تقديم
يتحدر المسلمون في أوروبا من أعراق وثقافات وإثنيات وقوميات مختلفة. ليس من السهل إدارة هذا التنوّع الإسلامي إذا أخذنا بالاعتبار الفوارق الثقافية والإثنية والدينية. ومما يُعقد صعوبة هذا المشهد الجديد الشعور بالاغتراب لدى الأجيال الجديدة من المسلمين، وتنامي الظاهرة الإسلاموية لدى شريحة منهم، تنظر إلى العالم برؤية مختلفة عن نظرة الآباء المهاجرين. وقد عزز تصاعد موجة الإسلاموفوبيا (رهاب الإسلام) الشعور بالاغتراب، خصوصاً أنَّ الإرهاب جعل الجاليات المسلمة ضمن دائرة الاتهام الضمني.
يأتي كتاب «الإسلام في أوروبا: إشكاليات الاندماج وتحديات الإرهاب» (الكتاب الثاني عشر بعد المئة، أبريل (نيسان) 2016) في ضوء حدثين إرهابيين شكلا صدمة للرأي العام العالمي: الأول: الأحداث الإرهابية التي تعرضت لها باريس (2015)، والثاني: هجمات بروكسل (2016) عاصمة الاتحاد الأوروبي، وما نتج عنهما من سقوط عدد لا يستهان به من الضحايا.
تطرق الباحثون إلى موضوعات على علاقة بمستويات مختلفة: ثقافية وسياسية واجتماعية. فتناولوا: «أوروبا ومسلموها وقواعد التأسيس»، «الإمامة في أوروبا الغربية»، «التحليل التاريخي المقارن لتقاليد البلدان الأوروبية المعنية بوجود الإسلام»، «الإسلام ومؤسساته في أوروبا»، «تدريس الدين الإسلامي»، «الهجرة إلى الاتحاد الأوروبي»، «السلفيون والإخوان المسلمون في أوروبا»، و«الشخصيات الإسلامية المؤثرة في أوروبا». أفرد الكتاب أربع دراسات للإسلام في فرنسا: «هل يوجد إسلام أوروبي؟ فرنساً أنموذجاً»، «الإسلاموفوبيا في فرنسا»، «مكافحة الإرهاب في فرنسا»، و«الهجرة ما بعد التفجيرات والحروب في الشرق الأوسط». ينبثق هذا الاهتمام بالمسلمين في فرنسا من خصوصية نظام الفصل بين الدين والدولة على الطريقة الفرنسية، علاوة على أنها أهم بلد يتمركز فيه المسلمون، إذ يشكلون حوالي (10%) من مجموع السكان.
أصبح فهم المسلمين في أوروبا أمراً ملحاً من أجل تحقيق اندماجٍ اقتصادي وسياسي وثقافي في المجتمعات الأوروبية، يقترن بتطوير خطاب ديني عقلاني تنويري، يؤسس لتصور مستنير حول الإسلام، وهذا ما دعا إليه عدد من المفكرين الفرنسيين من أصول عربية بينهم المفكر الفرنسي– الجزائري مالك شبل مؤسس فكرة «إسلام الأنوار». ولا يمكن مواجهة هذه العقبات ما لم تُقدِم الحكومات الأوروبية على توفير الآليات الناجعة لبناء المواطنة الكاملة لأبناء المهاجرين، عبر تحسين ظروف حياتهم الاجتماعية، وتأمين سبل الانخراط السياسي بشكل يمكنهم من الانضواء في الأطياف السياسية الأوروبية. ولكنْ ثمة تحدٍّ ماثل أمام الاندماج مرده تزايد أعداد المهاجرين الهاربين من الحروب في الشرق الأوسط في الآونة الأخيرة، وتمسك شريحة واسعة من الأحزاب اليمينية الأوروبية بمواقف سلبية إزاء مسألة الهجرة، فتصاعدت الإسلاموفوبيا ومؤشرات العداء للإسلام في موازاة أزمة اقتصادية تعاني منها الدول الأوروبية، مما يضغط على الوظائف والخدمات العامة.
