المقدمة
يجمع مصطلح (الإسلام السِّياسي) كلَّ الجماعات التي تتخذ مِن الإسلام، كدين، في تحركها السِّياسي أيديولوجيةً؛ وترنو إلى تطبيقه عند الوصول إلى السُّلطة، على أنه منهج للحياة صالح لكلِّ زمان ومكان. بدأ يُطرح هذا المصطلح مع ظهور الإخوان المسلمين (مصر 1928)، وتعاظم دور الحركات الإسلامية، وهو مصطلح غير محبذ، بطبيعة الحال، لدى الإسلاميين أنفسهم، ففيه تمييز بين الإسلام وتلك الحركات.
إنهاآيديولوجيا تنطوي (على عدة اعتبارات تحاول إقحام كلِّ شيء في الدِّين؛ لرسم إطار مرجعي نهائي يُسيِّر كلَّ التَّوجهات وفق نظرة ماضوية، وتسعى إلى رسم حياة البشر، وفق معطيات محددة، مِن بداية الخلق حتى قيام السَّاعة، وترفض قبول أي رأي مخالف رفضاً باتاً… وهو ما قد يمثل في كثير مِن الأحيان نظرة شمولية تفرض الكثير مِن القيود، وقد تحجب الانطلاق الفكري وتحدده بسُنن الأولين التي يكتنفها الكثير مِن الغموض والالتباس والتَّناقض في أحيان كثيرة)[1]. نتفق مع هذا الرَّأي مع علمنا أن بعض جماعات الإسلام السِّياسي قد تخلت عن شموليتها في فرض آيديولوجيته عند استلامها السُّلطة، كما في حالة الإسلام السِّياسي التُّركي، المتمثل بحزب (العدالة والتَّنمية) الحاكم حالياً.
هناك مَن يُشير إلى أن الشَّيخ محمد رشيد رضا(ت 1935) قد استخدم هذا المصطلح (في التعبير عن الحكومات الإسلامية التي سماها)[2]. ولا ندري ما صحة ما أُشير إلى استخدامه مِن قِبل أدولف هتلر(قيل انتحر 1945) (حين التقى الشَّيخ أمين الحسيني مفتي فلسطين آنذاك، إذ قال له : إنني لا أخشى من اليهود ولا من الشِّيوعية، بل إنني أخشى الإسلام السِّياسي)[3]. ففي ذلك الوقت لم يكن الإسلام السِّياسي مؤثراً، والشَّيخ أمين الحسيني(ت 1974) لم يكن يمثله.
ربما يصعب تعيين واضع لهذا المصطلح، لكنه أصبح سارياً، ففيه ما يميز بالفعل بين الإسلام الدِّين والإسلام السِّياسة، بمفهومهالحزبي الحركي، فكلُّ إسلامي مسلم ولكن ليس كلُّ مسلم إسلامي. ولعلَّ أول مَن ميَّز بين المسلم والإسلامي هو أبو الحسن الأشعري (ت 324 هـ) في تصنيفه لكتاب (مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين)، ففي هذا الكتاب تجد جرداً لحراك سياسي وفكري وكلامي. أما الذين كتبوا في (الأحكام السُّلطانية) فتحدثوا عن (حراسة الدِّين وسياسة الدُّنيا)[4].
يعتقد الإسلاميون أن الدِّين شامل لكلِّ مناحي الحياة، والسِّياسة في المقدمة، وتطبيق الشَّريعة واجب إلهي، ولم يبق الأمر محصوراً بتطبيق الشَّريعة بل حُدد مسار الدَّولة الإسلامية، التي يعمل مِن أجلها الإسلاميون، باقتصاد إسلامي وآيديولوجيا إسلامية.
وبالتالي يعتقد الإسلام السِّياسي بنظام إلهي لايجوز إغفاله ويجب على المجتمعات اتباعه، وهو ما عبر عنه البعض بالحاكمية، كسيَّد قطب (أُعدم 1966) وأبي الأعلى المودودي (ت 1979), بل إن الذين استندوا في ذلك إلى نصوص قرآنية ونبوية تشرع للحكم الإسلامي، منهم مَن كفَّر المخالفين لهذا الرأي. لكن بالمقابل يجد المخالفون للفكرة في كتاب القرآن الكريم والأحاديث النَّبوية ما يُشرِّع أن الناس أحرار في شأنهم السياسي الدُّنيوي. وكنا توسعنا في ذلك في كتابنا (رسالة في العلمانية والخلافة)[5]. لذا اكتفينا بالإشارة تجنباً للتكرار.
ما يخص تاريخ الإسلام، والخلافة الإسلامية، يصعب إطلاق هذا المصطلح على الحركات الثائرة ضد الخلافة أو الخلافة نفسها، على اعتبار أن الخلفاء وخصومهم يتخذون مِن الدِّين شعاراً وأيديواوجية سياسية، ويتظاهرون بالإخلاص له ويتهم بعضهم بعضاً بالتَّنصل منه، مع أن الصِّراع كان دنيوياً. أقول يصعب استخدام مصطلح الإسلام السِّياسي بأثر رجعي، فليس هناك ما يميز هذه الحركة عن تلك، فكلها حركات دينية، ولا وجود لحراك مدني، أو ما نسميه بالدَّعوة لفصل الدِّين عن الدَّولة، والخليفة وقائد الثَّورة على حدٍ سواء إمامان يجمعان بين السُّلطة الدِّينية والدُّنيوية؛ ولا أرى معنى لإطلاق المصطلح، إذا لم يكن هناك ما يخالفه، مثلما يتمايز عصرنا بدعوات مدنية لا إسلامية ودعوات إسلامية سياسية، وهنا يصبح للمصطلح معنىً[6].
حسب التَّعريف السَّالف للإسلام السِّياسي قد يصعب اعتبار كلِّ تحرك لشخصية دينية أو جماعة، قبل العشرينيات مِن القرن الماضي، أو ما بعده- كما سيأتي ذكره في هذا الكتاب- على أنها مِن الإسلام السِّياسي، على اعتبار أن هناك شخصيات وجماعات هبوا للدَّفاع عن الدَّولة العثمانية ضد بريطانيا مثلاً، بسبب الرابط الديني، وكذا الأمر بالنسبة لمَن انتقد الحكومة وتحرك ضدها مِن أجل مطالب النَّاس؛ مع أن هذه الجماعة أو تلك الشَّخصية لم ترفع شعار الدَّولة الدِّينية، ولا تريد لنفسها السُّلطة. فمثلاً أَغلب المرجعيات الدِّينية الشِّيعية لا ترى التَّدخل المباشر في السِّياسة، لكنها في حالات كثيرة قالت كلمتها وفعلت فعلها، مِن موقعها المرجعي الدِّيني لا مِن موقع حزب سياسي.
