بعد أن خصصنا الكتاب الثاني عشر من كتاب المسبار الشهري لمخاضات تأسيس جماعة الإخوان المسلمين، وعرضنا للبيئة السياسية والثقافية والاجتماعية التي ازدهرت فيها وتشعبت بسرعة كبيرة، وكذا لجهود الجماعة في تأسيس قاعدة جماهيرية وذراع عسكري، وما ترتب على ذلك من مواجهات بينها وبين السلطة انتهت إلى إلغاء أنشطتها قانونيا، خصصنا الكتاب الثالث عشر، والذي نفتتح به عامنا الثاني، للإجابة عن أسئلة التحديات التي تواجه جماعة الإخوان المسلمين، في بدايات القرن الحادي والعشرين.
يواجه الجيل الثالث من جماعة الإخوان المسلمين رهانات كبيرة، لا تقل عن تلك التي خاضها المؤسسون في العقد الثالث من القرن الماضي، وما تلاه. وتظل مضامين هذه الرهانات متشابهة إلى حد كبير، إلا من اختلاف المسميات والأدوات. وربما أكبر هذه التحديات هو علاقة الجماعة بالسلطة القائمة، وهذا ينسحب بالتالي على هوية الجماعة التي لا تزال موضع خلاف منذ نشأتها، بين كونها جمعية دينية دعوية أخلاقية بحتة، أو كونها جماعة سياسية مصلحية تسعى إلى تطبيق منهجها الديني عبر الإمساك بتلابيب السلطة و الاستحواذ عليها؛ والمسافة بين هذين العنوانين -الدعوي والسياسي- تنطوي على كثير من التفاصيل، التي لا بد وأنها شغلت القائمين على الجماعة عبر أجيالها المتعاقبة، كما شغلت -بالتأكيد- الأطراف المعنية بها، وانعكست على أداء كل جانب، فعلا ورد فعل.
ويعتبر التحدي الأكبر الذي يواجه الإخوان المسلمين، والسلطة الحاكمة في الوقت نفسه، هو انخراط تلك الجماعة في العملية السياسية، عبر إنشاء حزب سياسي، فهل ينشئ الإخوان حزبهم؟ هذا السؤال طرحه أحمد يوسف ليحاول الإجابة عنه في ورقة تستعرض فكر الإخوان في هذا المجال، وما إذا كانت عقيدتهم تسمح بتناوب سلمي للسلطة، يتخلون بموجبه عن الحكم، إذا ما وصلوا إليه، وينتظمون في صفوف المعارضة، على أن تكون تلك المعارضة ذات صفة شرعية وقانونية
ثم يتناول الباحث محاولات أجنحة من الجماعة لإنشاء حزب سياسي، وتعارض المواقف بين زعمائها، ويعرض للجدل الفقهي الذي دار على صفحات مجلتهم “الدعوة” في إصدارها الثاني.
لقد حاول الإخوان تكريس شعار يملك ناصيتي الديني والسياسي، ويجد صداه لدى الشارع الذي يخاطبه، وهو شعار “الإسلام هو الحل”، لكن هذا الشعار مع ذلك واجه اشكالات نظرية وتطبيقية، مثلما يطرح محمد فايز فرحات في دراسته، حيث يرصد كثافة استخدام الشعار في السنوات الأخيرة، مع احتدام الجدل في مصر حول الإصلاحات السياسية، وسلسلة التعديلات الدستورية التي طرحت للحوار في أعقاب الانتخابات البرلمانية التي جرت عام 2005، ومن أبرز هذه الاشكالات التي واجهها الشعار هو اصطدامه بنصوص الدستور، وتهديده المباشر للوحدة الوطنية في مصر.
ومع ذلك يصر الإخوان، مدعومين بانتصارات حققوها في الانتخابات النيابية لعام 2005، على تضمين الشعار في كل برامجهم وأوراقهم وآرائهم، ويقرأ فرحات ترجمة ذلك سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، من خلال ثلاث وثائق صدرت عن الاخوان وهي مبادرة الإصلاح عام 2004، والبرنامج الانتخابي في العام التالي، ثم برنامج الإخوان الذي صدر (في نسخة أولى) عام 2007.
