تثير تجربة الحركة الإسلامية في المغرب الاهتمام من عدة نواح، فهي من بين الحركات المماثلة القليلة التي كان لها نصيب في المعترك السياسي، وأصبح لها رصيد في الحياة العامة، التشريعية والتنفيذية، على عكس العديد من نظيراتها التي لم تستطع -لعوامل ذاتية أو خارجة عنها- تحقيق ذلك. ثم إن تلك الحركة تميزت أيضا بتنوعها الحركي والفكري، الأمر الذي صبغ تجربتها بالعديد من التحالفات والانشقاقات، كما أثرى تلك التجربة بإنتاج نظري غزير. وتتميز الحركة الإسلامية المغربية أيضا بقدر كبير من “المحلية”، خصوصا على مستوى الممارسة، والتي وفرت لها مساحة محترمة من الخصوصية، فلا هي تأثرت جذرياً بما يجري في محيطها الإقليمي، ولا شرعت في مد طموحاتها -عمليا- إلى خارج حدود مجالها الجغرافي، وإن كان فكرها العام يتسم بـ “العالمية” و”الأممية”، كغيرها من الحركات الإسلامية.
ولأن الدراسات المشرقية الجادة والرصينة للحركة الإسلامية بالمغرب تكاد أن تغيب، يأتي هذا العدد من كتاب المسبار الشهري حول تلك الحركة، بمختلف أطيافها وتشكلاتها، وذلك مواكبة لنتائج الانتخابات البرلمانية التي شهدتها المملكة المغربية في سبتمبر/ أيلول 2007، والتي غلب التوقع بفوز حزب العدالة والتنمية بالمركز الأول فيها، وهو ما لم يتحقق.
لقد نشأت الحركة الإسلامية بالمغرب داخل مسار الصحوة الإسلامية في أوائل السبعينيات، حيث تأسست الشبيبة الإسلامية في عام 1969 ورُخصت في عام 1972، وخرج من عباءتها عدد من التنظيمات، منها ما انضوى في العملية السياسية، ومنها ما اتخذ موقفا انقلابيا معارضا. وفي ورقة بانورامية تحليلية، يسعى الباحث البشير المتاقي إلى سبر غور الخريطة المعرفية والتاريخية لتلك الحركات، في دراسته تحت عنوان “الحركة الإسلامية في المغرب: تعدد تنظيمي ومسارات سياسية”، حيث يرصد بدقة بدايات التشكل، ومسارات الانشقاق والتحالف، ومعضلات استيعاب السياسي بالخصوص في فكر أطياف الحركة الإسلامية في المغرب.
وفي محاولة تشريحية للمشروع الحضاري للحركة الإسلامية المغربية، يقرأ الدكتور محمد الغرضوف مفاهيم ذلك المشروع المركزية، ومنطلقاته الفكرية، ونظرية العمل لدى أطيافه المتعددة، معتمدا منهجا مقارنا عند تعرضه لخصوصية كلٍ من فصائل تلك الحركة، من أجل فهم أسباب التنوع ومناط الاختلاف، كما لا يغفل المقاربة النسقية التي تتناول الحركة الإسلامية في المغرب كجسم واحد. وحدد الباحث أدواته في تناول المنطلق التاريخي أو فقه التاريخ، ثم الفقه العقدي لدى كل من هذه الفصائل، ليبحث عن تطبيقاتها في “خارطة الطريق” لطرح مشاريعها من خلال رؤاها السياسية والاقتصادية والاجتماعية…
ويبحث الدكتور المصطفى تاج الدين في دراسة بعنوان “مفهوم الدولة وتطبيق الشريعة لدى حركة التوحيد والإصلاح” في الاتجاهات التي سعت إليها الحركات الإسلامية للبحث عن مشروعية توفر لها مبرر وجودها داخل مجتمعات إسلامية أصلا، وهي الاتجاه التاريخي، والاتجاه الديني السلفي، والاتجاه الاجتماعي الثوري، ثم الاتجاه الجهادي الأممي. وبتطبيق ذلك على نموذج “التوحيد والإصلاح”، يخلص الدكتور تاج الدين إلى أن هدف العمل السياسي لدى تلك الحركة ينطوي -داخليا- على ضرورة تطبيق الشريعة، والتي سينصلح بها حال الأمة، أما الهدف الخارجي فهو استثمار إمكانات الدولة المادية، وربما العسكرية، للوقوف إلى جانب المسلمين ومناصرتهم في دول أخرى.
ويطرح مصطفى تاج الدين سؤالا ملحا على أذهان الكثير من النخب، ويسعى -في سياق بحثه- للإجابة عليه هو: ما هو الموقف الشرعي في السياسة؟ كيف يكون التحالف السياسي مع حزب أو المطالبة بانتخابات أو تسيير بلدية في منطقة ما موقفا شرعيا؟ ثم ما هذا الشرع الذي سيؤسس عليه الموقف: أهو القرآن والسنة؟ أم هو التأويل المقاصدي الذي ما فتيء منظرو حركة التوحيد يؤسسون له ويبرعون في التأليف فيه؟
وفي مسعى مكمل، يبحث الدكتور جمال بامي في إشكالية الهوية والمرجعية عند الحركة الإسلامية المغربية، معتمدا في دراسته التحليلية النقدية منهج التفكيك والتركيب، حيث يتناول الدكتور بامي الموضوع من زاويتين: فلسفية، وتاريخية اجتماعية، ويلحظ -ضمن ما يلحظ- أن من خصائص تلك الحركة، حضور فكر الحركات الإسلامية المشرقية لديها، وخصوصا فكر الإخوان المسلمين، وفي المقابل يلحظ غيابا شبه مطلق للفكر المغربي، مما يفرض سؤالا مشروعا حول مدى تجذر هذه الحركات فكريا وموضوعيا في سيرورة تطور الفكر المغربي.