لا غرو أن ظاهرة الحراك الدِّيني السِّياسي بالبلاد العراقية، التي ظهرت بوادرها في عشرينيات القرن الماضي، غدت بعد عقد السَّبعينيات منه تشكل ظاهرة سياسية خطيرة، حين تبدلت المطاليب مِن الحفاظ على الحالة الدِّينية والالتزام الدِّيني المعقول إلى المناداة باستلام السُّلطة وبقوة السِّلاح، وفرض حالة التَّدين، أو ما يعبر عنه بأسلمة المجتمع. وذلك بسبب الظروف الداخلية التي تعرضت لها البلاد، مثل الحرب مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية والدِّكتاتورية الخانقة، جمعاً مع الظَّرف الخارجي المتمثل بانفجار الثورة الإيرانية، والأمر ليس بعيداً عن تأثيرات حرب الجهاد الأفغانية، في الحالة الإسلامية الكُردية.
إجمالاً، هبت صحوة دينية سياسية عارمة، لم تشهدها العقود، بل ولا القرون الخوالي. وبسبب طبيعة النِّظام السَّابق، ومحاولاته في تكريس الطَّائفية، كردَّة فعل طبيعية ضد انتصار الثَّورة الإيرانية الشِّيعية، وتعاظم المد السِّياسي الشِّيعي داخل العراق، أخذ الفعل السِّياسي أو الحزبي الدِّيني طابعاً شيعياً، مع وجود فعل سُنّي نشأ واستمر خاملاً إلى حد ما، كان ممثلاً بالحزب الإسلامي العراقي، ممثل الإخوان المسلمين، وبتنظيمات وشخصيات ليس لها الحضور الفاعل في المعارضة العراقية، التي تعاظم أمرها في عقديَّ الثَّمانينيات والتِّسعينيات من القرن الماضي. مع أن شخصيات منها، ليست بالقليلة، تلقت ضربات موجعة مِن قبل النِّظام السَّابق، وكانت البداية بالشَّيخ عبد العزيز البدري (قتل 1969) وشقيقه.
مِن جانب آخر، وعلى الرَّغم مِن المحاولات التي سعت إليها أحزاب وشخصيات، في الإسلام السِّياسي العراقي، لم يكن ممكناً لحزب ديني أن يتجاوز طائفته، فللسُّنَّة أحزابها وبالمقابل للشِّيعة أحزابها أيضاً، ذلك بسبب طبيعة الخلاف التَّاريخي العقائدي، بما يخص مسألة الإمامة، وما تبعها مِن فروق أُخر في العبادات والمعاملات، والأخيرة أهون مِن الأولى، فهذه فروع والإمامة أصل. بلا ريب أن وجود أحزاب الطَّوائف يهيئ إلى انقسامات حادة في المجتمع، وخصوصاً إذا كان الأمر يتعلق بالنِّزاع على الحكم، مع الاعتراف بأنه ليس كلُّ الأحزاب والجماعات الدِّينية، على طول الخط، مارست الطَّائفية كحالة تعصب واستحواذ ضد الطَّائفة الأخرى.
بدأ النَّشاط الدِّيني في السياسة العراقية كحالة دفاع عن الخلافة العثمانية، على أساس أنها ممثلة للإسلام في عصرها، وكممارسة جهاد ضد غزو أو اعتداء. لذا يصعب اعتبار تلك الحركات ضمن الأحزاب الدِّينية، أو ضرباً من ضروب الإسلام السِّياسي الساعي إلى قيام دولة دينية تحت مبدأ الحاكمية القرآنية أو الإلهية، سواء كان ذلك متمثلاً بالآية: }إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ{[7]، أو الآية: }وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ{[8]. بمعنى أن تلك الجماعات، وإن دعت إلى الرَّابطة الإسلامية العالمية والخلافة الإسلامية، إلَّا أنها لم تحدد هدفها بالدَّولة الدِّينية، كآيديولوجية شمولية أو كحاكمية، بقدر ما كانت محاولة منها للاحتفاظ بإرث الخلافة الإسلامية[9]، وإن كانت ذات طابع سُنَّي، وهو ما يتعارض مع الرأي الشِّيعي السَّائد باعتبارها خلافة مغتصبة لحق علي بن أبي طالب.
مثلَت هذا النَّمط مِن الحركات، مدينة النَّجف، بمشاركة المرجعية أو تبنيها لها مباشرة: (جمعية النهضة الإسلامية)، و(الجمعية الإسلامية) بالكاظمية التَّابعة لبغداد، وأخرى بكربلاء، وانتهى دور تلك الجمعيات بعد تمكن بريطانيا بالسَّيطرة على العراق، وظهور الحكم الوطني الملكي(1921). أما الجانب السُّنَّي الرَّسمي الذي كان ممثلاً بنقابة الأشراف ببغداد، فلم يعنه الأمر، بل امتثل لواقع الحال، معتبراً أن الاحتلال هو الاحتلال، عثمانياً كان أو بريطانياً، وكان نقيب الأشراف قد أصبح أول رئيس وزراء للعراق، وكانت البلاد تحت السَّيطرة البريطانية المباشرة، مع وجود نية في الحفاظ على وجه الحكومة السُّنَّي، قابله رفض شيعي قاده مجتهدون، وتمثل بثورة العشرين(حزيران 1920).
ولعلَّ أول نشاط سياسي عقائدي شيعي، نشد قيام دولة إسلامية، بدأ عبر جمعية مثلت الشَّباب المسلم لمنشئها عزَّ الدِّين الجزائري (ت 2006)، في مطلع الأربعينيات مِن القرن المنصرم. وهنا لا بد أن يُشار إلى الجزائري الذي هو نجل مُنشئ أول جمعية إسلامية بالنَّجف والعراق ككل، الشَّيخ محمد جواد الجزائري (ت 1959)، بأنه الشخص المبادر إلى وجود الإسلام السياسي العراقي بمفهومه العقائدي، وكان نشاطه بمعزل عن تنظيم الإخوان المسلمين، الذي كان تأثيره واضحاً على العديد من الأحزاب والمنظمات الإسلامية.
