جماعة الإخوان المسلمين، هي واحدة من أقدم التنظيمات الإسلامية العصرية، والتي نشأت -ضمن ما نشأ ذلك الحين- في خضم معارك النهضة وأسئلة التنوير، والبحث عن الهوية، والكفاح من أجل الاستقلال. ولأنها ظلت مع ذلك تتعامل مع كل المتغيرات التي طالت الجغرافيا والزمن، ولأنها نالها ما نال غيرها من تغيرات ومناورات وامتدادات وتقلصات وانشقاقات؛ إلا أنها تظل رقماً فاعلا في معادلة الحركات الإسلامية الحديثة، لا يمكن استبعاده أو تجاهله، أو -حتى- تهميشه؛ خصوصا وأن الجماعة ينظر إليها على نطاق واسع على أنها مهد التنظيمات الإسلامية المتطرفة، والحاضنة الفكرية الأقدم لما بات يعرف بالإسلام الراديكالي.
بالنظر إلى الأسباب السابقة وغيرها، كان توجه هيئة التحرير في كتاب المسبار الشهري، لتخصيص عددين اثنين لجماعة الإخوان المسلمين. الأول -وهو ما بين أيديكم- يعنى بالتأسيس. وليس المقصود هنا هو الرصد التاريخي لنشأة الجماعة، على ما لذلك من أهمية لم نستبعدها، ولكن كل ما له صلة بتأصيل إنتاج الإخوان، إن على مستوى التنظيم والحركة، أو على مستوى المفاهيم، أو على مستوى مواجهة المتغيرات والمستجدات، والثاني -وهو ما سيصدر في بداية الشهر المقبل- يعنى بالحالة الراهنة لجماعة الإخوان المسلمين، ويرصد ما طرأ عليها من تغيرات عبر مسيرتها الطويلة، وما خرج عنها من تنظيمات، ومدى مواكبتها -من عدمه- لتحديات وأسئلة القرن الواحد والعشرين.
في هذا العدد رصد د. رفعت السعيد البيئة التي نشأت فيها جماعة الإخوان المسلمين، مسلطا الضوء على شخصية مؤسسها الشيخ حسن البنا. وفي بناء بانورامي يأخذنا السعيد منذ البدايات، حيث كانت معركة التنوير في ذروتها، فيطرح السجالات التي احتدمت بين طرفي تلك المعركة، من رموز النهضة والحداثة والعقل في جانب، ورموز التقليد والتراث والمحافظة والنقل في الجانب المقابل، ويلقي الضوء على القضايا الجدلية التي كانت محل النزاع، ليهيئ لظروف التكوين الأولى للإخوان. ولا يكتفي رفعت السعيد برصد نشوء الحركة تنظيميا، بل يقدم قراءة تحليلية لخطاب المؤسسين الأوائل، ثم يرصد علاقة الشيخ حسن البنا بالإخون وهي علاقة عضوية في رأي الكاتب ذلك أن: “مجرد محاولة فصل الرجل عن الجماعة تشبه محاولة الجراح استخدام مشرطه بين عضلتين في عضو واحد”.
ثم حاول الدكتور رفعت أن يرصد ويحلل الأسئلة الكبرى لدى الجماعة، كالعلاقة بين الدعوي والسياسي، ليدلف منها لعلاقات البنا -والإخوان بالطبع- بالحكم (القصر) والقوى الفاعلة في ذلك الوقت (الإنجليز- الألمان- الإيطاليون) أو تلك القادمة إلى المنطقة حينئذ (الأميركان). ثم يفرد مبحثا مهما عن تورط الإخوان في موجة الاغتيالات السياسية التي اجتاحت مصر في النصف الثاني من الأربعينيات، والذراع السرية (النظام الخاص) الذي نفذها، ويشرح بتعمق ملابسات اغتيال الشيخ المؤسس، وكيفية مناورة الجماعة في سبيل البقاء فيما بعد رحيله.