إن خطاب الكراهية ضد المسلمين أصبح أرضية يعتمد عليها قادة اليمين المتطرف في أوروبا، الذين يستندون في برامجهم الانتخابية إلى تعميم ثقافة الخوف من الإسلام. ينعكس هذا كله سلباً على المسلمين المهاجرين، معززاً شعورهم بالاغتراب والعزلة في حلقة مفرغة وخطرة. والحال، فإنَّ فهم المسلمين في أوروبا لا يمكن فصله عن الإسلاموفوبيا كظاهرة معقدة، متعددة الجوانب وذات جذور اقتصادية وثقافية وسياسية. ومن المهم القول: إن الاهتمام باندماج المسلمين الأوروبيين في مجتمعاتهم، يقترن بتزايد الاهتمام بمختلف أشكال العنف الديني التي تُقترف باسم الإسلام، مما يُعقّد بشكل بالغ محاولات الإدراك كافة، لأنَّ طبيعة مكافحة الإرهاب تُختزل في قضية أمنيّة بحتة، فيحتل المنظور الأمني الأولوية ويتم تجاوز المعطيات الأخرى الأشد تعقيداً. ومع ضرورة الإقرار باندماج أعداد كبيرة من المسلمين في القيم والثقافة الأوروبيتين، من الأهمية بمكان اتخاذ الإجراءات اللازمة تجاه الجيل الثاني، خصوصاً ما يتعلق بالتهميش الاقتصادي والاجتماعي، في سبيل الحد من انخراط بعضهم في صفوف التيارات الراديكالية والتكفيرية. والحال، لا بد من النظر إلى قضية المسلمين في أوروبا نظرة شاملة وليس مجرد اختزالها بالعامل الأمني أو التهديد الديموغرافي.
ثمة عامل آخر يضاعف من تعقيد محاولات الاندماج، ويتمثل بانتشار جماعات الإسلام السياسي في أوروبا، التي عززت شرعيتها على أنقاض معطيات التهميش التي يعاني منها المسلمون المهاجرون. إلى ذلك، فإنَّ هذه الجماعات تجد في الاندماج الطبيعي للمسلمين تهديداً بالغاً لها؛ كونه يُلغي الحاجة إليها ويُقلل من قدرتها على التغلغل والتعبئة لقضاياها.
تاريخياً، تمكنت الحركات الإسلامية التي واجهت حصاراً قاسياً في دولها الأصلية من بناء شبكة قوية في أوروبا، عبر إنشاء المنظمات الإسلامية، والمراكز الثقافية والبحثية، والمنظمات غير الحكومية، إلى جانب شبكة «مستقلّة» من الأفراد، والدعاة، والأكاديميين، والناشطين، والصحافيين.
لا ترتبط التحديات التي تعترض المسلمين الأوروبيين بجماعات الإسلام السياسي فحسب، فثمة بعض الأئمة في أوروبا يتبنى خطاباً متطرفاً تجاه القيم الغربية –لا سيما العلمانية- ولديهم تأثير على شرائح مسلمة واسعة، مما يسهم في إحداث قطيعة نفسية واجتماعية مع المحيط الأوروبي. ينشط عديد من الأئمة في أوروبا في مبادرات الحوار بين الأديان والثقافات، غير أن بعضهم يخشى على نفوذه الديني فيتحاشى سياسات الانفتاح؛ وهذا ينتج معضلة أخرى.
كل ما سبق من قضايا مرتبطة بإشكاليات الاندماج والإرهاب الإسلاموي وتنامي رهاب الإسلام ونفوذ حركات الإسلام السياسي، والهجرة من الشرق الأوسط الرهيب، تُعد من أبرز المعضلات التي تواجه أوروبا اليوم -تحديداً- إثر موجات اللجوء الأكبر منذ الحرب العالمية الثانية تجاه القارة العجوز، والتفجيرات الإرهابية التي طالت أكثر من دولة. لقد عمل الكتّاب المتخصصون في الإسلام الأوروبي على فهم وتحليل التحديات الماثلة أمام المسلمين والمجتمعات الأوروبية بتعدديتها الدينية والثقافية.
في الختام يتوجه مركز المسبار بالشكر لكل الباحثين المشاركين في الكتاب، ويخص بالذكر الزميل محمد الحدّاد والزميلة ريتا فرج، اللذين نسّقا العدد، ونأمل أن ترضيكم ثمرة جهودهما وفريق العمل.
رئيس التحرير
أبريل (نيسان) 2016