تقديم
يتناول «تحوّلات بعيون المتحولين: الإسلام السياسي والجهادي في مصر وتونس» (الكتاب الرابع بعد المئة، أغسطس/ آب، 2014) تحوّلات الإسلام السياسي بعد الربيع العربي، مركزاً على كل من مصر وتونس، حيث ظهرت فروق عميقة بين ممارسات الجماعات الإسلامية المختلفة في البلدين. يحاول الكتاب فهم طبيعة التحوّلات وقراءة أسباب تبدل مساراتها.
إن الإسلام السياسي بتنظيماته وفروعه متحوّل ومتغير وفق الظروف المحيطة به. ومنذ نشوئه وهو يتأرجح بين الخطاب الشعبوي والعمل الثوري والمشاركة في السلطة والمواجهة مع المجتمع والدولة والدعوة العالمية والاهتمام بالقضايا المحلية. وهذه ليست مراحل له على خط زمني متصاعد ومتراكم، بقدر ما هي تمثّلات أتت استجابة للواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي في الدول التي ينتشر فيها. وعليه؛ فإنَّ الحديث عن تحوّلات الإسلام السياسي هو في الواقع وصف لشكل من أشكال ممارساته في مرحلة زمنية محددة.
فالممارسة التي نشأت في بداية القرن العشرين مع حسن البنّا، تحوّلت مع مؤسس جماعة الإخوان المسلمين في أربعينيات القرن المنصرم بسبب متغيرات المشهد السياسي المصري. ثم استمر ذلك التحوّل بدءاً من ثورة 23 يوليو (تموز) 1952 ونكسة 1967 والثورة الإسلامية في إيران 1979 مروراً بالغزو الروسي لأفغانستان ونشوء القاعدة، وصولاً إلى الربيع العربي وتعثر تجارب الإسلاميين في السلطة.
انعكست العوامل الإقليمية على أطياف الإسلام السياسي، وفرضت المعطيات الداخلية اختلافاً على مستوى التجارب في كل من: مصر وباكستان والأردن والمغرب العربي والعراق وإيران والسودان وغيرها من الدول. لا تقتصر التحوّلات على الصعيدين الإقليمي والداخلي، فقد أدت هجرة بعض ممثلي الإسلام السياسي للغرب إلى ظهور خطاب سعى إلى التكيف مع البيئة الجديدة. ونشهد في الحقبة الراهنة هجرة معاكسة، حيث بدأت ثمار نمو الإسلام السياسي في الغرب تعود إلينا ممثلة بالمقاتلين الغربيين الذين ينضمون إلى التنظيم الإرهابي «داعش». ويجب أن لا نغفل عن التحوّلات الأيديولوجية الناشئة عن المراجعات التي أجراها بعض تنظيمات الإسلام السياسي على مراحل متفاوتة، إلى جانب التحالفات العلنية والمضمرة مع التيارات السلفية على الرغم من تناقض الأجندات، مما أدى إلى تبلور مسارات متداخلة ضمن اتجاهات الإسلام السياسي.
يُقصد بالحديث عن تحوّلات الإسلام السياسي: التحوّلات في الممارسة بفعل ضغوط ميدان الصراع وما تحتمه من تبدلات فكرية. غير أن الإسلام السياسي في خطوطه العريضة والاستراتيجية ما زال كما هو ولم يتغير؛ فالتحوّلات لم تطل في جوهرها فكره الانقلابي والهيكل الأيديولوجي الذي تأسس عليه. فثمة إيمان لدى الإسلاميين السياسيين بالفكرة المركزية التي قام عليها في الأصل، وهي الحلم بإحياء الخلافة الإسلامية التي تطبق الشريعة وتتبع الأنموذج السياسي المثالي لعصر النبوة وجيل الصحابة. إلى ذلك يؤمن الإسلام السياسي بضرورة وجود طليعة تعمل على تحقيق هذا الهدف المركزي عبر الطرق المنظمة والذهنية الثورية، مما يقتضي التضحية بالمال والنفس واللجوء إلى العنف ضد من يقف أمام هذا المشروع، سواء في الدولة أم المجتمع. ومن الثوابت الفكرية التي يعتمد عليها الإسلاميون مقولة أن الغرب يريد القضاء على الإسلام، وأنه يتآمر عليه بشكل دائم، وأن الحدود السيادية المعاصرة ما هي إلا نتيجة من نتائج ذلك التآمر. طبعاً تلاشت هذه الأفكار التي تقسم العالم إلى فسطاطين إبان وصول ممثلي الإسلام السياسي إلى الحكم في عدد من الدول العربية، حيث سيطرت المصلحة السياسية على الأيديولوجية الإسلاموية.
إن بعض تحوّلات الإسلام السياسي راهناً تأتّت من متغيرات حصلت في السنوات الأخيرة، لا سيما إثر متغيرين أساسيين: الحراك الاحتجاجي في دول الربيع العربي، وثورة 30 يونيو (حزيران). فمن العوامل المهمة المؤثرة في التحوّلات التي خبرها إسلاميو مصر وتونس، يمكن رصد كيفية تدرج جماعة الإخوان المسلمين في مصر لتصبح حركة ذات طبيعة عقدية متطرفة، تسيطر على قرارها السياسي مجموعة من القطبيين الذين يدعون إلى تشكيل تنظيم صلب يسعى إلى إرساء سياسات التمكين في الدولة والمجتمع، في سبيل إحياء الدولة الإسلامية والخلافة الإسلامية وأستاذية العالم. وعلى الجانب الآخر غلب على حركة النهضة في تونس نهج براغماتي يحاول أن يظهر نفسه بأنه منفتح على الواقع ومتجاوب معه. ولعل هذا المعطى يفسر أسباب التباين بين الحركتين الإسلاميتين كنتيجة للتعاطي مع الواقع السياسي. حيث أصر الإخوان على التمسك بالسلطة والاستئثار بها، في حين خرجت النهضة من السلطة استجابة للضغوط الإقليمية والداخلية. أصرت الإخوانية المصرية على تطبيق حكم الشريعة الإسلامية، بينما تجنب النهضويون ذلك تماماً لإدراكهم طبيعة المجتمع التونسي من جهة، ومدى تجذر الإرث البورقيبي من جهة أخرى.
تشكل محاولة قراءة وتحليل تحوّلات الإسلام السياسي في هذه الفترة الحرجة تحدياً أمام الباحثين والمهتمين بشؤون الحركات الإسلامية؛ ومرد التحدي يرتبط بالواقع المتحرك والمتبدل ضمن ظروف غير مستقرة، ونكاد نقول: استثنائية. وعلى الرغم من هذه الصعوبات فمن الأهمية تدارك سبل التعاطي مع التحوّلات التي يمرّ بها الإسلام السياسي في المنطقة العربية، وهذا ما يحاول الكتاب الإجابة عنه، فهو يتضمن دراسات لمجموعة من الإسلاميين السابقين الذين كانت لهم تجارب ضمن أطياف الإسلام السياسي.
في الختام يتوجه مركز المسبار بالشكر لكل الباحثين المشاركين في الكتاب، ويخص بالذكر الزميلين: عمر البشير الترابي، وماهر فرغلي، اللذين نسقا العدد، ونأمل أن ترضيكم ثمرة جهودهما وفريق العمل.
رئيس التحرير
أغسطس (آب) 2015
شاهد فهرس الكتاب