يثير تعبير “الإسلام الأوروبي” جدلا واسعا بين مؤيد ومعارض، فهل المقصود به تصنيف جغرافي أم سياسي، أم أنه يعبر عن فهم أوروبي معين لحقيقة الإسلام؟ وهل ينسحب الأمر على الإسلام في مختلف أصقاع الأرض، بمعنى أن هناك إسلاماً آسيوياً، وآخر أفريقياً، وهكذا؟
إن دراسة الإسلام الأوروبي ليست دراسة مفهومية فقط، تتعلق بتطورات الخطاب الإسلامي أو تجديده، خاصة فيما يخص المسلمين في أوروبا وحدها، بل إنها كذلك دراسة اجتماعية وسياسية متعددة الأبعاد، منها ما يخص الأمن، وما يخص الاجتماع والتمظهر الديني والسياسي، في ظل تطورات هيكلية وسياسية تشهدها القارة الأوروبية.
ولاشك أن طرح الإسلام الأوروبي الحديث نسبيا، يسائل تاريخيا رؤى تتعلق بالإسلام نفسه كدين وتاريخ في مراحل مختلفة، ففي حين يرى البعض أن الإسلام حينما انتشر في القارات، تفاعل مع عادات شعوبها وأعرافها وثقافاتها، طالما كانت متوافقة مع التعاليم والأحكام الإسلامية، يرى آخرون أن الإسلام قوّم هذه العادات والأعراف والثقافات، وصهرها في مزيج واحد وبالتالي فلم يختلف الإسلام باختلاف البيئة الجغرافية والثقافية، وبالتالي يكون الإسلام واحداً وليس متعدداً، لا تؤثر فيه السياقات المتغيرة، ولا يتأثر بها، بينما يلح البعض الآخر على تعدديته في مقابل القائلين بهذه الأحادية.
وكذلك يخشى الآخر أن يكون هدف “الإسلام الأوروبي”، هو هدم الإسلام نفسه، والنيل من خطوطه العامة وأصوله الأساسية، وبالتالي فالأجدر بنا أن نعتمد مصطلح “الإسلام في أوروبا” و”الإسلام في آسيا”…
سيظل الجدل قائما ومتفاعلا، طالما تفاعل الإسلام مع بلاد المهجر، ومن يحملونه في المهاجر، والتي لم تعد كذلك بالنسبة للكثيرين منهم، فالنسبة الغالبة من المسلمين “المهاجرين” زالت عنها تلك الصفة، بعد أن استقرت وحصلت على حقوق المواطنة الكاملة، وأصبحت تمثل ثقلا ديموغرافيا في بعض الدول، وما ترتب على ذلك نتائج اجتماعية ونفسية واقتصادية وسياسية، تلك التي تقترن بالضرورة بأي أقلية إثنية أو دينية أو ثقافية في أي بلد.
وبصرف النظر عن المصطلح، والذي أخذ حظا وافرا من النقاش داخل هيئة التحرير، لما لذلك من أهمية في تحديد مسار التعامل مع الظاهرة، فإن كتاب المسبار الشهري، يخصص إصداره السادس عشر، لطرق هذا الموضوع، الذي، لم يحظ بالقدر الكافي من الدراسة والبحث لدى الدوائر العربية المعنية، في حين اعتنى به الباحثون الغربيون عناية كبيرة، واهتمت به مؤسسات وتيارات عديدة في الخارج، الأمر الذي يجعل هذا الكتاب هو أول كتاب يصدر باللغة العربية حول الإسلام الأوروبي.
