معاناة أسرة أرمنية: نجاة زبدة الأمة[1]
يرويها: أرمين تسولاج مارسوبيان
)ARMEN T. MARSOOBIAN([2]
ترجمة: بابكر الوكيل[3]
كطفل تربى في مدينة نيويورك، فإن القليل الذي عرفته عن أحداث العام 1915 جاءني من مصدرين: أبوي الناجيين من أعمال الإبادة الجماعية، وأصدقائي الأرمن الأمريكان. لذا كانت معرفتي بسيطة. فقد اقتلعت أمة عمرها أكثر من ألفي عام، واجتثت عرقياً من أرضها التاريخية فيما يسمى الآن بتركيا. القلة الذين نجوا من تلك المذابح انتشروا في دول العالم فيما عرف في التاريخ باسم «الشتات الأرمني». كانت كل الأشياء إما بيضاء أو سوداء، حيث كان الترك يمثلون الجناة والأرمن هم الضحايا.
من هو ذلك الأرمني الذي اعتنق الإسلام؟
لقد نجا والداي، اللذان كانا في ريعان الشباب عندما ارتكبت المجازر، بضربة حظ وبحكم بعض الظروف المحيطة، وكان هناك الكثير من قصص البقاء البسيطة. لم أثقل على والدي بالكثير من الأسئلة حول أمور قد تبدو شاذة أو غريبة بالنسبة لمثيلاتها من قصص النجاة والبقاء. كانت حكاية التطهير العرقي بسيطة: فقد جرى اعتقال كل الأرمن من القرى والمدن، وضعوا في قوافل للتهجير ثم جرى ذبحهم في الطريق أو ماتوا بسبب السير الطويل داخل الصحراء السورية. القلائل الذين بقوا، إما أنهم استقروا بمنطقة الشرق الأوسط أو هاجروا إلى بلاد أخرى.
لكن قصة والدي تختلف عن هذا النمط. فقد تمّ استبقاء والد أمي، المصور المحترف، لأن الجيش العثماني والحكومة المحلية كانوا بحاجة لخدماته. وقد تمكن من إنقاذ حياة المقربين من أفراد عائلته الذين كانوا يعيشون في مارسوفان بينما قضى جميع أفراد عائلته الذين يعيشون في سيفاس (Sivas) وأماسيا (Amasya) وسامسون (Samsun) وفيزيركوبرو (Vezirköprü) وطرابزون (Trabzon) نحبهم. بعد الحرب العالمية الأولى حاولت عائلتي أن تبدأ حياة جديدة في تركيا، ولكنها أجبرت على مغادرتها بعد ظهور حركة القوميين بزعامة مصطفى كمال أتاتورك. أصبحت اليونان ثم الولايات المتحدة موطناً جديداً لهم.
لقد لاحظت حينها أن هناك عنصراً غريباً في قصة أبي، ولكني لم أكترث لذلك. هاجر جدي إلى الولايات المتحدة قبل الحرب العالمية الأولى، ولكنه ترك وراءه زوجته وأطفاله بقريتهم قرب «بالو». نجت هذه العائلة من عمليات التهجير الأولى بسبب الحماية التي وفرها لهم أحد الأعمام ممن اعتنقوا الإسلام. هذا العم اعتنق الإسلام قبل سنوات عدة للحصول على إفراج من سجون السلطان. ثم تزوج من امرأة كردية وعاش معها على جبل بمنطقة نائية. وما لبثت جدتي وأبي أن انتقلا إلى «اليبو» بينما قضى اثنان من ذريتهم في طريق رحلتهم تلك. وكما هو الحال بالنسبة لعائلة أمي استقر أبي في نهاية المطاف في أمريكا حيث التقى أمي وتزوجا.
من هو ذلك الأرميني الذي اعتنق الإسلام؟ الرجل الذي لعب دوراً محورياً في إنقاذ أبي من موت محقق؟ الرجل الذي لم يرد ذكره في سيرة العائلة؟ لقد تعلمت أن المسيحية تشكل جوهر الهوية الأرمنية، الهوية التي تشكلت منذ العام 301 قبل الميلاد، عندما اعتنقت تلك الأمة الدين المسيحي. فقد مثلت المسيحية محوراً لحياة الأرمن خلال أكثر من ألفي سنة من حكمهم بواسطة دول وإمبراطوريات أخرى. وبينما كنت أعرف القليل عن دور هذا القريب الذي اعتنق الإسلام في قصة أبي، فإنني أعرف الآن الكثير عن دور الإسلام في قصة نجاة أمي. بل من الغريب أنني أصبحت أعرف عن تلك القصة أكثر مما تعرفه أمي نفسها. وهذه هي القصة التي سأحكيها لكم.