نشط تنظيم الجزائري عبر المجال الطُّلابي والتَّربوي، فمن جمعية (الشَّباب المسلم) ظهرت تنظيمات، وتمرست فيها شخصيات بالعمل الحزبي والعقائدي، وظل نشاطها قائماً، مِن دون استفزاز السُّلطات، حتى ترك صاحبها العراق إلى لبنان في مطلع السَّبعينيات، مِن القرن الماضي. وكان شعار تلك الجماعة (دولة إسلامية سعادة الدُّنيا ونعيم الآخرة). إضافة إلى ذلك فإن دور الشَّيخ الجزائري كان تحريك المياه الراكدة في طرق التدريس في الحوزة الدِّينية بالنَّجف، فبادر إلى إنشاء مدرسة على نمط جديد لاقت قبول واعتراف الدَّولة العِراقية.
وإذا كانت منظمة (الشَّباب المسلم) هي بداية العمل العقائدي الإسلامي، ذي الهدف المنادي بمجتمع سعيد في الدُّنيا وسعيد في الآخرة، فإن الحزب (الجعفري)، الذي ظهر بداية عقد الخمسينيات، يُعدَّ المبادر للعمل الحزبي الشيعي المنظم، وكانت النَّجف هي مكان غرسته الأولى، فقد كان عليه مواجهة ضغطين: الدَّولة كمواجهة سياسية، والتي تمنع العمل الحزبي القائم على الأساس الدِّيني مِن جانب، والمرجعية الدِّينية مِن الجانب الآخر، لأن الأخيرة ترى في العمل الحزبي تجاوزاً للتَّقاليد المرجعية الموروثة. وقد برزت مِن داخل هذا الحزب كوادر تحملت أعباء العمل القيادي في حزب الدَّعوة الإسلامية، في ما بعد.
جرى اختلاف حول نشأة حزب (الدَّعوة)، هناك مَنْ جعله في نهاية الخمسينيات (1957) ومَنْ اعتبره في السِّتينيات، بل إن هناك مَنْ أشار إلى ميلاد الحزب في مطلع السَّبعينيات مِن القرن الماضي. لكن الثابت، حسب المبادرين في التأسيس، أنه تأسس العام 1959. كذلك برز خلاف حول دور آية الله محمد باقر الصَّدر(أُعدم 1980) في نشأة وقيادة الحزب، الذي يظهر من خلال أدبيات الحزب ونشاطه، أنه هو المؤسس والملهم والقائد الفعلي، وهو حسب ما لدينا مِن المصادر صحيح في الكثير منه.
لكن، في كل الأحوال يصعب تجاوز تأثر ظهور الحزب (الجعفري)، ثم حزب الدَّعوة، بالنَّشاط الإسلامي الخارجي، وعلى وجه الخصوص جماعة الإخوان المسلمين بمصر، ثم ظهور حزب التَّحرير بالقدس وفرعه العراقي، وكان الأخير محاولة لإيجاد حزب إسلامي يجمع الطَّائفتين. بيد أنها كانت مجرد فترة قصيرة، وعاد كل حزبي إلى التَّنظيم الذي يمثل طائفته ويعبر عن منطقها التَّاريخي والعقائدي. ومن هذا المنظور، و بإزاء هذا التَّشابك المذهبي بالعراق، بدا شعار تحقيق (الدَّولة الإسلامية) صعباً إذا لم يكن ضرباً مِن الخيال.
ونحن نسرد قصص تأسيس ونشاط الإسلام السِّياسي العراقي، تجدر الإشارة إلى أن هناك أحزاباً مغلقة لأهل الأديان مِن غير المسلمين، وعلى وجه الخصوص المسيحية، لكنها لم تبدو أحزاباً دينيةً، بقدر ما هي أحزاب قومية أو إثنية، فليس في شعاراتها ما يشير إلى الدِّين، أو إلى قيام كيان ديني. وإذا بدرت دعوات مِن تلك الأحزاب إلى إقليم ذاتي، حيث وجود مَنْ تمثلهم مِن العراقيين، فإن ذلك لم يكن يعني تحقيق إقليم ديني أو تطبيق شريعة دينية على سكانه. وكذا الحال بالنِّسبة للأيزيديين، مع الإشارة إلى محاولة لشَّباب الصابئة المندائيين لتَّأسيس حزب لهم (2003). لكنهم لم ينجحوا، لقلة عدد المندائيين مِن جهة، ولاعتراض كهنة الدِّين وشيوخه، وهم القوة الرُّوحية في الطَّائفة.
لا تنظر المراجع الدِّينية مِن غير المسلمين، بشكل عام، إلى الأحزاب بعين الرِّضا، وهذا شأن المرجعيات الدِّينية التَّقليدية المسلمة أيضاً. فبالإضافة إلى الخشية مِن إضعاف دور تلك المرجعيات وتأثيرها في المجتمع، وهذا شأن العديد من مراجع الشِّيعة أيضاً. تتوجس المرجعيات غير المسلمة من الاحتكاك السِّياسي وما يسببه مِن عصبيات ضد طوائفها.
من الأحزاب المغلقة للمسيحيين، والتي لم تُفهم على أنها أحزاب دينية: الحزب (الوطني الآشوري)، وحزب (بيت نهرين الديمقراطي)، و(اتحاد بيت نهرين الوطني)، والحركة (الدِّيمقراطية الآشورية). وللأيزيديين، من دون أن يكون ممثلاً للطائفة جميعاً: الحزب (الدِّيمقراطي الأيزيدي). أما محاولة الصَّابئة فكانت عبر حزب (التَّجمع الدِّيمقراطي المندائي)، الذي لم يرْ النُّور للأسباب المذكورة أعلاه. ولهذه الأسباب لم يحو كتابنا هذا سوى الأحزاب والمنظمات الدِّينية الإسلامية لاغيرها.
قلنا اشتدت ظاهرة الإسلام السِّياسي العراقي بعد انتصار الثورة الإيرانية، التي لم يكن بينها وبين اندلاع الحرب بين الدَّولتين إلا سنة وبضعة شهور (شباط/فبراير 1979 أيلول/سبتمبر 1980)، هذه الحرب خدمت الظاهرة الدِّينية، وجهزت عمليات التهجير الأحزاب الدِّينية بالكوادر والأتباع والمسلحين، التي طالت الشِّيعة على وجه الخصوص، وفي مقدمتهم طائفة الفيليين الكُرد.