وبصرف النظر عن تفكيرهم في إنشاء حزب أو حتى محاولاتهم لتأسيس هذا الحزب المستقل، فقد خاض الإخوان التجربة النيابية بكل شروطها القانونية، مرة بالتحالف مع أحزاب أخرى عندما كان ذلك هو الخيار الوحيد، ومرة أخرى كمستقلين كما اعتادوا كلما أتيحت الفرصة. فكيف كان أداء الإخوان تحت قبة البرلمان المصري؟ هذا ما يحاول الدكتور عمرو هاشم ربيع أن يجيب عنه في ورقته التي تناقش أيضا الكيفية التي يستطيع بها الإخوان الاستحواذ على ثقة الكثير من الناخبين المصريين، قبل وبعد الانتخابات، بل وموقفهم المبدئي -كجماعة أصولية- من قضية النيابة أو التمثيل البرلماني. ويخلص ربيع إلى أن الإخوان استطاعوا على مدى العقود السابقة أن يطوروا من أدائهم البرلماني إلى حد كبير، وأصبح الارتقاء باختيار نوعية الممثلين البرلمانيين من الناحية المهنية هو الأغلب.
لكن قضيتي إنشاء حزب، والانخراط في الحياة النيابية، ليستا الأخيرتين في سلسلة التحديات التي تواجه مستقبل الإخوان المسلمين، وفي رحلة البحث والتقصي عن هذا المستقبل، يطرح الدكتور عمار علي حسن عددا من القضايا في مقدمتها صراع الأجيال داخل صفوف الجماعة، الأمر الذي ينعكس بالضرورة على رؤيتها السياسية، وينسحب على مواكبة التحديث، خصوصا على مستوى الأفكار، وهو الأمر الذي اتضح في بعض الانشقاقات التي خرجت عن الجماعة، ثم موقف الإخوان من الجماهير ومن النخب السياسية، وكذا موقفها من القوى الدولية وما تفرضه من قضايا إصلاحية على المنطقة.
ويستنتج عمار علي حسن أن لدى الإخوان استعدادا فطريا للتحالف مع أي أحد، ما دام هذا سيحقق مصالحهم، ومثل هذا التحالف سيسد أي باب لتغيير قريب في رأي الباحث.
وفي ورقة مقابلة، يطرح الدكتور عصام العريان رؤية الإخوان المستقبلية من موقعه كمسؤول عن المكتب السياسي للجماعة، يستعرض في مقدمتها مواقف الإخوان من عدّة قضايا فكرية وفقهية وسياسية، نتجت عن مراجعات عديدة، تتعلق بالمشاركة السياسية النشيطة، والتعددية الحزبية كتطبيق عملي للشورى؛ وكذلك بالمشاركة في الحكومات الائتلافية… ودور المرأة في المجتمع وحقوقها السياسية، وحقوق غير المسلمين السياسية والمدنية في إطار حكم إسلامي.
ويرى العريان أن أولويات الجماعة بعد فترة الغياب في السجون أو في المهجر (1954 – 1971) كانت الحفاظ على الفكرة الإسلامية الوسطية بعيداً عن الغلو والتطرف والتكفير، والحفاظ على منهج العمل الحركي للإسلام السلمي المرن المنفتح على المجتمع والناس، وإعادة تشكيلات الإخوان من جديد في كل قطر على حده.