الصورة المتوارثة
أبدأ قصتي بصورة، صورة رأيتها لأول مرة قبل سنوات عدة عندما كنت أقلب ألبوم صور قديمة لعائلتي. لقد كانت صورة غريبة لأناس لا أعرفهم. بعدها بسنوات عدة آلت تلك الصورة والنسخة التي استخرجت منها ، مع صور كثيرة أخرى، إلى ملكيتي. حيث إنني قد عرفت من أمي الظروف القاسية التي عاشتها عائلتي وقصة نجاتها، فقد أصبح لدي تقدير خاص لتلك الصور المتوارثة على الرغم من غياب الكثير من التفاصيل.
ولدت أمي العام 1911 وكانت في مقتبل العمر عندما بدأت عمليات الإبادة الجماعية. لذا فكل ما تعرفه عن تلك المجازر قد عرفته من خلال أبويها وأشقائها الأكبر. بعد سنوات من وفاة أمي عرفت أنها كانت تجهل الكثير من الأشياء حول قصة النجاة، أو أن ذلك كان قد أخفي عنها. وقد عرفت عن تلك الأشياء مطلع العام 2009 عندما بدأت البحث في السجلات المكتوبة التي تركها أقربائي من الناجين. وسوف أستخدم هذه الصورة لأحكي لكم جزءاً من هذه القصة.
تتمثل مصادري لهذه القصة في مذكرة بحجم كتاب صاغها عمي الأعظم «أرام ديلديليان» (Aram Dildilian)، وتسجيل لخطاب طويل كتبه جدي «تسولاج ديلديليان» (Tsolag Dildilian). تسولاج وأرام مصوران شقيقان يمتلكان استديوهات للتصوير في مارسوفا، سامسون، كونيا وأماسيا. لكن التفصيلات الأهم وجدت في مذكرة كتبتها ابنة أخ (أخت) جدي «مارتيسا ميداكسيان» (Maritsa Médaksian) والتي استعادها وحررها ابن عمي في باريس «هيك دير هاروتيونيان» (Haïk Der Haroutiounian) ([4]).
هنا توصلت إلى اكتشافات مذهلة تتمثل في اعتناق عائلتي الإسلام، وتبنيها الهويات التركية. لقد ذهلت لاكتشاف هذه المعلومة التي كنت أجهلها تماماً. فبينما لم تكن أمي ناضجة بما يكفي لتذكر ذلك التحول، فإن أشقائها الأكبر سناً كانوا يدركون ما يجري. يمكننا أن نتصور احتفاظهم بذلك الأمر سراً حتى على شقيقتهم. ولم يعلم أحد من جيلي بهذا السر. أمامي سجلات مفصلة لمجريات الأحداث اليومية حتى العاشر من أغسطس (آب) العام 1915. لا حاجة لنا بأن نقول: إن هذا التحول لم يكن عملاً طوعياً، حيث إنه قد تم تحت ضغط وقهر الجلاء القسري. لقد علمت من السجلات التبشيرية أن تاريخ العاشر من أغسطس (آب) العام 1915 يتوافق مع تاريخ مأسوي في تاريخ كلية أناضوليا – الكلية التي كان جدي يعمل فيها كمصور. ففي هذا التاريخ أجبر الأرمن من أساتذة الكلية وموظفيها وطلابها وعائلاتهم الذين لاذوا بالحرم الجامعي، على الالتحاق بمسيرات التهجير والجلاء التي قادتهم إلى حتفهم. سادت الشهور التي تلت هذا اليوم المشهود من شهر أغسطس (آب) موجات متصاعدة من الخوف والعنف كانت نتيجتها المباشرة دخول أعداد كبيرة من الأرمن في الإسلام. من خلال البحث في مصادر عدة تمكنت من إعادة صوغ سجل بالأحداث اليومية لتلك الأشهر المروعة من ربيع وصيف 1915. لا أستطيع أن أروي الحكاية بتفصيلاتها في هذه السانحة، ولكنْ هناك تسجيل باللغتين التركية والإنجليزية سوف ينشر أواخر 2014. وعوضاً عن ذلك فسوف أقدم لكم هنا ملخصاً مختصراً لحكايتي.
من مارسوفان تبدأ القصة
بدأت المرحلة الأولى من عمليات الإبادة الجماعية في مارسوفان في 29 أبريل (نيسان) العام 1915، حيث جرى اعتقال القادة السياسيين للأرمن وأرسلوا على الفور إلى سيفاس لإعدامهم. في الثاني من يونيو (حزيران) صدرت الأوامر بتسليم كل الأسلحة النارية والهاربين من الجندية إلى الحكومة. وقد أذعن الكثير منهم لتلك الأوامر، خصوصاً بعد استخدام زعمائهم الدينيين لإقناعهم. في 26 يونيو (حزيران) كان هناك (1200) رجل تتراوح أعمارهم ما بين (20) و(45) سنة قد تمّ اعتقالهم وسجنهم بالثكن العسكرية في المدينة.