فقد أُعلن عن تأسيس (المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق) في 17 تشرين الثاني (نوفمر)1982، في مؤتمر صحفي عقده النَّاطق الرسمي باسمه، السيَّد محمد باقر الحكيم الذي أصبح في ما بعد رئيساً لهذا المجلس، كما تشكلت (قوات بدر) ذراعه العسكرية بعد عام مِن تاريخ التَّأسيس، وهناك أعاد حزب (الدَّعوة الإسلامية) بناء نفسه، بعد تعرضه لخسائر فادحة في الهجمات الشَّرسة ضده، مِن إعدامات واعتقالات، وبعد ماحدث فيه من انشقاقات في قياداته وقواعده، حتى عاد إلى العراق (2003) فاقداً الكثير مِن أعضائه.
كذلك برزت في الوسط الشِّيعي السِّياسي شخصيات، مثل الشَّيخ محمد باقر النَّاصري، تحت نشاط (جماعة العلماء المجاهدين في العراق)، وكان له حضوره المستمر في حراك المعارضة منذ الثَّمانينيات مِن القرن الماضي، ونشط أيضاً السَّيد حسين هادي الصَّدر، عبر مؤسسته (المعهد الإسلامي في لندن)، وكان له دور في المعارضة الإسلامية العِراقية بإيران، وفي انبثاق المجلس الأعلى، ومن جانبه حاول تأسيس (البيت العراقي) (كانون الثَّاني/ يناير 2003) لكنه لم يتم. وكان السَّيد حسين مِن أشد الشَّخصيات المعارضة للحصار المفروض على العراق إثر غزو الكويت، وكتب على مدى سنوات كلمة في جريدته الشَّهرية (المنبر) بهذا الخصوص.
نشط أيضاً السَّيد عبد المجيد الخوئي(قتل 2003)، عبر مؤسسته (مؤسسة الإمام الخوئي) ومجلتها (النَّور) الشَّهرية، وفتحت المؤسسة أبوابها للقاءات المعارضة العراقية، وأخيراً قَدم السَّيد عبد المجيد على تأسيس (المجلس الشِّيعي)، وذلك في نهاية العام 2002، كمجلس إسلامي شيعي أعلى بالعراق، على غرار المجلس الإسلامي الشِّيعي اللبناني، ولم يتم أيضاً.
بينما وقفت شخصيات، لها حضورها في العمل السِّياسي العراقي المعارض، لكن من خارج الحزبية، مثل السَّيد محمد بحر العلوم ضد مشروع (البيت الشِّيعي)، الذي عُقد بإيران (آذار 2003)، بحضور السَّيد محمد باقر الحكيم (اغتيل 2003)، وأبو بلال الأديب، الاسم الحزبي لعلي الأديب عضو المكتب السِّياسي لحزب الدَّعوة الحالي، ورجل الأعمال أحمد عبد الهادي الـجلبي، وكان توقيت تأسيس هذا البيت قُبيل سقوط النِّظام بأيام، وعُقد تحت شعار (الشِّيعة والمستقبل). وكان الاعتراض ضده من أجل قرار عراقي ومشروع وطني خارج المؤثر الإيراني[10].
كانت مؤسسة السَّيد بحر العلوم (أهل البيت) محط لقاء ونشاط المعارضة العراقية، اختصت بإحياء المناسبات الدِّينية، مع حضور الفعل المعارض فيها، وهي مِن أوائل المؤسسات التي تبنت المعارضة خارج العراق، وكان أحد أركانها السَّيد محمد مهدي الحكيم (اغتيل 1988)، وظلت مواظبة على إحياء ذكرى اغتياله كل عام في تظاهرة سياسة وأدبية. لم يأت الكتاب بتفاصيل أكثر عن دور هذه الشَّخصيات، وهي بلا شك ذات فعلٍ عريق في العمل المعارض بهوية إسلامية غير حزبية، لأن المخطط له هو الأحزاب والمنظمات والجماعات الدِّينية.
أما الحركة الكُردية الإسلامية العِراقية فهي الأخرى استفادت مِن الثَّورة الإيرانية، لكن مع الحذر مِن استغلالها طائفياً، وكثيراً ما وقعت وسط تجاذب إيران مِن جهة والحزبين الكُرديين العلمانيين، الديمقراطي والاتحاد، مِن جهة أخرى. وقد خرج من رحم هذه الحركة التَّيار السَّلفي الكُردي، ممثلاً بـ(أنصار الإسلام)، و(جند الإسلام). وهي بدأت بإطار صوفي وإخواني ذي صلة بالإخوان المسلمين العِراقيين وبسب كثافة الوجود الصُّوفي بالمنطقة الكُردية مِن العِراق.
تشكلت جماعتا الأنصار والجند على غرار ظاهرة الأفغان العرب وحركة طالبان، بعد انخراطهما مع المجاهدين في المقاومة المسلحة داخل العراق عبر الموصل. أما بقية أحزاب الحركة الكُردية فقد انخرطت في الوضع السِّياسي، ومارست الانتخاب الديمقراطي بإقليم كوردستان والعراق كافة.
هناك حركات كان لها دور في تاريخ الإسلام السِّياسي العِراقي، إلا أنها توقفت عن النُّمو، وتحجمت إلى مستوى الشَّخصيات والكيانات المحدودة، ولم يكن لها نشاط ملحوظ خارج الإعلام، مثل: (الجماعة الخالصية)، و(جماعة البغدادي)، ومنظمة (العمل الإسلامي)(الجماعة الشِّيرازية). كذلك وجدنا في (هيأة علماء المسلمين) طابعاً سياسياً، وتبنت هذه الجماعة نشاطاً عسكرياً أيضاً، بعد قبول رئيسها الشَّيخ حارث الضاري بتكليف إحدى الجماعات المسلحة في أن يكون مرشداً لها، وبهذا اقتربت مهامه مِن مهام الولي الفقيه، لكن بنسختها السُّنَّية الخالية مِن نيابة أو وكالة الإمام المعصوم، ولا يختلف نشاط الهيأة السِّياسي عن بقية الأحزاب، إلا أنها لم تعلن عن نفسها كحزب أو حركة، بقدر ما عبرت عن نفسها كمرجعية دينية سياسية.
