اعتدنا في كتب المسبار الستة عشر السابقة أن نقدم للحركات والتيارات الإسلامية، بدلالاتها ورموزها وشخصياتها ووسائلها التنظيمية وخطابها وتأثيراتها، وعند كل عنوان كنا نتوقف لطرح أسئلة منهجية، تتعلق بالضرورات أو الظروف الموضوعية لظهور تلك الحركات أو التيارات. بحجمها وجماهيريتها. لحظات مدها وازدهارها، أو تراجعها وأفولها. مدى اعتمادها على مرجعيات، أو تأسيسها لمرجعياتها. مدى صدقية طروحاتها أو هشاشة قناعاتها. علاقاتها بموازين القوى المحيطة من حركات وتيارات أخرى، أو سلطات وحكومات ومجتمعات مدنية وقوى خارجية. ومواقفها المعلنة والمستترة من كل ذلك
لكننا توقفنا عند عنوان “الدعاة الجدد”… هل يمكن تصنيفه ضمن عناوين الحركات والتيارات الإسلامية الأخرى، ينطبق عليه ما ينطبق عليها؟ أم أن الدعاة الجدد يشكلون ظاهرة منبتة عن السياق الحركي والدعوي الإسلامي، وبالتالي فلا يخضعون للمعايير البحثية العلمية، والقواعد المنهجية التي تسري على غيرهم في التناول؟
وعلى الرغم من غزارة ما كتب عن الدعاة الجدد، ربما لأسباب بعضها يعود إلى جاذبية التجربة ذاتها، إلا أن تناولها –باستثناءات قليلة- تميز بالرصد السريع غير المعمق، واكتفى بالوصف المباشر دون الخوض في البنى والكوامن، بل ذهب بعض هذا التناول إما إلى الإثارة بالنقد والتجريح، أو الإشادة بالوصف والمديح.
وبصرف النظر عن التوصيف الدقيق، والذي قد يتبلور لاحقاً -بالنظر إلى حداثة التجربة- فلا شك أن الدعاة الجدد تنطبق عليهم كثير من شروط “الظاهرة”، تلك التي نشأت في بيئة أسهمت في تكوينها، وهيّأت وتهيّأت لاستقبالها، فشغلت حيزاً لا ينكر في الفضاء الديني والاجتماعي والاقتصادي وحتى السياسي، وأثارت من حولها جدلا واسعا منذ بزوغها في مدى زمني يتجاوز العقد بقليل، الأمر الذي برر أن نخصص العدد السادس عشر من كتاب المسبار الشهري لهذا الموضوع.
ولعل دراسة باتريك هايني “قيم إسلامية جديدة” ترصد بدقة تلك البيئة التي أفرزت الدعاة الجدد، إنها بيئة الإدارة والنجاح والإنجاز، وأنه “لا مكان للخاسرين”، وعززت هذه البيئة أو المرحلة اختراقاتها للمجال الديني، لتتحقق الفائدة على الجانبين، فتتعزز هذه البيئة اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا بالتعاون وبالدعم المتبادل مع طبقة المتدينين الجدد الناشئة والمتصالحة مع هذه القيم الجديدة، فقد أفرزت بدورها “دعاتها” الذين ما لبثوا أن أخذوا بتلابيب “أحدث صيحات الموضة” في عالم الدعوة. ويتابع هايني التحولات التي طرأت في البيئة الدينية الغربية، وانعكاساتها على البيئة الإسلامية دعاة وخطابا وجمهورا.
وحاول وسام فؤاد في ورقة بعنوان “المتدينون الجدد، هل هي ظاهرة جيلية؟” مقاربة المناهج المختلفة التي تناولت الظاهرة، ومنها الاقتراب الجيلي، لكون هذه الظاهرة تعبيراً عن جيل، بقدر ما هي استجابة لبيئة كوكبية محيطة. ويستفيض فؤاد في الكشف عن كل جوانب الظاهرة بدءاً من السؤال الأساسي: هل هناك ظاهرة تسمى “الدعاة الجدد”؟ وما علاقة الشرائح العليا والليبرالية الجديدة بمظاهر هذا التدين الجديد الاجتماعية والدعوية؟ وصولاً إلى مستقبل الظاهرة ومدى استمرارها واستقرارها.