واحد من أولئك المعتقلين هو «جاربيد كايرمدجيان»، الذي كان لعلاقاته المالية مع مسؤولي الحكومة المحلية، أبلغ الأثر في المفاوضات الخاصة بمصير المساجين. حيث أقنع كايرمدجيان أولاً السجناء بتسليم أية أسلحة يخفونها في منازلهم. لكنه لاحظ أن فوجاً من السجناء قد جرى إخراجهم من الثكن ليلاً. وعندما حاول معرفة ما يجري بسؤاله آمر قوات الحرس ماهر بيه أُبلغ بأن هؤلاء المساجين قد تم تهجيرهم إلى اليبو. فأقنع كايرمدجيان (Kiremidjian) ماهر بيه بدفع «رسوم» قدرها (50) ليرة عن كل واحد يرغب في اعتناق الإسلام هرباً من التهجير. وقد ضمنت التقارير الأولية حول عمليات التعذيب التي شهدتها الثكن بمذكرات العائلة.
بدأت التحولات الجماعية الأولى من المعتنقين الإسلام في مارسوفان (Marsovan) نهاية يونيو (حزيران) وبداية يوليو (تموز). وقد أصدر وزير الداخلية طلعت باشا أوامره بوقف التحول إلى الإسلام عندما علم بأن العديد من الأرمن يريدون الدخول في الإسلام هرباً من الموت، مقوضاً بذلك خطة جمعية «الاتحاد والترقي» لخفض عدد الأرمن إلى ما دون 10% بكل سنجق. أعلنت الأوامر الرسمية بالجلاء عن ماسوفان في 4 يوليو (تموز). وبينما كانت هناك مبالغة في أعداد من تحولوا إلى الإسلام، فإن كايرميدجان يلخصها في أن «حوالي (3000) شخص وزوجة -كبيراً وصغيراً- قد تحولوا إلى الإسلام»([5]). بعدها كتب كايرميدجان أن قانون الـ10% قد تم تطبيقه، وأن ما لا يزد على (1200) ممن دفعوا «الرشوة» هم من حق لهم البقاء بينما (1800) آخرون ممن تحولوا للإسلام تم تهجيرهم. وأضاف أن نسبة كبيرة من الأرمن البروتستانت هم من أبدوا الرغبة في التحول عن دينهم، بينما رفض الكاثوليك والأرثوذكس التحول عن دينهم. بحلول شهر أغسطس (آب) كان الأرمن الذين لم يتحولوا عن دينهم، الباقون في مارسوفان، هم أولئك الذين يقيمون في مساكن كلية أناضوليا والمناطق المجاورة لها، بمن فيهم عائلتي، الديلداليين والدير هاروتيونيين. أما زعماء كلية أناضوليا فقد نجحوا في رشوة المسؤولين المحليين لحماية مدرسي الكلية وعائلاتهم([6]).
لقد ذهب كل هذا العمل المضني هباءً عندما اقتحمت قوات الدرك (الجندرمة) الحرم الجامعي، وقامت بترحيل الأرمن في العاشر من أغسطس (آب). وكان جدي تسولاج قد تلقى تحذيراً من ماهر بيه بأن وعد الحماية الذي حصل عليه لن يستمر إلاّ إذا اعتنق الإسلام. وبعد نقاش مستفيض داخل العائلة وبتشجيع من كايرميدجيان تحولت العائلة إلى الإسلام في نهار 10 أغسطس (آب). بعد هذا التحول أصبح المسرح مهيأ للعودة إلى صورتنا المحيرة.
من هم الذين بالصورة؟
دعوني الآن أطرح بعض الأسئلة، بعضها بسيط وأخرى صعبة: متى أخذت تلك الصورة؟ وأين؟ من هم الظاهرون بالصورة؟ وماذا يفعلون؟ ما الرسالة التي يحاول هؤلاء إيصالها من خلال هذه الصورة؟ السؤال الأخير والأهم بالنسبة لأهدافنا هو: كيف اجتمع هؤلاء الناس في هذا المكان والزمان المحددين لأخذ هذه الصورة؟
الإجابة عن هذا السؤال – متى أخذت هذه الصورة؟- تجيب عنه اللوحة المعلقة خلف الصورة، والتي تعني ترجمتها «يسوع ولد 1916». إذن هؤلاء الأشخاص يحتفون بميلاد المسيح، وفي هذه الحالة، أعياد الميلاد الرسولية الأرمنية التي يحتفل بها الأرمن في 6 يناير (كانون الثاني) من كل عام. ونعرف من خلال ذكريات ماريتسا أن أمها هاجانوش الظاهرة بالصورة، والتي تسند رأسها إلى ذراعها الأيسر، والتي كانت كاثوليكية متزمتة، ليست مثل شقيقها تسولاج، الذي تبنى البروتستانتية. ورد بالمذكرات أن أول عيد ميلاد بعد التهجير قد جرى الاحتفاء به سراً في منزل دير هاروتونيان، وهذا يجيب عن سؤالنا الثاني حول أين أخذت الصورة.