لقد طرح الإخوان في العام 2007 تصورا لبرنامج حزب طال الحديث عنه، ولم يتحقق على أرض الواقع بعد، وسرعان ما تلقف المعنيون كل حرف ورد في هذا المشروع، أو القراءة الأولى، بالتحليل والدرس، ليتعرفوا على موقف الإخوان من قضايا رئيسية، وعلى رأسها هوية الدولة، والمواطنة، والمرأة، وغيرها. ويقدم الدكتور وحيد عبد المجيد قراءة في هذه القراءة الأولى لبرنامج حزب الإخوان، وركز قراءته على قضيتين جوهريتين هما: طبيعة الدولة وعلاقتها بالدين، وموقع الأقباط والنساء فيها، وهما قضيتان يتوقف عليهما مدى استعداد “الإخوان” للاندماج في نظام سياسى ديموقراطي يتطلع إليه الكثير من النخب السياسية والثقافية والإعلامية في مصر.
ومع كل الحديث عن برامج الإخوان السياسية والاجتماعية والثقافية، يقل الرصد لرؤيتهم الاقتصادية، حتى انتشرت قناعة ضمنية بأن الإخوان ليس لديهم برنامج اقتصادي، أو على الأقل ليست لديهم إجابات على أسئلة العصر الاقتصادية، وسدا لهذه الثغرة يقدم فؤاد السعيد دراسة لرؤية الإخوان لإدارة الاقتصاد، خاصة بعد تأكيد بعض قياداتهم على نيتهم «تعميم الاقتصاد الإسلامي بالتدريج» حال وصولهم إلى السلطة، وأن «أعضاء مجلس الشعب -في هذه الحالة- لا بد أن يكون لديهم حد أدنى من الثقافة الإسلامية».
ويقدم السعيد مقترحات الإخوان في برنامجهم الاقتصادي حول قضايا البنوك وفوائدها، والسياحة كمورد اقتصادي، ونظرتهم إلى الفوارق الطبقية وغير ذلك.
ومن التحديات التي تفرض نفسها على جماعة الإخوان المسلمين أيضا، قضية تنظيمهم الدولي، والجدل الدائر حوله داخل صفوف الجماعة نفسها، بين مؤيد لبقائه وتفعيله، وبين من يرى أنه قد ولد ميتا ولا فائدة في استمراره، فيعرض الباحثان محمد صلاح العزب، وأحمد عليبة، لمبررات كلا الرأيين، بعد أن يعرضا لقصة تأسيس التنظيم الدولي، والذي نشأ كنتيجة طبيعية لنشاط أفراد الجماعة في المهجر حين تعرضها لحملات قمعية شديدة من قبل الأنظمة المتعاقبة، فقد استطاع ناشطوها في المهجر، التعبير عن وجودهم وتنشيط دورهم عبر استغلالهم لمناخ الحرية الموجودة في الغرب، حتى كانت أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، التي أكدت تحول الصراع نحو العالم والغرب، وليس فقط ضد الأنظمة القُطرية، مما ضاق معه هذا المدى الجغرافي، إلى حد ما. ويخلص الباحثان إلى أنه على الرغم من ضرورة التنظيم الدولي اللوجستية للجماعة الأم، وبعض مثيلاتها من التنظيمات المأزومة في أقطارها، إلا أن المعضلات التنظيمية الداخلية داخل هذه التنظيمات وداخل التنظيم الدولي بعموم، وكذلك اختلاف السياق الدولي والإقليمي، لاشك ستنتهي به في النهاية إلى منطقة التنسيق الدولي، الذي قد يصل إلى أدنى درجاته ليس أكثر، دون أن يمثل امتداداً فعالاً ومؤثراً إيجابياً في مسار هذه التنظيمات.