وفي مناقشة مستفيضة حول “مفهوم الدولة” ونظام الحكم لدى الإخوان المسلمين، قدم علاء النادي ورقة يعرض فيها لتأسيس هذا المفهوم لدى الجماعة من خلال طرح الشيخ حسن البنا، والتمايز أو التعارض الذي ظهر فيما بعد في كتابات سيد قطب، ففي حين يولي البنا عناية قلقة لشأن الدولة الوطنية، والتي تبقى دائما كمعادل موضوعي للخلافة، يقطع قطب كل صلة بتلك الدولة، ليحاول استبدالها أو استنساخها من الدولة الإسلامية التراثية بشكل حرفي. ولا شك أن سؤال الدولة الوطنية والخلافة كان أحد السجالات التي رافقت تأسيس الجماعة، ويخلص النادي إلى أن شكل الدولة الإسلامية الذي طرحه البنا، وعرض له الباحث بالتفصيل، لا يزال في كلياته ومنهجيته هو المتحكم بتصورات الإخوان المسلمين.
أما دراسة هاني نسيرة بعنوان “سيد قطب: من التخييل إلى التأويل”، رصد فيها الباحث محاولات التحول أو الخروج الأولى عن نسق الإخوان ونهجهم كما خطه المؤسس البنا، وكيف تمثل تأسيس هذا الخروج في سيد قطب الذي يعتبر أحد رموز الراديكالية الإسلامية، بل يعده البعض مؤسس تلك الراديكالية الإسلامية الحديثة. كيف تحول قطب، خريج دار العلوم، والأديب والشاعر، إلى الفكر الإسلامي، وكيف كان هذا التحول مقدمة لتحول جذري آخر مهد الطريق للخروجات والانشقاقات عن جماعة الإخوان منذ الستينيات؟ هذا ما يجيب عنه نسيرة من خلال رحلة عميقة في مراحل التحول تلك لدى سيد قطب.
ولئن كانت علاقة الإخوان وحسن البنا بالقصر قد أجلاها د. رفعت السعيد في دراسته، فإن أحمد عبد الحفيظ يكشف الغطاء عن علاقة أخرى لا تقل أهمية عن سابقتها، تلك هي قصة الإخوان مع ثورة يوليو، وتعاطيهم بشكل خاص مع مرحلتها الأولى (فترة حكم عبد الناصر)، وكذا تعاطي نظام يوليو مع رموز الإخوان. ويرصد عبد الحفيظ أن تلك العلاقة اتسمت في بداياتها بمرحلة وفاق وصفه بالغامض، تلتها مرحلة صدام أريقت في أثنائها الدماء. وعلى قصر المرحلة الأولى، وطول الثانية -نسبيا- يحاول الباحث الإجابة عن سؤال كان دائما مطروحا: من حاول احتواء الآخر، الإخوان أم الثورة؟ وهل حُسم الصراع؟
هذا السؤال يقود إلى سؤال آخر: هل يمكن دمج الإخوان في العملية السياسية؟ وهل يدخل الإخوانيون في شراكة سياسية يتبادلون الحكم من خلالها مع قوى وأحزاب سياسية أخرى؟ هذا ما حاول د. عمرو الشوبكي الإجابة عنه، من خلال رصد العلاقة بين الديني والسياسي في فكر الإخوان، ثم تتبع علاقة الجماعة مع السلطة السياسية منذ تأسيسها وحتى الآن، راصدا كيف أن هذه العلاقة شائكة، لكنه يطرح تصورا لعلاقة مستقبلية بين الإخوان والحكم، مبنيا على أنه لا يمكن إلغاء أحد الطرفين، في الوقت الذي يستحيل استمرار الخيار الأمني في مواجهة خيارات عنف محتملة.