(منزلنا هو الأول بالسلالم قرب أطراف المدينة. صورة لمنزل هاروتونيان رسمها ابن هاجانوش أرام قبل (50) سنة عندما أجبر على ترك منزله)([7]).
منزل واستديو تسولاج (سقف مقعر مع زجاج) وتظهر كلية أناضوليا على خلفية الصورة
الإجابة عن السؤال الثالث – من هم الذين بالصورة؟- تأخذنا مباشرة إلى موضوع الأشخاص الذين أنقذتهم عائلتي. فالأشخاص الخمسة الذين في الصورة هم من الشباب ممن هم في سن الخدمة العسكرية. حيث إن الرجال الشباب قد تم استدعاؤهم للخدمة العسكرية قبل التهجير. من المحتمل أن التحول إلى الإسلام قد مكن البعض من تجنب التهجير، ولكنه لم يعف أحداً من التجنيد الإلزامي. سمح لأرام ديلدليان، الذي يظهر في الخلف إلى اليمين، باعتناق الإسلام ومنح الاسم التركي «ذكي». ولكنه كان مقطوع الرجل، مما أعفاه من أداء الخدمة العسكرية. أما الشبان الأربعة الآخرون في الصورة فيعتبرون فاريين من الجندية في ذلك الوقت، مما يعرضهم للاعتقال والإعدام الفوري. وبشكل عام، فإن كل الأرمن الذين كانوا يخدمون في الجيش العثماني قد تم تجريدهم من السلاح وضمهم إلى كتائب العمل بناء على التعليمات العسكرية التي أصدرها أنور باشا في 25 فبراير (شباط) العام 1915. بحلول الربيع تم ذبح هؤلاء الجنود جميعاً. أما الشبان الأربعة الذين في الصورة، فقد اخْتَبَأوا في منزل هاجانوش منذ أغسطس (آب) العام 1915. وقد تمكنا من خلال مصادر عدة التعرف عليهم جميعاً: خاتشادور جورجوديان (بالصف الخلفي، الثاني من اليسار الذي يرتدي قبعة القسيس)، حاج فيليزيان (الصف الخلفي إلى يسار أرام ويضع يديه على كتفي الرجل الجالس أمامه)، جاربيد ميداكسيان (الرجل ذو اللحية الذي يجلس أمام فيليزيان) ليمويل كيرينيان (الجالس تحت ميداكسيان، ويعزف على الآلة الموسيقية)([8]). خاتشادور(Khatchadour) وحاج فيليزين(Haïg Filizian) وليمويل شيرينين (Lemuel Chirinian) كانوا جميعهم طلاباً في الكلية، بينما كان جارابيد معلماً بورشة النجارة التابعة للكلية. وهنا صورة لليمويل(Lemuel) في أيامه السعيدة: الشبان الأربعة الآخرون هم أربعة من أبناء حاجانوش (Haïganouch’s) الخمسة([9]).
السؤال التالي -ماذا يفعل هؤلاء الناس؟- تمت الإجابة عنه جزئياً: يحتفلون بأعياد الميلاد. فبالإضافة إلى الإنجيل والصليب الذي يحمله خاتشادور (Khatchadour)، هناك أشياء عدة تستخدم في القداس تشمل: رقائق الفطير، وكأساً يحوي -على ما يبدو- ماء، وشمعدان بلا شمع، وحامل بخور. فهل غياب الشمع والبخور يعكس واقع حرمانهم وفي الوقت نفسه تمسكهم بمعتقداتهم؟
لقطة مقربة من صورة احتفالات الميلاد تظهر أشياء على الطاولة مما يستخدم في القداس.
توثق العائلة لهذا الاحتفال بأعياد الميلاد للأجيال القادمة، وفي الوقت نفسه تعكس تمسكها بمعتقداتها على الرغم من اضطرارهم لاعتناق ديانة مضطهديهم. كما قد يعكس ذلك رسالة سياسية. فالعلم الذي على الطاولة يحوي ثلاث قطع من القماش بشكل أفقي واثنتين بشكل منحرف على كل واحدة منها ثلاثة نجوم. وهذا يمثل علم «جمعية الطلاب الأرمن في جنيف»([10]).