ويقترب محمد حسن الشريف أكثر من قلب الظاهرة ليدلف إلى خطاب الدعاة الجدد، وكيفية تفاعل هذا الخطاب مع الإعلام والتعليم، وهل يندرج تحت مفهوم “تجديد الخطاب الديني”، أم يظل خطابا خاصا بمنطقه ومفرداته وأدواته، ومقصورا على شرائح بعينها؟، كما يتطرق الشريف إلى زاوية هامة، وهي هل كل خطاب الدعاة الجدد يعد خطابا متشابها ينبع من منطلقات واحدة، أم أن هناك اختلافات جوهرية بين تمظهراته المختلفة؟ وذلك بعد عرض واف لنماذج هؤلاء الدعاة ومسارهم وسيرهم الذاتية، ومكونات الخطاب الذي يحملونه ويبثونه عبر الوسائط العصرية المتنوعة.
وعن جدلية العلاقة بين الدعاة الجدد والإسلام السياسي، يطرح علاء النادي هذه الإشكالية الجديرة بالنقاش، إذ طالما راج أن الدعاة الجدد ينأون بأنفسهم عن كل ما هو سياسي، وبالتالي فطرحهم الديني هو دعوي أخلاقي بحت. لكن النادي يلحظ درجة عالية من الاشتباك، الذي يمتد إلى سياقات النشأة والتشكل والخطاب، إضافة إلى التأثير المتحصل، وكل ذلك قد يشكل تعزيزاً لأرصدة الإسلام السياسي، وإن لم تكن بصورة مباشرة. ولكن هذا لا ينفي ما بين الدعاة الجدد والإسلام السياسي من تناقضات مرحلية بحكم تموقع كل منهما وأهدافه الراهنة، وهو ما يناقشه علاء النادي بإسهاب
ولأن رموز الدعاة الجدد برزوا جغرافيا في بعض الأقطار العربية والإسلامية دون غيرها، كان السؤال مشروعا حول عدم ظهورهم في بلدان أخرى. وهذا ما يحاول د. عبد العلي حامي الدين أن يتساءل عنه فيما يتعلق بالمغرب. فعلى الرغم من أن الظاهرة لقيت رواجاً في هذا البلد من خلال متابعة الشباب لخطاب الدعاة الجدد من البلدان الأخرى عبر الفضائيات، ومشاركاتهم من خلال الإنترنت، إلا أن المغرب لم يفرز دعاته الجدد. وبعد أن يعرض حامي الدين لأنماط التدين الموجودة في المجتمع المغربي، فإنه يرصد تقاطعها مع ظاهرة الدعاة الجدد، ليخلص إلى الإجابة عن التساؤل الذي طرحه: لماذا لم يبرز دعاة مغاربة جدد؟
أما مصطفى عاشور فيتناول إحدى أدوات الدعاة الجدد الرئيسية، القنوات الفضائية، حيث سعى لمناقشة الدور الذي لعبته الفضائيات في ظهور وانتشار أولئك الدعاة، ومدى تأثيرها عليهم من حيث انتشارهم جماهيريا، ومدى خضوعهم لثقافة الصورة وضغوطها. كما يتطرق عاشور إلى انعكاس ذلك على إمكانية انتاج خطاب دعوي تجزيئي للإسلام، يركز على قضايا معينة من الدين، ويُخضع الشرائح المستهدفة لنوع من الإغراق الفضائي والمنافسة بين الدعاة لاجتذاب جماهير، وما يعكسه ذلك على مضمون الدعوة الإسلامية وتصديرها عبر الفضائيات في صورة مقولبة ونمطية.
وطرح د. جمال النجار تساؤلات حول خطاب الدعاة الجدد، وما إذا كان ذلك الخطاب يسحب البساط من تحت الإسلام السياسي ويتجاوزه؟ ومن يمثلون هؤلاء الدعاة، هل يمثلون الإسلام الليبرالي في مرحلة الليبرالية الجدية (النيوليبرالية)، أم يمثلون الإسلام الصوفي في طبعته العصرية؟ ويستبعد النجار بداية أن يوضع الدعاة الجدد في خانة التيار المصمتة، إذ بين أفراده من الاختلافات ما يجعل وصف التيار على مجموعهم وصفاً غير دقيق. ويستبعد كذلك تصنيف الدعاة الجدد في خانة الشريحة العليا من البورجوازية، ويرد على ذلك بانجذاب الطبقات الفقيرة والمهمشة لخطابهم. فالظاهرة كما يراها الباحث تمثل “لحظة تاريخية وليس إسلام السوق”، وهذا هو عنوان ورقة د. جمال النجار.