لقد تضاعف الاهتمام بالظاهرة الإسلامية في أوروبا بعد صعود ما يعرف بالحرب على الإرهاب، هذا هو المدخل الذي يقدم من خلاله الدكتور هيثم مناع ورقته حول “الإسلام في أوروبا: إعادة اكتشاف الذات”، والتي يرصد من خلالها المنعطفات الهامة في الوجود البشري الإسلامي في أوروبا، والتي كانت ذروتها في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات، تلك الفترة التي كان الغرب فيها يرى الإسلام “خطرا” و”حمى” تهدد حضارته، ويحلل مناع ما ترتب على تزايد عدد المهاجرين المسلمين إلى أوروبا، وما رافقها من أزمة هويات على الصعيد العالمي، عززتها إعادة اكتشاف الهوية الأوروبية المتعددة القوميات، المختلفة المسارات، ومخاض هذه العملية على الذات المهاجرة
لقد اصطدم تشكل الإسلام الأوروبي بالمعارضة والمخاشنة، كما يرصد الباحث حسين عبد القادر في ورقته “مسلمو أوروبا: أطوار الاعتدال والتطرف”، حيث يتابع نظرة أوروبية أحادية برزت منذ بداية الثمانينيات، كما يعكسها الإعلام، تجاه المسلم، والتي ميزتها نزعة الاستقطاب باتجاه العنف والتطرف، ولم تترك هذه النظرة مجالا لرؤى أخرى نحو العالم الإسلامي. ومن أجل الكشف عن خلفيات تلك النظرة والتي نجم عنها أحكام مسبقة، يميز عبد القادر بين مفاهيم أو أطوار ثلاثة، مر بها الإسلام الأوروبي، أو توجهات المسلمين في أوروبا، ويعرض لها بالتحليل والنقد، وهي: الإسلام السياسي، والإسلام الأصولي (أو المتزمت)، والإسلام السياسي المتطرف.
ويأتي بحث الدكتور محمد الطيبي بعنوان “الإسلام وأوروبا: إشكالات مفاهيمية”، حيث يسعى إلى ملامسة إشكالية الإسلام في أوروبا، كدين وقيم من جهة، وكمجموعة بشرية تتماهى فيه، طارحة حقوق مواطنتها ضمن تميزها العقيدي، متفادية النزوع إلى تمايز هوياتي، يفصلها عن الديناميكية العامة للمجتمعات التي تعيش فيها منشأً وتربيةً ومصيراً.
وحول صراع الهوية والاندماج، الناجمين عن تشكل المجموعة البشرية الإسلامية في أوروبا، يقدم الدكتور يحيى اليحياوي ورقة، يطرح فيها الأسئلة والمخاوف والشكوك حول إدماج المسلمين في التجمعات الوطنية القائمة في الدول الأوروبية، تلك المتعلقة بالآليات القانونية الكفيلة بذلك، والإجراءات العملية الضامنة لهذا الاندماج شكلاً ومضموناً. ويلاحظ اليحياوي أن سياسات الإدماج المعتمدة، إنما تغيت إعادة موقعة المسلمين على المستوى الاقتصادي والاجتماعي وإلى حد ما الثقافي، في حين بقي البعد الديني مثار أخذ ورد.
ويرى الدكتور بومدين بوزيد أن مفهوم “الإسلام الأوروبي” يميل بقوة نحو العقلانية، ففي ورقته بعنوان “مسلمو أوروبا بين الديني والعلماني” يخلص بوزيد إلى أن الإسلام “الليبرالي/الأوروبي”يتعامل بطريقة أكثر تمدنا مع المرأة وقضاياها مثلا، وهو لا يسعى إلى أسلمة أوروبا وتحويلها من “دار العهد” و”الدعوة” إلى “دار الإسلام”، وإنما يتفاعل مع آليات التكامل والاندماج في المجتمع الغربي، وفق معاييره ومنظومة قيمه بشكل رئيسي.