حيث إن جنيف كانت تمثل مركزاً للنشاط القومي للأرمن في دول الشتات في تسعينيات القرن التاسع عشر. فكل من حزب «الهنشاق الديمقراطي الاجتماعي» (هنشاق) (Social Democrat Hunchakian Party) (SDHP) وحزب «الاتحاد الثوري الأرميني» (طاشناق) يمارسان نشاطهما السياسي في جنيف، حيث تأسس حزب «هنشاق» (Hunchaks) بواسطة طلاب الجامعة من الأرمن. بناء عليه، فإن هذه الصورة تمثل حالة من المقاومة -مقاومة روحية وباسم الأمة الأرمينية الوليدة.
عمليات التهجير: نجاة زبدة الأمة
نأتي الآن إلى السؤال الأخير بخصوص هذه الصورة القديمة، وموضوع بقاء الأرمن في مارسوفان (Marsovan): كيف جاء هؤلاء الأشخاص إلى هذه البقعة المحددة وفي هذا التوقيت بالذات؟ سوف أوجز لكم كيف حدث ذلك.
استمرت عمليات التهجير من حي إلى حي من أواخر يونيو (حزيران) إلى يوليو (تموز). قامت هاجانوش (Haïganouch) أولاً بتوسيع مكان اختباء العائلة. ولكنها بعد أن رأت جيرانها الأرمن يقتادون بالقوة خارج منازلهم قررت في يوليو (تموز) الانتقال إلى منزل شقيقها على الجانب المقابل في الطريق من الكلية. كان شقيقها تسولاج قد أعفي من التهجير بواسطة ماهر بيه([11]). حيث لتسولاج علاقات مهنية وشخصية في الكلية. وكان أشقاؤه وأبناؤه طلاباً بها. فهو مصور الكلية، والشخص المسؤول عن تشغيل جهاز الأشعة بالمستشفى، وهو المشرف على محل الأدوات المكتبية.
حيث استمرت عمليات التهجير طوال شهر يوليو (تموز) وأصبح الطلاب الأرمن على يقين من أن الكلية سوف لن توفر لهم الحماية المطلوبة. فاتفق ثلاثة منهم: هوفهانيس سيفاسليان وهاجوب كايايان وجاربيد ميداكسيان، أصدقاء شقيق تسولاج أرام المقربون، على أنه حين يأتي وقت ترحيلهم أن يهربوا إلى المناطق الجبلية البعيدة إلى قرية جالينسين (Galinsin) اليونانية. فقرر أحد زملائهم من اليونانيين ويدعى أندرياس مساعدتهم عند وصولهم إلى تلك القرية([12]). وقد تمثلت خطتهم في العيش على ما تجود به الأرض، وأن يخشوشنوا طوال موسمي الخريف والشتاء، على أمل أن تتم هزيمة الجيش العثماني على الجبهة الروسية المنهارة خلال فصل الربيع. قاموا باكراً بدفن البنادق والذخيرة والفؤوس بأماكن خفية بالحرم الجامعي. وفي نيتهم استخدام البنادق لاصطياد ما يأكلونه، ولكنهم سرعان ما عرفوا أن امتلاكهم لهذه الأسلحة سوف ينتهي بمجرد بدء عمليات التهجير. كما أنه لم يكن قانونياً في ذلك الوقت أن يمتلك الأرمن سلاحاً. ولكنهم حصلوا على وعد من أرام بأنه وبمجرد إخلاء الحرم الجامعي سوف يعود ويهرب الأسلحة عبر الشارع إلى منزل شقيقه. وسوف يحاولون الانقطاع عن قافلة الترحيل والعودة لأخذ معداتهم([13]).
لقد جاء اليوم الحاسم لترحيل الأرمن من الكلية. حيث وصف اليوم العاشر من شهر أغسطس (آب) 1915 في السجلات التبشيرية بشكل مفصل، خصوصاً في أعمال وايت وكومبتون ومورلي، التي أشرنا إليها سابقاً. كما أن هناك تسجيلات مفصلة بمذكرات أرام وماريتسا حول ما جرى في الحرم الجامعي وما حوله في ذلك اليوم. ففي الصباح الباكر من ذلك اليوم كان أرام يعمل بإحدى ورش النجارة بالحرم الجامعي. حيث حذره الأستاذ جيتشيل (عميد الكلية) من وصول قوات الدرك إلى الجامعة لترحيل الأساتذة والموظفين والطلاب الأرمن وعائلاتهم. وقد نصحوه بالهروب إلى منزل تسولاج بالجهة المقابلة من الشارع، فانسحب عبر «بوابة الأساتذة» وغادر إلى المنزل. وقد جاءت رواية مشابهة على لسان ماريتسا([14]). اجتمعت العائلات على أسطح المنازل ينظرون غير مصدقين لأرتال من الأرمن مع حاجياتهم يوضعون على عربات كارو تقودها الثيران وتسير بهم عبر طرقات القرية. وقد وفر سطح المنزل مكانا مناسبا لمشاهدة كل ما يجري في الحرم الجامعي والمناطق المحيطة به.
