارك، حول لبنان وفلسطين والحوار الإسلامي- المسيحي، مرجع سابق، ص130.
انظر أيضاً كتابه: L’Islam et le Dialogue Islamo – chrétien، ص105.
[50] Moubarac, Youakim, L’Islam et le Dialogue Islamo – chrétien…, op.cit.103.
[51] Aoun, Basile Mouchir, La Paternité Abrahamique; Youakim Moubarak; op.cit. p 118.
[52] من المفيد هنا التمييز بين الإسماعيلية: نسبة إلى إسماعيل، ابن إبراهيم من هاجر، وبين المذهب الإسماعيلي، إحدى فرق الشيعة، وثاني أكبرها بعد الاثني عشرية. في الواقع لقد وجدنا صعوبة في ترجمة عن النص الفرنسي خصوصاً حين عدنا إلى الأب ميشال الحايك الذي استند إليه مبارك، في مناقشته لفرضية إسماعيلية الإسلام التي قال بها الحايك والذي اقترح وميّز بين (Ismaélitisme /(Ismaélitites (نسبة إلى إسماعيل) و(Ismaélisme)، (Ismaéliens) (المذهب الإسماعيلي) و(الإسماعيليون). انظر:
Moubarac, Youakim, L’Islam et le Dialogue Islamo – chrétien…, op.cit, p. 106.
[53] يواكيم، مبارك، حول لبنان وفلسطين والحوار الإسلامي- المسيحي، مرجع سابق، ص152.
[54] Moubarac, Youakim, L’Islam et le Dialogue Islamo – chrétien…, op.cit, pp. 111-112.
[55] Aoun, Basile Mouchir, La Paternité Abrahamique; Youakim Moubarak; op.cit, p.17.
[56] Moubarak, youakim, Recherches sur la Pensée Chrétienne et l’islam dans le temps modernes et à l’époque contemporaine, préface de Edmond Rabbat, publications de l’Université libanaise, Beyrouth, 1977, pp. 554-555.
[57] يعرّف ماسينيون الإسلام بأنه «إنذار مسكوني ومصيري مريمي»، وقد نظر إلى الإسلام باعتباره «إبراهيمية عربية» وتأثر به مبارك، وترك هذا التحليل بصمته على الدراسات الإسلامية السائرة على الخط الماسينيوني.
[58] في «القدس– القضية» دافع الأب يواكيم مبارك عن القدس كأرض مشتركة للأديان التوحيدية الثلاثة، وقدم في كتابه دراسة تاريخية عن المدينة بدءاً من القدس القديمة (قدس ما قبل التاريخ) وفي العهدين المسيحي والإسلامي، مروراً بمعاناتها منذ عام 1917، مقترحاً في الفصول الأخيرة مجموعة من الخواطر في سبيل حل هذه القضية.
[59] مبارك، يواكيم، حول لبنان وفلسطين والحوار الإسلامي- المسيحي، مرجع سابق، ص155.
[60] مبارك، يواكيم، القدس– القضية، مرجع سابق، ص123.
[61] راجع نص الوثيقة على موقع الموسوعة العربية المسيحية.
[62] وثائق المجمع الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الكنيسة، غير المسيحيين، (4140: 16).
[63] تبنى المطران جورج خضر هذا الطرح حين أشار إلى «إيقاظ المسيح الراقد في ليل الأديان» وعرض نظريته في محاضرة له في أديس أبابا (1971)، تحت عنوان: «المسيحية في عالم متعدد: تدبير الروح القدس»، والتي يمكن تلخيصها بالقول، انطلاقاً من نظرية المسيح الكوني، إن المسيح حاضر جزئياً في الأديان جميعاً، وما على المسيحيين سوى إيقاظ المسيح الراقد في ليل الأديان». انظر: مسوح، جورج (الأب)، المطران جورج خضر: قراءة في أعماله، مجلة النور، العدد التوثيقي، 2، السنة 61، ص119.
[64] Rouquette, Maieul, La Théorie du «chrétien anonyme» est – elle selon vous défendable? Disponible sur internet.