أما العلاقة بين “السياسي” و”الدعوي” في واقع الحركة الإسلامية المغربية، فتناولها الباحث عبد السلام الطويل في دراسة ضافية، متخذا من حزب العدالة والتنمية، وحركة التوحيد والإصلاح نموذجا لكل من الحزبي/ السياسي، والحركي/ الدعوي. ويسلط الطويل الضوء على مدى التداخل بين المفهومين، وما ينتج عن ذلك من مشاكل ومزالق من شأنها أن تخل بالاستقلال الموضوعي والوظيفي بين حقل السياسة وحقل الدعوة. فما أن يبدأ “الحزب الإسلامي” العمل من داخل السلطة بمصالحها وعناصر غوايتها وبريق نفوذها، حتى يبدأ التوتر بين منطق الدعوة ومنطق السياسة، على شكل صراع داخلي في ذوات الفاعلين السياسيين الإسلاميين، الذين انتقلوا فجأة من “طهرية” الدعوة، إلى “صراع” السياسة و”دناستها”.
وغير بعيد عن هذا السياق، ناقش الدكتور امحمد المالكي مفهومي “الديموقراطية والمواطنة” عند جماعة العدل والإحسان، من خلال دراسة في خطاب شيخها عبد السلام ياسين، والذي تمحور في مقاربته للمفهومين على قضية العلمانية، التي اكتست اسم “اللائكية” في كل كتابات الشيخ المؤسس، حيث اتهم الديموقراطية بأنها فصلت الدين عن الدولة، وأرجعت أمورها للإنسان دون خالقه، ومن ثم أصبح لزاما على جماعة المسلمين الابتعاد عنها شكلا وروحا. ويخلص الدكتور المالكي إلى أن مفهومي “الديموقراطية” و”المواطنة”، وافدان على المجال التاريخي والحضاري لجماعة العدل والإحسان، ولكنهما يظلان في التحليل الأخير، وأيا كانت سخونة القضايا التي تتعلق بهما، غير قابلين للإدماج.
وتأتي دراسة مصطفى أكوتي بعنوان “حركة الإصلاح والتجديد: البناء التنظيمي بين الخطيب والتكنوقراط” حيث يركز على بعد مهمل في دراسات الحركات الإسلامية المعاصرة، وهو بعد البناء التنظيمي، والذي لم يحظ بالدراسة الكافية. ويتناول مصطفى البناء التنظيمي لحركة التوحيد والإصلاح من خلال تحليله لصراع نموذجين داخلها، هما نموذج الخطيب ونموذج التكنوقراط، والذي يتسم كل منهما بسماته الخاصة، حيث رصد -بعد تحليله لسمات كل منهما- الاحتكاك الخفي والمعلن بين نموذج الخطيب ونموذج التكنوقراط؛ كما لم يغفل أن التفاعل السطحي بينهما أدى إلى حالة عامة قادت إلى تراجع الفاعلية الفكرية للحركة، وهو ما فطنت إليه الحركة أخيرا.
وفي رصد للعلاقة بين كل من الحركة الإسلامية والحركة الأمازيغية، تناول الدكتور مصطفى الخلفي في دراسة بعنوان “الإسلاميون المغاربة والمسألة الأمازيغية” مسار تلك العلاقة، والتي تمثل -من منظوره- أحد مداخل دراسة مستقبل الملف الأمازيغي بالمغرب ككل، كما أنها تعد مدخلا تحليليا أساسيا في فهم مسألة التدافع الثقافي والاجتماعي الراهن في المغرب، خصوصا وأن تلك العلاقة تطورت ضمن ثلاث مراحل كبرى: مرحلة التوجس والترقب المتبادل، مرورا بمرحلة حوار وتعايش، وصولا إلى مرحلة مفاصلة وتمايز.
أما دراسة العدد المستقلة، للدكتور محمد عبد السلام، فتتناول زاوية ندر البحث فيها بعمق عند تناول تنظيم “القاعدة” -على كثرة الدراسات التي تصدر عن التنظيم- تلك هي زاوية التفكير العسكري لدى مؤسس التنظيم ومموله أسامة بن لادن. فلا شك أن العمليات التي ينفذها هذا التنظيم، أو ما تفرع عنه من جماعات متفرقة لا ترتبط به -تنظيميا- بالضرورة، تحتاج إلى بحثها من زاوية عملياتية/ عسكرية، ترتبط بطبيعة الحال بهيكيلة التنظيم وطريقة عمله، بينما تُقارَن بخبرات حركات وجماعات إرهابية أخرى، وهذا ما حاول الدكتور عبد السلام استجلاءه في هذه الدراسة الوافية.
ويضم الكتاب قراءة في كتابين من أهم ما صدر في الساحة المغربية في العامين الأخيرين، وهما كتاب “الحكومة الملتحية: دراسة نقدية مستقبلية” للدكتور عبد الكبير العلوي المدغري، الوزير السابق في النظام المغربي، وأعدت قراءته هيئة التحرير، وكتاب “الأخطاء الستة للحركة الإسلامية بالمغرب” للدكتور فريد الأنصاري، القيادي والداعية الإسلامي المعروف، وقام بقراءته محمد حسن الشريف.
ويرجو مركز المسبار للدراسات والبحوث، أن يكون هذا العدد العاشر من كتابه الشهري، لبنة أولى في تسليط الضوء على الحركة الإسلامية في المغرب، والتي تحتاج إلى المزيد من البحث، كونها تتمتع بخصوصية على صعيدي التأصيل المعرفي والحركي في آن معا.