منزل عائلة تسولاج بالجهة المقابلة لكلية أناضوليا حيث تمكنت العائلة من مراقبة عمليات التهجير للأرمن من على سطح البيت
وقد علق أرام بقوله: «إننا نرى منظراً مأسوياً… واحدة تلو الأخرى كانت عربات الكارو التي تجرها الثيران تخرج من البوابة الرئيسة حيث الجنود مدججون بالحراب من الجانبين… يراقبون جيداً… كل أساتذتنا ومدرسينا وزوجاتهم وأطفالهم وكل طلاب الكلية وعمالها… بعيون ملؤها الدمع كنا نراهم يسيرون واحدا خلف الآخر، أملنا الأخير في نجاة زبدة أمتنا…»([15]).
عربات الكارو التي تقودها الثيران تستعمل في أغراضها الأصلية في حصاد الحبوب وليس البشر. سهول مارسوفان، سيركا، (1913).
هذا الفهم «نجاة زبدة الأمة» هو الذي دفع أرام وعائلته في سعيهم لإنقاذ القليل من الأرمن الذين تمكنوا من الهرب من التهجير. هؤلاء الشباب من رجال ونساء من كلية أناضوليا، الذين خبأتهم العائلة لعامين أو أكثر يزرعون الأمل بأن الأمة سوف تولد من جديد عند توقف الحرب.
بدأت تلك الجهود لأجل الإنقاذ وتوفير الملاذ الآمن على الفور. فالوعد الذي قطعه أرام لزملائه: هوفهانيس وهاغوب وغارابيد، يجب الوفاء به. وقد حاول هؤلاء الأصدقاء الثلاثة الهروب من قافلة التهجير والعودة إلى منزل تسولاج في جنح الظلام للتزود بالمواد والهروب إلى الجبال المجاورة. وفي حلكة ليل العاشر من أغسطس (آب) يصل الشباب إلى منزل جدي ويتم إخفاؤهم موقتاً بغرفة الغسيل المهجورة لدى الجيران. تصف مذكرات أرام السبل التي سلكها لإحضار الأسلحة من الكلية إلى حيث يختبئ أصدقاؤه بالمنزل المجاور. يقوم تسولاج وزوجته ماريام بتزويد الرجال بالطعام والبطانيات لينطلقوا إلى الجبال. يبقى أرام على اتصال معهم من طريق وسيط، حتى تزويدهم بالدواء لمن يسقط منهم مريضاً.
لقد رويت قصة هروبهم للعائلة، وتم تسجيلها بمذكرات كل من أرام وماريتسا. لقد هرب الطلاب الشباب من قافلة التهجير عندما توقفت لدى أحد الأديرة خارج المدينة. فعندما كانوا يرتاحون عند الدير طلب منهم بعض الأرمن الذين اعتنقوا الإسلام مساعدتهم في إصلاح بعض المعدات الزراعية. فاغتنموا الفرصة للاختفاء، وبمساعدة رجل شرطة تركي يدعى إيبيك أغا تمكنوا من العودة إلى منزل جدي.
تحوي مذكرات ماريتسا عبارات عاطفية مقلقة. فقد ضمت قافلة غارابيد أمه وأخواته. ولأسباب عملية لم تشتمل خطة الهرب إلى الجبال على أخذ أية نسوة، ومن ثم اضطر غارابيد لترك أمه وأخواته لمواجهة مصيرهن المحتوم. وقد أعطته أمه معطفها الخاصة كما أعطته إحدى أخواته ميداليتها الخاصة بحفل التنصير ليبيعها لتسهيل نجاته. وكتب ماريستا: «بعدها ذهب غارو ورفقاؤه للاختباء وسط سيقان القمح. بعد لحظات تحركت قافلة الترحيل، وعندما مرت به أمه وأخواته شعر جارو بالرغبة في اللحاق بهن، ولكن رفقاءه أمسكوه حتى لا ينكشف مكان اختبائهم. عموماً، ما المساعدة التي كان يمكنه تقديمها لأمه وأخواته؟ كان سوف يعدم قبل أن تصل القافلة إلى حقل السوسن. وهي أرض واسعة تغطيها زهور السوسن الزرقاء والبيضاء والصفراء([16]).
