ما هي حقيقة حركة المقاومة الإسلامية (حماس)؟ إلى أي مدى هي حقاً «إسلامية» الطابع والهوية؟ وكيف تعمل فعلياً أجهزتها؟ ومن هي تلك الشخصيات المتخفية وراء تلك البزات المرقطة؟ وكيف تمتد شبكات علاقاتها الداخلية والخارجية؟ هذه الأسئلة وغيرها، هي ما يحاول هذا الإصدار العشرون من كتاب المسبار الشهري أن يجيب عنها.
يوم وقف العالم مذهولاً بالانتصار الكبير، الذي حققته حركة حماس في الانتخابات التشريعية الفلسطينية في العام 2006، بدا لكثيرين أن مرحلة جديدة من تاريخ القضية الفلسطينية قد بدأت، على حساب الفصائل والقوى الفلسطينية العريقة في تاريخها السياسي ونضالها الوطني.
وفي وقت كانت الآفاق تنسد تباعاً أمام الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات المحاصر داخل “مقاطعته” أواخر العام 2003، كانت حماس رائدة في الضربات المدوية، فهي اذ تحضر في ساحات العمليات العسكرية ضد الاحتلال الاسرائيلي، لا تغيب عن المسجد، وعن المؤسسات التعليمية والصحية والاجتماعية.
وباختصار بدا وقتها أن خيار السلام يتآكل، ومعه تتآكل صورة السلطة الفلسطينية، التي لم تنجح في كبح جماح الفساد والمحسوبية في مؤسساتها الوليدة، والمتعطشة الى لذة الحكم ومغانمه. كل ذلك سهّل لحماس استقطاب الشارع الناقم والغاضب واليائس.
وفيما ذهب البعض الى اعتبار فوز حماس بداية لعصر جديد من التاريخ الفلسطيني المعاصر، بدا لكثيرين أن حلاوة الانتصار هذه ما هي الا مقدمة لتمزقات داخلية في النسيج الوطني الفلسطيني، وبناه السياسية، التي -ولكثرة معاناتها من عسف الاحتلال وجوره- تطمح بظمأ لا نهاية له الى السلطة، وأية سلطة هنا سيصعب معها قبول الآخر أو الاعتراف به، فالساحة الفلسطينية -لشدة ضيقها في مخيلة أطراف اللعبة فيها- لا تتسع للتعددية ولو في وجه المحتل.
وللأسف فقد صدقت نبوءة أصحاب الرأي الثاني، فجاءت تطورات الأحداث لتصدق توقعاتهم، وقد حمل صيف العام 2007 بدايات الانقسام الفلسطيني الحاد، اذ لجأت حماس -وهي الممسكة بزمام السلطة من خلال رئاستها للحكومة- الى الانقلاب على السلطة الوطنية الفلسطينية، فيما رآه البعض “حسماً عسكرياً”، والتفرد بحكم قطاع غزة، ولتنقل المواجهة بعد أشهر من الحصار الاسرائيلي للقطاع الى معبر رفح مع مصر، فيما فشل أكثر من حوار رعته أطراف عربية حيادية لاصلاح ذات البين الفلسطيني.
في هذا الملف من كتاب “المسبار”، واستناداً الى عدد من دراسات كبار المتخصصين في الشأن الفلسطيني وقضايا جماعات الاسلام السياسي، عرض وتحليل لأبرز الاشكاليات والقضايا التي أثيرت ولا تزال حول نشأة هذه الحركة وأصول خطابها الديني والسياسي، وتطورها كحركة سياسية، وكمشروع مقاومة، مع التركيز على مجالات عملها واهتماماتها ورؤيتها للصراع وأطرافه، وإن كان لا يغفل الحديث عن أبرز الشخصيات والرموز في تاريخها، مع دراسات استشرافية لمآلات المأزق الفلسطيني الراهن
بداية يتناول الباحث الفلسطيني الدكتور حسين أبو النمل، بالعرض والتحليل والتقويم، موضوعاً ساخناً ودقيقاً، يقوم على فكرتين رئيسيتين وتأسيسيتين هما: ميراث حركة حماس لتراكمية دور ومكانة الإسلام في الحياة الاجتماعية لفلسطين تاريخياً، منذ دخلها الإسلام ودخلت فيه قبل حوالي (14) قرنا هجريا، ثم تحول حماس تدريجيا نحو السياسة، بالمعنى العملي للكلمة، وبما هي عليه من نسبية ومعايير تقوم على المصالح والحسابات الدقيقة للربح والخسارة، ما أمكن ذلك، بعد أن كانت الحركة انطلقت واعتمدت في مواقفها على الإيديولوجيا، بوصفها مطلقات ومبادئ ومقدسات، فيقدم قراءة نقدية لتجربة حماس، عارضاً للفرق الكبير بين خطابها المؤسس في البدايات، وما صارته بعد استلامها السلطة