المقاربة نفسها يتناولها فؤاد السعيد، وإن من زاوية أخرى وبأدواته الخاصة، في نقض الصيغ الجاهزة، والاتهامات المسبقة التي تنهال على الدعاة الجدد، ويفند واحدة في المركز منها، ألا وهي نعت روافد خطابهم بأنها غريبة عن التراث الإسلامي، بل إنها نقل حرفي عن الوعظ الإنجيلي أو البروتستاتي، ويفند السعيد ما تبناه أصحاب هذا الرأي الذين تجاوزوا الخطاب ليتحدثوا عن ظاهرة بروتستانتية إسلامية جديدة، ويسوق من الحجج ما يؤكد أن هذا الاتهام ليس دقيقاً في بعض جوانبه، كما يقارن نصوص خطاب الدعاة الجدد بنصوص ووقائع من التراث الإسلامي، بما يؤيد ما ذهب إليه.
وطرق محمد عز العرب بابا مهما في إطار ما اصطلح على تسميته بالتدين الجديد، ألا وهو باب الداعيات الجديدات في مصر، وهو نمط جديد أو النسخة الموازية للدعاة الجدد الرجال، وإن لم كن مطابقة في كثير من الجوانب، ويمزج العزب بين الداعيات اللائي يتخرجن من معاهد الدعاة، وبين من يمتهنّ هذا المجال من خارج المؤسسات الرسمية، ويفرق بين النوعين بطبيعة الحال، ويحلل الباحث طبيعة خطاب الداعيات الجديدات، والوسائل التي يتبعنها في توصيل رسالتهن، وما يتميزن به عن نظرائهن من الرجال.
وعرضنا في هذا الكتاب أيضا قراءتين لأهم إصدارين حول الدعاة الجدد، الأول كتاب “إسلام السوق: الثورة المحافظة الأخرى” لباتريك هايني، حيث يقدم فرج نعيم لرؤية هذا الباحث السويسري حول تلك الظاهرة، والتي تنطلق من المدخل الطبقي، حيث يشير للبعد الاجتماعي للتدين الجديد، والطبقة المستهدفة منه، ويعتبر أن ظاهرة الدعاة الجدد المنضوية تحت هذا النوع من التدين تتجاوز كثيرا أسوار الإسلام السياسي، لتشكل ما يراه “الثورة المحافظة الأخرى”.
والكتاب الثاني هو “دولة الدعاة الجدد” للصحافي وائل لطفي، والذي يقرأه محمد صلاح، ويعد من الكتابات الرائدة في رصد ظاهرة الدعاة الجدد، حيث اهتم المؤلف بها منذ البدايات، على الرغم من أنه لا ينحاز لها. ويعرض لتفسيرات عدة لصعود هؤلاء الدعاة الجدد في فترة زمنية وجيزة، كما يعدد لسمات خطابهم.
وفي دراسات الكتاب المستقلة، نواصل عرض سلسلة “العقل الأصولي”، والتي بدأناها في الكتاب الماضي بدراسة الدكتور حسن حنفي. وفي هذا الكتاب يقدم د. أحمد عبد الحليم عطية دراسة حول الأصولية الإسلامية في نماذج من الخطاب العربي المعاصر، حيث يقدم لبعض الدراسات النقدية التي تعاملت مع الأصولية الإسلامية من وجهة نظر مناهج فلسفية متعددة، ثم يعرض لنموذج للدراسات التحليلية التي يرى أنها اتسمت بالدقة والمنهجية في أعمال محمد أركون المختلفة.
إن كتاب المسبار في إصداره السابع عشر يطرق بلا شك باباً جديداً، وهو بحث تلك الظواهر التي لاتزال في طور التشكل ولما تنضج بعد، ولا ندعي في هذا السياق أننا نصدر أحكاما قطعية أو نهائية، أو نقيم الحجج على صدقية الظاهرة واستمراريتها، أو هشاشتها وسرعة تآكلها، بل نرجو أن نسلط الضوء على الحقائق المجردة، ونساهم في تكوين صورة كلية غير مجتزأة أو منتزعة من السياق، وهذا ما نأمله من خلال طرح ظاهرة الدعاة الجدد في هذا الكتاب.