كان ذلك آخر لقاء بين غارابيد (Garabed) وأهله. لا أحد يدري متى وكيف قضوا نحبهم([17]). كل ما يمكن التفكير فيه: هل لقوا حتفهم في حقل السوسن أم خارجه؟
لقد كان برد الجبال لا يحتمل لهؤلاء الشباب، مما حدا بهم للعودة مرة أخرى إلى منزل العمة هاجانوش(Haïganouch’s)، حيث قام أرام بتوسيع مكان الاختباء السري. وهذه هي اللحظة التي وجد غارابيد ميداكسيان (Garabed Médaksian) نفسه في ذلك الاحتفال بأعياد الميلاد. ولدى وصول الشباب الأربعة بدأ أرام بناء مكان آمن للاختباء:
لقد بنينا ملجأً آمناً ومريحاً تحت الأرض كمكان للاختباء مكوَّن من جزئين، بحيث إذا كشف أحدهم بقي الملجأ الآخر آمناً… كما ركبت نظاماً للتكييف لدخول الهواء النقي فأصبح لدينا غرفة تسع ثمانية أشخاص… كما وضعت برج مراقبة مزوداً بمرآة تعكس كل الاتجاهات، تكشف للشباب أية تحركات خارجية مشبوهة([18]).
كما تم بناء ملاجئ سهلة الكشف حول المبنى حتى تلفت نظر رجال الأمن فيبحثون داخل هذه الملاجئ الوهمية فلا يجدون أحداً ومن ثم يعرفون أنه لا يوجد أحد بالمنزل. في الليل قاموا بزيادة ارتفاع الجدران الخارجية لمنزل العائلة باستخدام الطوب المشمس.
ما لبثت تلك المخابئ أن ضمت خاتشادور جورجوديان (Khatchadour Gorgodian)، الثاني من الأربعة رجال الذين بالصورة مع شقيقه الذين اخْتَبَأوا بمنزل مهجور مجاور. أصبح الآن هناك ستة رجال يختبئون بالمنزل، ولكن القصة لم تنته هنا لأن آخرين قد قدموا. يصف أرام وصول ليمويل شيرينيان، زميله والموسيقي الموهوب الذي يرتبط بصلة الزواج مع شقيقته الكبرى بارانتسيم (Parantsem) -الأخت التي لقيت حتفها في رحلات التهجير. كان ليمويل مختبئاً في الحرم الجامعي حتى أمره رئيس الجامعة جورج وايت بمغادرتها. يواصل أرام: «لاحقاً، وصلنا إلى هاروتيون الذي كان مختبئاً وحده في مصنع مارديروس للحرير، ثم محاولة مهران الاختباء هنا وهناك، وحاج فيليسيان الذي تمكن من الاختباء في غرفة سفلى بالكلية… الآن لدينا عشرة رجال، وهذا كثير على غرفة واحدة وخطرعلى أمن الجميع…»([19]). أخيراً، ينضم إليهم ثماني نسوة شابات من مدرسة أناضوليا للبنات، لخوفهن من أن تأخذهن عائلات تركية وتزوجهن. وقد تطلب ذلك توسيع أماكن الاختباء. فبالإضافة إلى هاجانوش وصغارها الخمسة أصبح هناك (23) شخصاً يعيشون في البيت في وقت واحد.
في الوقت نفسه الذي كان فيه أرام وهاجانوش يخبئون هؤلاء الشباب، كان هناك عدد غير معروف من الشباب يختبئون بمنزل جدي تسولاج بجوار الكلية. بعد سنوات تتذكر أمي ظهور واختفاء مجموعة من الرجال الشباب بالمنزل. لم يكن هناك من يعرف عن ذلك مما جعلها تتشكك في أن ما تراه مجرد أشباح. فلا تسولاج ولا هاجانوش كانا يعرفان تفاصيل نشاطات كل منهما ودوره في إيواء هؤلاء الشباب. كما لم يكن أي منهما يعرف عن إستراتيجية السلامة والأمن. فكلما قل ما يعرفه كل طرف عن نشاط الآخر ضاقت فرص الخيانة. لقد تمكنا الآن من كشف غموض كيف اجتمع هؤلاء الرجال الأربعة: غارابيد، خاتشادور، ليمويل، وحاج فيليسيان، في تلك الصورة القديمة لاحتفالات أعياد الميلاد -الاحتفال الذي أقيم بمنزل أحد الأرمن ممن يدعون اعتناق الإسلام والهوية التركية. أود أن أختم حكايتي ليس بكلمات بل بصورة. أبطال هذه القصة هم: تسولاج، أرام وهاجانوش، ثلاثة أقرباء غامروا بحياتهم لإنقاذ رفقائهم، والذين لم يتم الاعتراف أبداً ببطولتهم تلك.