ولا شك أن القضية الفلسطينية تفرض نفسها على أجندة الإخوان المسلمين، نظرا لارتباطهم التاريخي بتلك القضية، وامتدادهم التنظيمي داخل الأراضي الفلسطينية، وربما كانت صحافة الجماعة، وخصوصا مجلة “الدعوة”، تمثل مصدراً مهما للكشف عن الموقف الإخواني، تجاه القضية الفلسطينية، نظرياً وعملياً. ونقدم هنا قراءة لأبرز ما تناولته في هذا الإطار، وهل ينظر الإخوان إلى الصراع العربي الاسرائيلي باعتباره صراعا دينيا، أم صراعا سياسيا؟
ومن خطاب مجلة الدعوة أيضا، يقرأ الباحث عادل الضوي موقف الإخوان من الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، إذ لم تتح للجماعة فرصة التعبير العلني المباشر عن موقفهم عبد الناصر وثورة يوليو (تموز) 1952، إلا بعد سقوط العهد الناصري، واستقرار الأمر للرئيس السادات، الذى تصالح معهم، وكان طموحه -كما يرى الباحث- أن يجعلهم أداة لتشويه العهد السابق والإجهاز عليه، بينما كان الإخوان بدورهم يتعاملون مع السادات على أنه صانع المناخ الذى سيعيدهم إلى الساحة السياسية، ويتيح لهم فرصة الانتقام وتسوية الحسابات مع ناصر ومرحلته.
وفي دراسة بعنوان “الراديكالية الإسلامية: قراءة في فكر سيد قطب”، يرى مصطفى بيومي أن سيد قطب هو المفكر الأكثر نفوذاً وتأثيراً في جماعات العنف التي ظهرت منذ هزيمة 1967، ولكن بيومي يرصد ازدواجية في التعامل مع فكر قطب من قبل الإخوان، حيث يجمعون بين الإيمان الكامن بأفكاره، والتنكر العلني لها، وذلك على النقيض من الجماعات الإسلامية الراديكالية، كما يتجلى عند أبرز قادتها ومنظريها، الذين يجاهرون باتباع أستاذهم سيد قطب، ويعلون من شأنه، ويرون فيه المثل الأعلى.
وقرأ محمد أبو زيد كتاب إشكاليات بناء تيار إسلامي ديموقراطي، الذي أعده مجموعة من الباحثين بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، وحرره الدكتور عمرو الشوبكي، ويعرض للسؤال القديم المتجدد، حول الإسلاميين والديموقراطية، و تحديات بناء مشروع ديموقراطي إسلامي، ولماذا نجحت تجارب إسلامية في التعايش السياسي داخل دول علمانية، ولم تحقق ذلك في بلداننا العربية.
ويخلص الكتاب إلى أن إيمان الإسلاميين بالديموقراطية وارد، لا تمنعه أسباب هيكلية أو (جينية) تعود إلى جوهر الخطاب الإسلامي، ولكنها -الديموقراطية- ستفرض عليهم تحديات من نوع جديد، بعضها يخص الخطاب الإسلامي؛ باعتباره خطاباً شاملاً وكلياً، يعتمد على سطوة النص، شأن عديد من أطياف الخطاب السياسي العربي.
وفي دراسة الكتاب المستقلة: “بين النص والموروث: عقل الإسلام أم عقل البداوة” يفتح علي مبروك قضية انتماء العقل العربي، هل هو انتماء لحدود الجماعة الثقافية، وبالتالي يمكن أن يصطلح على تسميته بالعقل الإسلامي، أم أنه مرتبط بجماعة راحت تؤسس لهيمنته عبر إخفائه وراء الإسلام، فقبله الآخرون، لا بوصفه عقلا يخص تلك الجماعة، وإنما باعتباره عقل الإسلام ذاته، ويخلص، بعد البحث في النصوص التأسيسية إلى أنه “عقل العرب” لا “عقل الإسلام”، بل إنه عقل “البدو” لا عقل “الحضر.
ونختم الكتاب الثالث عشر كما تعودنا بعرض لأهم الإصدارات حول موضوع الكتاب، وقد أدخلنا في الببليوغرافيا واعتبارا من هذا الكتاب عرضا للإصدارات العربية حول الموضوع، بعد أن كانت مقصورة على المصادر الأجنبية.
إن أسرة تحرير المسبار، وهي تستقبل عامها الثاني بهذا الإصدار للجزء الثاني من الإخوان المسلمين، تتطلع إلى مزيد من التطوير، إن على مستوى الكتاب الشهري، أم على صعيد الإصدارات الجديدة التي هي قيد الإعداد والنشر.