لا تخفى صعوبة البحث في التَّيارات التي تشكلت، وظهرت مباشرة وبقوة بعد سقوط النظام، وما حاولته مِن ملء الفراغ الذي تركته أجهزة النِّظام السَّابق. فمَنْ يتابع التَّيار الصَّدري مثلاً، قبل السُّقوط وبعده، يجد سرعة الأحداث والانشطارات في داخله على مستوى القيادات أو المرجعيات. فإضافة إلى التَّيار الصَّدري المعروف ظهر، من التيار نفسه قبل أن يُعرف بهذا الاسم، حزب (الفضيلة)، الذي يقوى دوره بالجنوب، وبالبصرة على وجه التحديد.
وارتباطاً بالتَّيار الصَّدري ليس هناك أصعب مِن رصد تحرك جيش المهدي، وتعدد أصحاب القرار فيه، وتعبيره المسلح عن التَّيار ككلٍّ، وأوضح مثال على انفلاق وتشظي هذا الجيش ظهور ما يسمَّى بـ (عصائب أهل الحق)، والتي أبرزتها في الإعلام قضية الجنود البريطانيين المخطوفين مِن بناية وزارة المالية ببغداد، وما حصل مِن مساومة مع هذه الجماعة عليهم. و يرتبط بهذا التَّيار، إضافة إلى جيش المهدي، ما نُعرفه بالحركة المهدوية أو المهديين، فأكثر أولئك تجدهم مِن حاضري دروس السَّيد محمد محمد صادق الصَّدر(أُغتيل 1999)، أو المصلين خلفه في صلاة الجمعة بالكوفة، مع فك الارتباط بالتيار نفسه، حيث لا يوجد الآن ما يمكن أن يُطلق عليه بالتيار الأم، وخصوصاً بعد اغتيال الصَّدر نفسه.
إلا أن الأصعب مِن هذا، هو رصد الحركات الجهادية التي تعلن عن نفسها مقاومةً إسلاميةً مسلحةً، والتي لا يصح أن يُطلق على الغالب منها تسمية الحزب أو التنظيم، فهي عالم غامض ومتغير وسري للغاية، وتبدو المعلومات حوله متناقضة، وجماعاته سريعة التقلب بين شدِّ تنظيم القاعدة وترغيب الأمريكان. فما أن تتأسس جبهة إلا وتنقض نفسها في جبهة أخرى، لتعلن الجبهة المنشقة عن عمليات عسكرية مستقلة، تحذر من انتحالها ونسبتها للأولى!
تأتي عملية رصد التَّنظيمات السِّياسية الدِّينية بعد سقوط النظام أصعب كثيراً منها قبل السقوط؛ والسبب أن التنظيمات المعارضة كانت تتحرك خارج العراق بكل حرية، وذلك ضمن الظرف الدُّولي المضاد للنِّظام السَّابق. لذا كانت تعبر عن نفسها ببياناتها وعبر شخوصها وإعلامها علناً، مما وفرَّ المعلومات الكافية عن وجودها ونشاطها، ودراسة تاريخها وتسجيل يومياتها. أما بعد السُّقوط فقد صار الغموض والتبدل السَّريع، وربما الوجود الافتراضي لبعضها على الإنترنت لا على أرض الواقع سمةً لها.
إن نظرة عابرة إلى رايات التَّنظيمات، التي في السُّلطة والمقاومة على حد سواء، تجدها كأنها خرجت من قمقم التَّاريخ، بنشر راية الرَّسول ورايات الأئمة والخلفاء الرَّاشدين وصلاح الدِّين الأيوبي كبطل تحرير. فالأحزاب التي في السُّلطة، وإن كانت لا تعترف بخضوعها الكلي لهذا اللاهوت، إلا أنها عملت وتعمل عبر المرجعيات واستخدام الرُّموز الدِّينية بقوة في الانتخابات التي أوصلتها إلى السُّلطة، وهذا ما حقق لها الفوز الكاسح في الانتخابات الأولى، لكن الصُّورة قد تغيرت خلال انتخابات المحافظات (2008)، وينتظر تلك القوى في الانتخابات القادمة عدة مفاجآت. وبطبيعة الحال لا يعدُّ فوز حزب الدَّعوة جماعة المالكي، بالمحافظات، فوزاً لسبب ديني أو مذهبي بقدر ما كان طمعاً بتحقيق الشِّعار المدني (دولة القانون)، وهو اسم قائمة الجماعة المذكورة.
لا يجد الإسلام السِّياسي العراقي عموماً، بلا إقناع النَّاس عبر الرُّموز الدِّينية، مصداقية له، بعد الأداء الفاشل وهو في قمة السُّلطة، وفي المقاومة السِّرية أيضاً، حيث تكشفت الحال عن أرقام مذهلة مِن الفساد بالنسبة للسلطة، ومِن سفك الدِّماء بالنسبة لمَنْ في المقاومة. وتبينت السُّهولة في ركوب الموجة الدِّينية، وتحوُّل الولاءات بسرعة فائقة. بل إن الدِّيمقراطية عموماً تعرضت إلى انتكاسة بسبب ذلك الأداء، وظهر المائز بين الشِّعارات الدِّينية وحقيقة السِّلوك، بين التدين التَّقليدي المبني على الأمانة والخوف من الله واستلهام مثال الإمام علي بن أبي طالب في خشونة العيش والرِّفعة والنَّزاهة، والتدين السِّياسي المكشوف في نفاقه وخيانته للمال العام وفراقه لشِّعاراته التي يأخذ بها المؤمنون من على المنبر الحسيني.
أتي بمثال حي عايشته مِن نموذج الإسلام السِّياسي وهو في ذروة تحولاته مِن الاعتدال إلى التَّشدد، ومِن التَّدين المعقول إلى الذَّوبان بالحزب الدِّيني والطَّاعة في استلهام توجيهاته. فالتَّرويض على ما يبدو، يبدأ بالتَّشديد على العبادة، والتَّطلع إلى سلطة الله، وحصر الحق في عقيدة الحزب، وهذه قاعدة تشمل الأحزاب الدِّينية و سواها، لكن ما يزيده الحزب الدِّيني أن وصاياه هي وصايا الله في أوامره ونواهيه. كان ذلك الشَّاب، قبل الانتماء الدِّيني الحزبي، حزب الدَّعوة تحديداً، ملتزماً إلى حد كبير بالعدالة، وبالصدق، ولا أبالغ إذا قلت إنه لم تبدر منه كذبة أو ممارسة مؤذية ضد أحد، ماعدا شقاوة الصِّبا.