تسولاج ذو اللحية إلى اليسار، هاجانوش إلى اليمين وأرام واقفا في الخلف
[1] نشرت هذه المادة في كتاب المسبار الشهري “التبشير في المشرق وأفريقيا: مراجعة نقدية ورؤية متعددة الأبعاد” (الكتاب الخامس والتسعون، نوفمبر/ تشرين الثاني 2014).
[2] باحث أمريكي من أصول أرمنية، أستاذ الفلسفة في جامعة جنوب ولاية كونيتيكت (Southern Connecticut State University ).
[4] Aram Dildilian, «The Memoir of Aram Dildilian» (unpublished manuscript), edited by Ara Dildilian, Humayag Dildilian and Armen Marsoobian (date unknown), Maritsa Médaksian, «A Childhood in Marsovan, 1901-1921,» translated by Haïg and Edourd Der Haroutiounian, 2009.
[5] Garabed Kiremidjian, «The Life of the Kiremidjian Family,» David Kiremidjian, ed., Unpublished manuscript, 2007, p. 65.
[6] George E. White, Adventuring with Anatolia College, Grinnell, Iowa: Herald Register Publishing, 1940, Carl C. Compton, The Morning Cometh: 45 Years with Anatolia College, Anatolia College, 2008, Bertha B. Morley, Marsovan 1915: The Diaries of Bertha B. Morley, ed. Hilmar Kaiser, Ann Arbor, Mich.: Gomidas Institute, 2000.
[7] Haïg Der Haroutiounian, Polyphonies anatoliennes: Chronique de l’itnéraire d’une famille arménienne à la fin de l’empire ottoman, Yozgat-Sivas-Marzevan, 1872-1922, Mémoire présenté en vue diplôme de l’EHESS, Paris 2007, p. 8.
[8] Ibid, p. 157.
[9] حاجوحي (يحمل الإنجيل، الصف الخلفي أقصى اليسار)، ماريتسا (جالسة أسفل حاجوحي)، حاجازون (جالس بصف والدته حاجانوش)، أرام (أقصى أسفل اليمين). حاجوني، الطفل الخامس، ليس موجوداً في الصورة لأنه على الأكثر من التقطها. تقول مذكرات ماريتسا إن خاتشادور، الذي يحمل الصليب، كان يطمح أن يكون أرشيمندريت في الكنيسة الأرمنية، لكنه تردد بسبب عهد العفّة الذي كان عليه قطعه.
[10] التقط صورة علم جنيف حاج دير هاروتيونيان وتمّ إعادة إنتاجها بأحرف تركية. يصف العلم كالتالي: **فرنسي**. تجدر الإشارة إلى النجوم السنة التي ترمز إلى المقاطعات الست ذات النسبة السكانية الأرمينية العالية حتى سنة 1864.
. Erzurum, Van, Bitlis, Kharpert, Diyarbekir andSivas.], p. 157.
[11] يشرح أرام ديلديلان كيفية وقوع هذا العفو: «ذهب أخي للقاء القائد وطلب النصيحة منه، فأكّد لأخي أنّ أسرتهُ ستكون بخير ولن يتعرض إليها أحد لأنهم كانوا بحاجة إليهِ (كانوا المصورين الوحيدين في المقاطعة). سألَ القائد بعد ذلك عن أختنا التي انتقلت إلى بيتنا لأن دارها كانت الأخيرة ضمن حدود المدينة، وكذلك عن جارنا أستر هانوم وخادمته، فأعطاه القائد ثلاثة ملصقات لكلّ بيت لكي لا يتعرض لهم أحد».
«The Memoir of Aram Dildilian» (unpublished manuscript), edited byAra Dildilian, Humayag Dildilian and Armen Marsoobian (date unknown) p. 144-145.
[12] In Maritsa’s memoir, the Greek classmate is called Philos.
[13] Dildilian, pp. 148-149. Maritsa’s memoir, pp. 83-85.
[14] وصفتُ تفاصيل أحداث مارسوفان في العاشر من أغسطس (آب) 1915 أثناء محاضرة بعنوان:
«At the Crossroads of Family and Institutional Memory: the Armenians of Marsovan and Anatolia College.»
[15] Dildilian, p. 149.
[16] Médaksian, p. 85.
[17] Ibid, pp. 84-85.
[18] Ibid, p. 158.
[19] Ibid, p. 159.