من جهته، يتابع الأكاديمي الفلسطيني الدكتور رائد نعيرات اشكاليات علاقة حماس باسلاميي الداخل الفلسطيني، وخصوصاً حركة “الجهاد الإسلامي” و”الحركة الإسلامية” في أراضي 1948، وأسباب عدم بلورة اطار تنظيمي موحد يجمع هذه القوى، على غرار ما فعلت منظمة التحرير الفلسطينية في بداياتها، مع أن القواسم الفكرية والدينية والسياسية بينهم متوافرة؟ ويؤكد الدكتور نعيرات أن دراسة العلاقة بين حماس، وكل من الجهاد، والحركة الإسلامية في أراضي 1948، تفترض ضرورة الفصل بين الموضوعين، وذلك لأسباب واعتبارات موضوعية، فعلاقة حماس بالجهاد الإسلامي تبدو سهلة القياس، خصوصاً مع اٍعتبار العلاقة العضوية والموضوعية بين الحركتين، وما إذا كانت موجودة أم لا، أما علاقة حماس بالحركة الإسلامية في إسرائيل، فيكتنفها الغموض في الجانب العضوي، أو طبيعة التنسيق أو حتى مجرد تفحص صدقية هكذا نظرية، ويعود ذلك، إلى حتميات يفرضها الواقع الفلسطيني الداخلي، والاعتبارات السياسية والأمنية، إذ في حال وجدت هكذا علاقة، فليس من صالح أي من الحركتين الإفصاح عنها
أما الدكتور محسن صالح فيسعى في دراسته الى التأريخ لتجربة حركة حماس، من خلال استعراض مسيرتها في الفترة 1987-2005، أي الفترة التي سبقت فوزها في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني. وهي تركز بشكل خاص على التطورات السياسية والفعاليات النضالية المتعلقة بهذه الحركة. وتوضح كيف وصلت الحركة إلى مكانة تؤهلها بأن تكون عنصراً فاعلاً في الساحة الفلسطينية، ورقماً صعباً لا يمكن تجاوزه في أي معادلة سياسية.
وفي دراسة بعنوان “حماس: المواقف والتحديات”، يعرض الباحث خالد فياض لتداعيات انخراط حركة حماس في العملية السياسية، فمنذ قررت الحركة الانغماس في صلب العملية السياسية الفلسطينية بشقيها: منظمة التحرير والسلطة الوطنية، لم ينقطع سيل التساؤلات عن مغزى هذه الخطوة، أسبابها وأهدافها القريبة والبعيدة، وتداعياتها على جوهر الحركة وخطابها الداخلي والخارجي، ويحاول فياض في هذه الورقة الاقتراب من الحركة، لمعرفة ماهيتها وتاريخ تطورها وأهم شخصياتها الفاعلة، بالإضافة إلى أهم التحديات التي تواجهها، ولكنه يبدأ -قبل الدخول في التفاصيل- من المفهوم النظري للحركة، وهل ينطبق هذا الوصف على حماس، أم أنها ليست بالحركة أصلا؟
من جهة أخرى، لم يحدث أن حظيت علاقة فلسطينية/عربية/إسلامية بالاهتمام والمتابعة، التي لقيتها ولا تزال علاقة (حماس) بكل من إيران وسوريا، وعن خلفيات هذه العلاقة واشكالياتها يحاول الناطق باسم حماس في لبنان رأفت فهد مرة الاجابة في بحثه المعنون “حماس وإيران وسوريا: مصالح استراتيجية في مناخات متوترة”، فما هي الأسباب التي تكمن خلف التحول الكبير في علاقة حماس بكل من ايران وسوريا، بعد أن بقيت حتى منتصف تسعينيات القرن الفائت تتأرجح بين تأزم وعدائية؟ وما هي تداعيات هذه العلاقة الثلاثية على مستقبل حماس في الداخل والخارج؟
بدوره يرصد ياسر علي كيفية تشكل «صورة» كل من الشخصيتين القياديتين في حماس، المؤسس الشيخ أحمد ياسين، وخليفته الدكتور عبد العزيز الرنتيسي، في نفوس الفلسطينيين عموماً، وأنصار الحركة خصوصاً، فأصبحتا قادة وقدوة لهم.