كان يستمع إلى قصة مقتل الإمام الحسين، وهي تُذاع بصوت القارئ الشجي عبد الزهراء الكعبي(ت 1974)، وفي الوقت نفسه يستمع لأغاني أم كلثوم، وأتذكر أنا ومجموعة مِن الأصدقاء تذوقنا تلك الأغاني مِن خلاله، وما زلت أستمع لأغنيته المفضلة (أغداً ألقاك) وكأنه إلى جانبي. وكان يحفظ عن ظهر قلب أغنية (يا بنفسج)، وهي من شعر مظفر النَّواب، الشَّاعر اليساري المعروف، ومن ألحان أبرز الملحنين العراقيين طالب القرغولي، وأداء صاحب الصوت الشَّجي ياس خضر، الذي قيل إنه صقله في المواكب الحسينية مِن قبل، وكان للأغنية وقع خاص في نفسه.
اطلعنا بفضله، قبل تدينه السِّياسي، على مكنونات فكرية وثقافية، ككتب سلامة موسى (ت 1957) وروايات عربية وعالمية، ودراسات في علم النَّفس، فكتاب (عقلي وعقلك) قرأته بتوجيهه. كان بشوش الوجه، يساعد الجميع مِن دون التوقف عند الالتزام الدِّيني لهذا أو ذاك، أو أن يسأل عن مذاهب النَّاس واختلافاتهم الدِّينية والمذهبية. نال صداقته شباب مِن مختلف المشارب: الكُتاب والشُّعراء والنَّاس العاديين. وأذكر أنه كان معجباً بتضحية الإمام الحسين بن علي (قتل 61 هـ) وتشي جيفارا (اغتيل 1967) على حد سواء، وبقريبنا اليساري أمين الخيُّون (اغتيل 1972).
إلا أن الشَّاب المحب للجميع أخذ يتغير بسرعة، وبدأ بالانسحاب مِن حلقة الأصدقاء، فقد انقلبت صلاته الحميمة بهم إلى مناكدات، وبدأ يتقصد إغلاق الرَّاديو والتَّلفزيون عند بث موسيقى أو أغنية لأم كلثوم، وهو الذي جاءنا، في يوم شات، وكان ضابطاً في الانضباط العسكري (الشُّرطة العسكرية)، تاركاً خفارته ليخبرنا أنه الليلة ستذاع أغنية (أغداً ألقاك يا خوف فؤادي من غدٍ) (كانون الثَّاني/يناير 1972)، ويعود على وجه السِّرعة إلى واجبه. وفي ذلك دلالة على اهتمامه بهذا الأمر. وهذا ما لا يجيزه الحزب الدِّيني، إذ عندما سُئل أحد زعامات الإسلام السِّياسي، في برنامج تلفزيزني عن صورة المغني العراقي الشَّهير كاظم السَّاهر تلكأ بالإجابة وقال: أظنه يُغني! أي لا يهمني هذا. وأجاب أيضاً على سؤال حول صورة مؤسس الحزب الشُّيوعي العِراقي فهد يوسف سلمان يوسف(أُعدم 1949) بدا أنه لا يعرفه، معلقاً، بعد توضيح مقدم البرنامج عن صاحب الصُّورة، أن الماركسية انتهت، وكأنه ينتظر الفرصة لتبرير جهله بما حوله، أي أن الأمر لا يهمه أيضاً. وهذه الحالة تعبر عن ثقافة التَّقوقع، مع أن الاثنين، فهد والسَّاهر، كلُّ في مجاله وزمنه، قد شغلا جمهور الشَّباب العِراقي.
أخذ ذلك الشَّاب بعد انتمائه الدِّيني، غير التَّقليدي، يتوجس مِن طعام أهله وأقربائه، ويسأل، وكأنهم انتسبوا إلى ديانة أخرى غير ديانته، يدقق في طريقة ذبح الدَّجاجة، ويحذر من الاجتماع بين نساء الأقارب ورجالهم، ويحاول منع المصافحة بين النِّساء والرِّجال مِن أولاد العمِّ، بينما المصافحة تراث عائلي عميق الجذور اتسم بالعفوية، لم يمنعه أشد شيوخهم شكيمةً، كما أخذ يطيل الاستماع إلى أناشيد دينية، وبكائيات في مناسبة وغير مناسبة.
اشترط هذا الإنسان على زوجته أن تتحجب بحجاب لم تألفه أمهات العباءات العراقيات من قبل؛ وقد تزوجها بعد علاقة حب قصيرة مِن دون النَّظر إليها، ولا أهله نظروا، إلى كونها سُنَّية وهو من الشِّيعة، حتى والده أعطى رأيه السِّلبي في الزَّواج، ذلك لأنه أراد لولده واحدة مِن بنات أعمامه، ممَنْ يمكن التَّعايش معهنَّ مِن دون منغصات، فالفارق في مستوى الحياة بين الرِّيف القصي وبغداد كان ملحوظاً، ولم يطرح والده حينها أو يسأل: أهي شيعية أم سُنَّية! مع أنها سُنَّية وتتحدر مِن النَّاحية الغربية، وهو الشِّيعي ويتحدر مِن الجنوبية. إلا أنه، بعد تدينه السِّياسي وانتمائه الحزبي الدَّعوي، سرعان ما أخذ يفكر في هذا الأمر! أخذ يفكر في القضية المذهبية برمتها، والتَّنصل عن سجاياه مِن بشاشة وسخاء، حيث ربط ذلك بالواجب الدِّيني. أتذكر قيام أصدقاء له بنقل أثاث بيته في عصرية رمضانية، وإذا به ينسل للإفطار مع جماعته المتدينين وتركهم ينتظرون، لأنه اعتقد أنهم ليسوا صائمين!