أما منتصر حمادة فيطرق موضوعاً هاما، قلما لفت المهتمين بشأن الأقليات المسلمة في الغرب، فتحت عنوان “سؤال المرجعية: من أجل فقه جديد لمسلمي أوروبا”، يتساءل حمادة عن واقع التحديات الهوياتية التي تواجه تلك الأقليات، وتجد نفسها مضطرة لتمرير مواقف عملية تجاهها، سواء كانت مؤسسة على أرضية شرعية/تاصيلية، أم على قناعات عقلانية براغماتية، فهناك “نوازل” فقهية جديدة يعج بها المجال الغربي، كالتوفيق بين الحقوق المدنية وتلك الإسلامية، والحجاب، والمشاركة في الحياة السياسية من أحزاب وبرلمانات… ويتساءل حمادة في دراسته عن كيفية التعاطي مع سيل الفتاوى الذي ينهمر عبر الفضائيات من أولئك الذين لم يمروا بخبرة الحياة في مجتمعات غربية؟
وفي دراسة حالة معبرة عن واقع الإسلام في أوروبا، يقدم الدكتور حسين الزاوي ورقة عن “الإسلام السياسي والجالية الجزائرية في فرنسا”، وهو موضوع جدير بالدرس في هذا السياق، فوجود الجزائريين في فرنسا كان مؤقتاً في الفترات الأولى، لكنه ما لبث خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين أن تحول ومع بداية هجرة الجيل الثاني في شكل مجموعات عائلية بسيطة، إلى تحديات على صعيد الاندماج الاجتماعي للجزائريين في النسيج الفرنسي، وخاصة أن أولياء تلك المرحلة لم تكن لهم المؤهلات التعليمية، التي تسمح لهم بمراقبة أبنائهم المنبهرين بجاذبية المحيط الجديد. و بدأ الوجود الإسلامي في فرنسا يتحول من مجرد ظاهرة اجتماعية بسيطة إلى قضية رأي عام وطني، يسهم أسلوب التعاطي معها في تحديد وحسم مختلف الاستحقاقات السياسية التي عرفتها فرنسا خلال العشرين سنة الأخيرة.
وقدم الدكتور محمد همام دراسة عن “أطروحة الاندماج عند طارق رمضان”، وهو أحد أهم رموز “الإسلام الأوروبي”، الداعين إلى فهم جديد للهوية المسلمة فيها، بما يساعد الجاليات المسلمة في الغرب على الاندماج الإيجابي في مجتمعاتهم. ويرى رمضان أن المسلمين مطالبون اليوم بالتخلي عن كل نزوع طائفي؛ بكل ما يحمله من انطوائية ومحدودية في التواصل والمشاركة، إذ لا يجب الخلط بين التجمع الايماني، وأساليب النزوع الطائفي المغرقة في الانعزال والتفرد على المستويات الاجتماعية والسياسية والتشريعية
وفي دراسة حالة أخرى يعرض سعيد شحاتة لأوضاع المسلمين في بريطانيا، ويتساءل في عنوان دراسته: “المسلمون البريطانيون، أم المسلمون في بريطانيا؟”، ويتناول بالتحليل أبرز العوامل المشجعة، وتلك المنفرة لاندماج المسلمين في المجتمع البريطاني، ومنها التعليم والمدارس الإسلامية، ودور الجامعات، ودور المساجد والأئمة، والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للمسلمين، ودور الإعلام والسياسة الخارجية البريطانية تجاه العالم الإسلامي..
وعن “معوقات التحاور والتجاور” بين الإسلام والغرب، يقدم الدكتور عبد القادر بوعرفة ورقة تحليلية، يبدؤها بأسئلة منهجية: عندما نتحدث عن إشكالية العلاقة بين الإسلام والغرب، فأي إسلام نقصد، ومع أي غرب نريد أن نتحاور ونتجاور؟ فالقضية المركزية التي ينبغي الانطلاق منها عند تناول العلاقة بين الإسلام والغرب هي أن الإسلام ليس بوحدة متجانسة على مستوى الفهم والممارسة، ويقاس الأمر نفسه على الغرب الذي يخضع لعملية انقسام حاد. نحن إذن أمام مفهومين غير متجانسين، أحدهما جغرافي بحت (أوروبا)، والآخر ذو أصل ديني بحت، وما ينطوي تحتهما من تباينات واختلافات عدة.