فهو يرى أنه وخلافا للاعتقاد الشائع، فإن الشيخ ياسين والدكتور الرنتيسي، هما شخصيتان غير متشابهتين، وقد تمثلت صورة «الضعيف القادر على كيد العدو» في الشيخ ياسين، وصورة «العنيد القادر على كيد العدو» في الرنتيسي.
وفي موضوع ما يزال يثير الكثير من الجدل بين الباحثين وحتى داخل الحركة نفسها، يقارب الدكتور عماد جاد جدليات السياسي والعسكري في علاقات حماس مع “الدولة” الفلسطينية، فاذ يشير الى مواقف وتصريحات عديدة من مستويات قيادية مختلفة في (حماس)، تتمحور حول إمكانية قبول الحركة بدولة فلسطينية على أراضي 1967، يثير التساؤل المبرر حول حقيقة موقف حماس من فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة، وطبيعة التحولات التي تمر بها الحركة، وما اذا كانت وصلت إلى درجة من الواقعية السياسية على نحو يجعلها تقدم السياسي البراغماتي على الإيديولوجي المبدئي؟
في المقابل، يرى الدكتور إياد البرغوثي في دراسته عن “الحسم العسكري في غزة: المقدمات والنتائج”، أن أزمة المشروع الوطني الفلسطيني لم تبدأ في يوم 14 (يونيو) حزيران 2007، عندما فرضت حماس سيطرتها العسكرية على قطاع غزة، بل كانت تلك الأحداث إحدى حلقات تلك الأزمة. ولم يكن الظرف الذي فجر الأزمة بين الفصيلين الفلسطينيين الكبيرين –فتح وحماس- طارئا، بل كمنت جذوره في جوهر السلطة الفلسطينية المعاصرة، ومن المآل الذي آلت إليه حركة فتح بعد إنشاء السلطة على إثر اتفاقيات أوسلو، وكذلك في ظروف إنشاء حماس وتطورها، إضافة إلى الإجراءات الاحتلالية الإسرائيلية على الأرض، والأوضاع الإقليمية، وكذلك الوضع الدولي.
في زاوية عروض الكتب يعرض هذا الملف لكتابين على درجة من الأهمية لأي دارس لحركة حماس، هما كتاب الصحافي البريطاني من أصل فلسطيني زكي شهاب “حماس من الداخل: القصة غير المروية عن المقاومين والشهداء والجواسيس”، والحوار المطول الذي أجراه رئيس تحرير صحيفة “الحياة” غسان شربل مع رئيس المكتب السياسي لحماس خالد مشعل ولاحقاً أصدره على شكل كتاب حمل عنوان “حركة حماس وتحرير فلسطين”.
أما دراسة العدد المستقلة، فهي تأتي ضمن سلسلة “في العقل الأصولي”، وحملت عنوان “الإسلام الليبرالي: إشكالات نظرية” للدكتور أحمد البغدادي الذي يرى أن الإسلام بمرجعيته الدينية المقدسة السرمدية المطلقة، والليبرالية بمرجعيتها البشرية النسبية، يجعلان من الحديث حول الدعوة لـ”الإسلام الليبرالي”، مادة لا تخلو من الطرافة والتعجب، لكن في الوقت عينه يسأل هل من الممكن الجمع بينهما في إطار واحد، سياسياً كان أم اقتصادياً أم اجتماعياً؟
هذا، واعتباراً من هذا الإصدار من كتاب المسبار الشهري، تم إضافة باب جديد، هو عبارة عن فهرسة لتواريخ الأحداث الواردة ضمن دراسات الكتاب، ليسهل على القارئ العثور على تاريخ أي حدث بسهولة، وأدرجناه تحت عنوان “تواريخ”.
وبعد، فلقد حاولنا في هذا الإصدار العشرين من كتاب المسبار الشهري، أن نقترب من إحدى الحركات الإسلامية، التي أثارت عديد الإشكالات عبر العقود الثلاثة الأخيرة، وأصبحت رقماً لا يمكن تجاهله أو الالتفاف عليه، مهما كانت درجة الخلاف والاتفاق معها، خصوصاً وأن التحولات والتناقضات التي دمغت حركة حماس منذ نشأتها وحتى الآن، تجعل من تناولها مادة مثيرة للباحثين الساعين إلى سبر التداخل والنزاع الأزلي بين الديني والسياسي والاجتماعي والعسكري.