أخذ يسأل عن نوع الجلود عندما يشتري حذاءً أو نطاقاً، فلما أهُديَّ له حذاء سأل مِن جلدِ أي حيوان مدبوغ ، وأين ذُبح؟! ثم رفض استعماله! ولما حاول أهله شراء جهاز تلفاز، قال: (سأقطع المخصص)! وكان منتظماً بإرساله، ويدفع لخاله المعوز ما يساعده على العيش، لكنه قد لا يتأخر بقطع كلِّ شيء إذا شعر أن هناك خللاً في تدين الأهل أو الخال. وأخذ يكثر الخوض في صراعات تاريخية أكل عليها الزَّمن وشرب، وبات ينتظر انتصار الثورة الإيرانية كي تقوم دولة المهدي! وبالجملة تحول إلى كائن حزين سلبي بعد أن فارقه المرح والتَّفاؤل!
لكن، بالمقابل أرى شخصاً أصيل المعدن، لا يعرف الكذب، سيتراجع عن قناعاته بتلك الثَّورة وبالإسلام السِّياسي عامةً، لو علم أن مئات العراقيين لم يلاقوا لقمة العيش بإيران، حيث انتظار تطبيق جزء مِن دولة المهدي، أو جزء من إنسانية دول الغرب مع الغرباء ناهيك عن المواطنين. بينما راحوا غرقى في السُّفن قبالة سواحل إندونيسيا! وأن سلوك الجمهورية الإسلامية جعل الإيرانيين ينظرون إلى رجل الدِّين مثلما كنَّا ننظر إلى رجل الأمن أيام دولة البعث! شأنه شأن اليساري أو القومي العقائدي، وقد أخذ منهما تأليه الشَّخصيات وتقديسها، إلا أنه لو عاش وخاض تجربة الحكم سيكون بين أمرين: إما أن يتراجع عن التزامه الحزبي، بعد اكتشافه كيف صار الدين وسيلة لتحقيق المطامح الشخصية والحزبية، وإما يتخلى عن مثله ويسلك ما يسلكه القائمون على السلطة الآن.
لم استطع مواصلة ما حل بصاحبنا مِن تغيرات، وقد فسرتها وقتذاك على أنها شأن خاص به وحده! ولكن بعد التَّعامل مع ملتزمين في الأحزاب الإسلامية وجدت الأمر أكثر مِن أن يكون سلوكاً فردياً، بل وجدت مَنْ لا يحاذر مِن إحراج البشر عندما يشير إلى شخص على دين آخر بالنَّجاسة، وأن عليه إذا شاركه في اجتماع أو مناسبة ألا يقترب مِن الطَّعام ماعدا الخضار! وعليَّ القول: إنها السَّلفية الصَّارخة بين الجماعات الشِّيعية! وأراها غريبة على تقاليد الشِّيعة وتعايشهم التَّاريخي مع أهل الأديان الأُخر، وبما لا يتناسب مع تضحيات حزبه.
كان ذلك أحد الدَّوافع في محاولة التَّأريخ للإسلام السِّياسي العراقي عموماً، وهو لاهوت سياسي إسلامي بامتياز، مِن دون بحث الظَّاهرة اجتماعياً، فليس ذلك مِن لدَّني. أقول كم تبدو السياسة كاذبة إذا ما سألنا عن ثمن دماء المغتالين والمقتولين، وما بينها، والمناصب والثروات التي أطبق عليها الإسلام السِّياسي، وهو ما زال يوظف تلك الدِّماء في طاحونة دعايته، أراهم مثل العمال الَّذين فجروا أخطر الثَّورات ليخرج أبناؤهم وأحفادهم بمعاولهم لإسقاطها، بعد الشُّعور بأنهم مجرد دعاية وهتاف وشعار! إنه لاهوت العقيدة في أوسع أسمائه وتعدداته.
فالسيطرة باسم الدِّين وآل محمد وأصحابه، ومَنْ يمثلهم من فقهاء ومراجع دين، مازالت قوية، فحتى يتنبه النَّاس إلى معاشهم، مقابل الخضوع الأعمى للمقدسات، يحتاجون إلى وعي وثقافة واقعيتين، لم يكن الدِّين الحقيقي والإيمان الصحيح بالله ضدهما بمكان. فهناك العديد مِن علماء الدِّين الذين قدموا العدل على الإيمان، لأن الله عدل، ولا يجوز الظُّلم ولا الهيمنة باسمه، لكن أكثر الظُّلم إيلاماً، ما تمارسه الدُّكتاتورية الدِّينية باسمه.
فهذا حفيد أبي لهب بن عبد المطلب، الفضل بن العباس بن عُتبة بن أبي لهب، المعروف باللَّهبي(ت 95 هـ 713 ميلادية) يخاطب الخليفة الوليد بن عبد الملك (ت 96 هـ 714 ميلادية)، عندما غاظه مدحه لخصم الخليفة، أبي محمد عليّ بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب(ت 117 هـ 735 ميلادية)، وكان يُلقب بالسَّجَّاد وبذي الثفنات[11] لنُسكه، وورعه، وكثرة سجوده. وما أعمق كشف الفضل للهيمنة باسم النَّبي، وأحفاده، في الأمس واليوم:
فإن يغضبك قولي في عليٍّ
وتمنع ما لدَيك من النَّوالِ
فإن محمـداً منَّـا وإنَّـا
ذوو المجـــد المُقــدَّم والفعــالِ
بنا دان العبادُ لكم فأمسوا
يسوسهم الركيكُ من الرِّجال[12]
يصدر الكتاب في جزأين: الأول باسم الإسلام السِّياسي الشِّيعي، والثَّاني باسم الإسلام السِّياسي السُّنَّي، ومع عدم رغبتنا في تكريس الانقسام الطَّائفي، حتى وإن كان عبر أجزاء كتاب، إلا أن واقع حال الإسلام السِّياسي بالعراق، على وجه الخصوص، لا يكون، مثلما سبقت الإشارة، إلا طائفياً، فإسلام واحد هو تعبير عن مسمى فحسب، وهي مفردة تحمل الكثير من الرِّياء، والحقيقة أنه لا بد للمسلم مِن مذهب يمارس إسلامه عبره، وهذا حال الأحزاب الدِّينية كافة.