[65] جورافسكي، أليسكي، الإسلام والمسيحية، مرجع سابق، ص117. لم تأتِ قرارات المجمع الفاتيكاني الثاني تجاه المسلمين من فراغ، فقد حدثت تطورات هيأت بهدوء لهذا التغيير التاريخي، نذكر من بينها: إعلان البابا بيوس الثاني عشر، رسالة بابوية معنونة بــــ(Evangelii praecones) تدعو المبشرين الكاثوليك إلى اكتشاف القيم الروحية للديانات غير المسيحية واحترامها. انظر: ميشال، لولون، الكنيسة الكاثوليكية والإسلام، مرجع سابق، ص36.
[66] السماك، محمد، الفاتيكان والعلاقات مع الإسلام، دار النفائس، نسخة إلكترونية، ص35-36.
[67] عون، مشير باسيل، الأسس اللاهوتية في بناء حوار المسيحية والإسلام، جامعة القديس يوسف، بيروت، معهد الدراسات الإسلامية- المسيحية، دار المشرق، بيروت، الطبعة الأولى، 2003، ص112. انظر نقلاً عن مشير عون:
Caspar, Robert, «La Religion Musulmane dans Vatican II, Les Relations de l’Église avec les religions non –chrétiennes, coll, Unam Sanctam, cerf, Paris, 1966.
[68] جورافسكي، أليسكي، الإسلام والمسيحية، مرجع سابق، ص119.
[69] حول تأثير لويس ماسينيون في رؤية الكنيسة الكاثوليكية حول الإسلام، انظر:
Ollivry- Dumairieh, Florence, 50 ans après Vatican II, La contribution da Louis Massignon au renouvellement du regard porté par l’Église sur l’islam, sciences des religions, université Montréal, école pratique des hautes études, 2013.
[70] Corm, Georges, Youakim Moubarac, Un Homme d’exception, librairie orientale, Beyrouth, 2004.
[71] Fleyfel, Antoine, Critiques maronites de Vatican II? Les travaux de Hayek et de Moubarac sur L’Islam, in actes du colloque international Vatican II et les Églises orientales du 7 au 10 mai 2014, p 233- 242.
[72] عون، مشير باسيل، الأسس اللاهوتية في بناء حوار المسيحية والإسلام، مرجع سابق، ص107-108.
[73] Moubarak, Youakim, Recherches sur la Pensée Chrétienne et l’islam dans le temps modernes et à l’époque contemporaine, op.cit, p. 405.
[74] المرجع نفسه، ص405. انظر أيضاً: عون، مشير باسيل، الأسس اللاهوتية في بناء حوار المسيحية والإسلام، مرجع سابق، ص115. في كتابه «الإسلام والحوار الإسلامي– المسيحي» يضع مبارك مجموعة من الملاحظات والخلاصات حول الوثائق الواردة عن المسلمين في المجمع الفاتيكاني الثاني يدرجها في سبع نقاط، ويشدد في النقطة الخامسة على أن النص الفاتيكاني لم ينظر إلى الإسلام كجزء من الجماعة الإبراهيمية للأديان، بل ميّزه عن اليهودية والمسيحية. للمزيد انظر:
Moubarac, Youakim, L’Islam et le Dialogue Islamo – chrétien…, op.cit. pp. 101-102-103.
[75] عون، مشير باسيل، الأسس اللاهوتية في بناء حوار المسيحية والإسلام، مرجع سابق، ص116. راجع نقلاً عن عون:
Caspar, Robert, Caspar, Robert «La Religion Musulmane dans Vatican II, Les Relations de l’Église avec les religions non –chrétiennes, P 220-221.
[76] جورافسكي، أليسكي، الإسلام والمسيحية، ص124. راجع نقلاً عن جورافسكي:
Casper, Robert, Islam according to Vatican II, Roma, Encunter, 1976, N0 21, P 2.
[77] أركون، محمد، نحو تاريخ مقارن للأديان التوحيدية، ترجمة وتقديم: هاشم صالح، دار الساقي، بيروت، الطبعة الأولى، 2011، ص366-367.