أما الدكتور رضوان زيادة فيتطرق إلى زاوية ما بات يعرف بعولمة أو “تحديث” الإسلام، تلك العملية التي انطلقت وارتبطت بشكل كبير بحدث 11 سبتمبر (أيلول) 2001، وما لحقه من هجمات إرهابية في أكثر من دولة أوروبية. ويرى زيادة أن هذا الحدث أيضا أطلق حواراً مباشرا أحيانا، وغير مباشر، أحيانا أخرى، بين الرؤيتين الغربية والإسلامية للعالم، كما أنتج منظورين مختلفين جزئيا لكل من أوروبا والولايات المتحدة تجاه الإسلام والمسلمين داخل كل منهما.
وعن “الوجود الإسلامي والتفاعل الحضاري في الغرب” يقدم الدكتور بوفلجة غيات بحثا يتطرق فيه إلى توسع الوجود الإسلامي في الدول الغربية، ونظرة الغربيين إلى الأقليات الإسلامية، وتعامل المجتمعات الغربية معها، وتذبذبها بين القبول والرفض، في ظل انتشار ظاهرة الإرهاب. ويتطرق أيضا إلى أساليب مقاومة المسلمين للدفاع عن وجودهم الثقافي.
وضم كتاب المسبار لذاك الشهر قراءتين في كتابين هامين يتعلقان بموضوعه، الأولى لكتاب: “ضواحي الإسلام” للباحث الفرنسي المتخصص في الإسلاميات جيل كيبل، ويعرضها هادي يحمد، وتكمن أهمية هذا الكتاب في أنه تنبأ منذ الثمانينيات من القرن الماضي باحتلال الإسلام مكانة مهمة في التركيبة الاجتماعية الفرنسية، وكان صريحا وسباقا في الدعوة إلى إدماج الإسلام عبر كتابه الذي وضع له عنوانا فرعيا وهو “ولادة ديانة في فرنسا”.
أما الكتاب الثاني فهو: “نحو إسلام أوروبي”، للكاتب الفرنسي أيضا أوليفيي روا، ويعرض له الدكتور بن عبو سنوسي، وتتمحور إشكالية الكتاب حول سؤال: هل يتوافق الإسلام مع العلمانية؟، وهو السؤال الذي يطغى الآن على النقاش في أوروبا. فالصعوبات التي تعترض اندماج المسلمين في المجتمع الأوروبي، وعدم الاستقرار السياسي في الشرق الأوسط، غالبا ما تنسب –في نظر المؤلف- إلى التعارض بين الإسلام واللائكية، وهو يفرق هنا بين اللائكية كمفهوم سياسي، والعلمانية كمفهوم مجتمعي.
أما دراسة الكتاب المستقلة، والتي نفتتح بها سلسلة جديدة حول “العقل الأصولي”، فيقدمها المفكر الدكتور حسن حنفي بعنوان “الإسلام/أوروبا: هل ينتفي الخوف المتبادل؟” يحلل فيها أسباب خوف أوروبا من الإسلام باعتباره اغترابا عن الهوية الأوروبية المتناسقة، ولأنه إرهاب، وخوف الإسلام من أوروبا والنابع من التخوف من عودة الاستعمار من جديد، وبأساليب مستحدثة. وبعد سجال فكري معمق حول هواجس الطرفين، يخلص حنفي إلى أن الإسلام وأوروبا شقيقان، وجهان لعملة واحدة، جسدان لروح واحدة، ضفتان لثقافة واحدة. أووفي كلمة واحدة حسب تعبيره: الإسلام أوروبا، وأوروبا الإسلام.
وأخيراً، يرجو مركز المسبار من خلال هذا الكتاب، أن يكون قد فتح أبوابا للنقاش، بأكثر مما حسم جدلا حول هذا الموضوع الخصب، فهناك واقع على الأرض يتلخص في وجود ملايين المسلمين الذين يعيشون في الغرب، بعضهم أتى مهاجرا، وكثيرون ولدوا هناك، ويشكلون أقلية ذات وزن وتأثير، وقابلة للنمو السريع في المستقبل. وكما أن أصول هؤلاء المسلمين ليست واحدة، فإن أماكن تجمعهم في الغرب ليست متماثلة أيضا، لذا فإن الأبواب ستظل مشرعة لمزيد من البحث والدرس والاجتهاد.