والكتاب بجزأيه، رصد للإسلام السِّياسي العراقي على مدَى قرن مِن الزَّمن، وعبر عدة عهود مِن تاريخ الدَّولة العراقية، لا أعتبره كاملاً ومنجزاً للمهمة، لأنه يتصدى لظاهرة مستمرة الانشطار ومتبدلة المواقف، وأول ما تواجه الباحث فيه هي شحة المصادر العدول، مع كثرة تناقضات روايات المؤلفين وأغراضهم الفئوية والحزبية، ومنهم شهود عيان، وما نجده مِن اضطراب في معلومات المواقع الإلكترونية، حيث تم اللجوء إليها حين خالجنا اليأس من المصدر الورقي أو الشَّفاهي في أمر قضية مِن القضايا!
إنها محاولة شعرت مِن البداية باضطرابها، حتى عزفت عن المواصلة في أحايين، وجمدت العمل لأتحول إلى عمل آخر أكثر انسجاماً ووضوحاً ومتعةً في البحث، إلا أنني أدعي قد وصلت إلى النِّهاية، بعد أن ألقيت دلْوي بين الدِّلاء، وليس لي إلا إتمام العمل، وأرجو الصَّفح عن تقصير لسهو أو إرباك.
إنه قلق بَرره أحد أبرز شيوخ الكتابة في الأعصر كافة، ابن بحر الجاحظ (ت 255 هـ 868 ميلادية) قائلاً: (ينبغي لمَنْ يكتب كتاباً ألا يكتبه إلا على أن النَّاس كلَّهم له أعداء، وكلَّهم عالم بالأمور، وكلَّهم متفرِّغ له، ثم لا يرضى بذلك حتى يدع كتابه غُفْلاً، ولا يرضى بالرأَي الفطير، فإنَّ لابتداء الكتاب فتنة وعُجباً، فإذا سكنت الطبيعة، وهدأت الحركة، وتراجعت الأخلاط، وعادت النَّفس وافرة، أعاد النَّظر فيه، فيتوقَّف عند فصوله، توقَّف مَنْ يكون وزن طَمَعِه في السَّلامة أنقص من وزنه خوفه مِن العيب)[13].
في الختام لابد مِن كلمات الشُّكر والامتنان لمَنْ أعانني برواية، أو مشورة، أو مصدر، أو معلومة، أو تأكيد رواية، أو سهّل لي طريق الوصول إليها، عند التَّحضير لهذا الكتاب، وهم الأخوة والأصحاب الأفاضل: الأكاديمي الدكتور إبراهيم العاتي، الباحث الشَّيخ أحمد الكاتب، المربي إبراهيم الأعسم، السَّيد جمال عيدان، السَّيد جعفر محمد باقر الصَّدر، السَّيد حازم السَّامرائي، السَّيد حيدر الحيدري، الأكاديمي الدُّكتور سعود المولى، النَّاشط في حقوق الإنسان الطَّبيب صاحب الحكيم، السِّياسي والصَّحافي عبد الرَّزاق الصَّافي، المربي عبد الهادي ثامر، الكاتب والسِّياسي عزيز قادر صمانجي، المجتهد السَّيد علي الأمين، الكاتب والنَّاشط في حقوق الإنسان غانم جواد، الكاتبة والإعلامية غفران يونس، الكاتب والوراق مازن لطيف، الاقتصادي محمود شكارة، الأكاديمي الدكتور محمد علي النَّاصري، الكاتب والصَّحافي مشاري الذايدي، النَّاشط الإسلامي الشَّيخ مشير مصطفى كلالي، والشَّيخ الخطيب منير الطَّريحي. هذا، والشُّكر موصول لمَنْ فاتني تسجيل الشُّكر له بالاسم.
[1] إسماعيل، أيديولوجيا الإسلام السِّياسي والشِّيوعية، ص 21.
[2] سليمان بن صالح الخراشي، مصطلح الإسلام السِّياسي، ثقافة التلبيس، الحلقة: 8 على موقع صيد الفؤائد: http://www.saaid.net/Warathah/Alkharashy/m/55.htm عن محمد عمارة، الإسلام السِّياسي والتَّعددية السِّياسية مِن منظور إسلامي، ص 2– 5.
[3] المصدر نفسه، عن عطية الويشي، حوار الحضارات، ص 210.
[4] الماوردي، الأحكام السُّلطانية، ص 5.
[5] بيروت: دار مدارك 2011.
[6] نجد مثل هذا الإطلاق لدى الباحث سامح محمد إسماعيل في كتابه (أيديولوجيا الإسلام السِّياسي والشِّيوعية دراسة مقارنة)(بيروت: دار السَّاقي ومؤسسة الدِّراسات الفكرية المعاصرة 2010)، فقد قابل بين ظهور الإسلام والخلافة الإسلامية والحركات التي واجهتها، مثل حركة الشُّراة أو الخوارج وغيرها مع الأحزاب الشِّيوعية في العصر الحاضر.
[7] سورة الأنعام، آية: 57، ويوسف، آية 40 و67.
[8] سورة الشورى، آية: 38.
[9] من المعلوم أن العثمانيين الأتراك ليسوا مِنْ قريش، فكيف تعامل المسلمون أو الفقهاء مع خلافتهم بينما الحديث النبوي يقول: (الأئمة من قريش)( النوبختي، فرق الشِّيعة، ص10. الأشعري، مقالات الإسلاميين، ص 8)! ولم يتسع لنا المجال للتحقق من المعلومة التالية، والتي أشارت إلى التبرير العثماني في امتلاك سدة الخلافة: (استولى السُّلطان العثماني سليم الأول على مصر في (1517)، وأجبر المتوكل أمريل حكيم (هكذا وردت) آخر خلفاء العباسيين الذي كان مقيماً هناك، على التَّنازل عن حقوقه بالخلافة، فأصبح سلاطين الإمبراطورية العثمانية منذ ذلك الوقت يحملون لقب خليفة).(آداموف، ولاية البصرة في ماضيها وحاضرها، ص 48 ـ85). حيث ظلت الخلافة العباسية قائمة بمصر شكلياً، في زمن صلاح الدِّين الأيوبي (ت 589 هـ 1193 ميلادية) وحتى الملك الظاهر بيبرس، الذي حاول استعادة العرش العباسي ببغداد، ممثلاً بأمير عباسي.
[10] صمانجي، قطار المعارضة العراقية، ص 564.
[11] ابن خِلِّكان، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان 2 ص 436.
[12] الأنباري، الزَّاهر في معاني كلمات النَّاس، 1 ص 284. والمعنى في البيت الأخير واضح.
[13] الجاحظ، كتاب الحيوان 1 ص 60 – 61.