وفي قراءة نقدية لمسار وأفكار الإخوان المسلمين، قدم د. أسد أحمد مصطفى ورقة يعرض من خلالها مواقفهم تجاه أسئلة يعتبرها ما تزال معلقة، كمسألة احتكار الإسلام، والعلاقة بين الدين والدولة، والإخوان والقوى الغربية، والتكفير والعنف المادي، وكذا قضايا كالتسامح السياسي والفكري، الذي هو صلب الثقافة الديموقراطية، ويعتبر مصطفى أن: “خطاب الإخوان، وصبغته الدينية، وشعاره الاختزالي والاحتكاري للإسلام، يمثل مشكلة في التمكين للتسامح كقبول لحق الاختلاف، والاعتراف في خطاب وممارسة الجماعة، التي لا تتأكد شعبيتها إلا على حبال الصراع مع الآخر البعيد”.
أما عن موقف الإخوان المسلمين من العنف، ومن الآخر “غير المسلم”، فيناقشهما عبد الرحيم علي، كل على حدة، حيث يناقش في الأول الجدل الدائر في أوساط المؤرخين حول منهج العنف لدى الجماعة، وداخل الإخوان أنفسهم بين من ينفي بشدة أي صلة للجماعة بالإرهاب، وبين من يسوغ له ويبرره. وفي البحث الثاني يناقش عبد الرحيم فتاوى الإخوان المتعلقة بحرية الاعتقاد، وموقفهم من غير المسلمين فيما يتعلق بالعيش المشترك وحقوق المواطنة بما فيها السياسية.
وفي دراسة بعنوان “الإخوان وثمن الخروج عن النص”، يبحث قطب العربي حقيقة موقف الإخوان المسلمين من العنف، من خلال مناهجهم الفكرية وممارستهم العملية، ومواقفهم من حركات العنف الأخرى، سواء أكانت داخل مصر أم خارجها، وموقف الآخرين منهم، ومحاولة استشراف مستقبل العلاقة بين الجماعة والحكم في مصر.
وعن موقف الإخوان من المرأة، أعدت هبة يحيى وشروق عبد الرحمن ورقة تضمنت عددا من الأسئلة في هذا السياق، تتناول رؤية الإخوان من خلال فتاوى إصدارها الثاني من مجلة “الدعوة”، فيما يتعلق، على سبيل المثال، بحق المرأة في تقلد المناصب القيادية، وختان الفتيات، وتنظيم الأسرة، وزينة المرأة.
أما دراسة العدد المستقلة: “معالم في طريق استعادة الوعي”، والتي كتبها يحيى اليحياوي، فتطرح المعضلة القديمة المتجددة حول سؤال النهضة والهوية، من زاوية الوعي، والذي يظل السؤال حوله مفتوحاً على المستقبل، مشدوداً إلى الماضي، مع رصده لحالة التشظي الكبير الذي يعرفه المشهد العربي الراهن، وطبيعة “الفوضى الخلاقة” التي أفرزتها ظاهرة العولمة، والتي قد تنعكس على المشهد العربي لجهة تفتيت المنطقة على أسس مذهبية أو دينية أو عرقية.
وفي عرضنا لكتاب العدد، نقرأ لحسام تمام: “تحولات الإخوان المسلمين: تفكك الإيديولوجيا ونهاية التنظيم” والذي يرصد تلك التحولات الكبرى التي تقف على أعتابها جماعة الإخوان، وتعاني -في رأيه- مخاضا مكتوما. وتأتي أهمية الكتاب في أن مؤلفه -حسام تمام- يرصد هذه التحولات من داخل الجماعة، وليس فقط كمراقب من الخارج.
إن مركز المسبار للدراسات والبحوث، وهو يختتم عامه الأول، بهذا الجزء الأول عن الإخوان المسلمين، ليرجو أن تكتمل الفائدة، مع إصدار العدد الثاني، والذي نفتتح به عامنا الثاني، بعنوان: “الإخوان المسلمون – التحديات”، حيث يتناول كيفية تعاطي الجماعة مع القضايا والمفاهيم العصرية، وما خرج أو انشق عنها من منظمات، ومدى ارتباطها بالجماعات والتنظيمات الأخرى.