نعني بـ”المؤسسات الدينية”، التي اخترناها لتكون موضوع الإصدار الثلاثين من كتاب المسبار الشهري، تلك المؤسسات الدينية التي تتبنّاها الدولة بشكل رسميٍ، فلا يدخل في اهتمامنا الأفراد من الفقهاء والعلماء وأمثالهم، مع التطرق للحركات الإسلامية غير الرسمية، وما هي طبيعة العلاقة بينها وبين المؤسسة الدينية الرسمية؟ وهل استفادت الحركات الإسلامية من ضمور التأثير وانكماش المصداقية بالنسبة لتلك المؤسسات الرسمية؟ وما هي الطرق المثلى التي يمكن أن تنهض بدور هذه المؤسسة من جديد؟
لقد شهد دور المؤسسة الدينية في العالم الإسلامي موجات من المدر والجزر، على طول تاريخها، وبخاصة في عصرنا الحديث، هذا العصر الذي ثار الحديث فيه عن أزمة المؤسسة الدينية وعن إشكالات دورها ومهماتها، وعن التحديات الجديدة، وبخاصة الدينية، تجاهها والتي لا تبدأ من الحركات الدينية الصاعدة منذ عشرينيات القرن العشرين، كما لا تنتهي بالفضائيات الدينية والزخم الديني والدعوى على شبكة الإنترنت، وهو ما يراه الكثيرون سحبا للبساط من تحت أقدامها.
وفضلا عن هذا الصعود للبدائل التي ملأت فراغات خلفتها أزمة المؤسسة الدينية الإسلامية المعاصرة وراءها، وقيام هذه البدائل بكثير من الأدوار التي كان معهودا أن تقوم بها المؤسسة الدينية، إلأ أن هناك أزمات بنيوية متعلقة ببنائها وتقنينها، وخطاب كثير من الممثلين لها، من هذه الأزمات ما يتعلق بالشأن الديني المحض، ومنها ما يتعلق بالشأن الدنيوي الخالص، أو يجمع بينهما.
من هنا تأتي أهمية هذا الكتاب، والذي حرصنا فيه على تنوع الآراء والاتجاهات، وزوايا الرصد والبحث والتحليل، ولم نكتف بالتطرّق للمؤسسات الدينية الأشهر، بل تناولنا بعضاً من المؤسسات الأقل شهرة، ليشمل الكتاب ما يمكن أن ندعوه مؤسسات المتن (شأن الأزهر والمؤسسة الدينية السعودية والزيتونة وغيرها)، ومؤسسات الهامش، أي تلك الأقل شهرة أو الأقل اعترافا في عرف البعض.
وسعينا أن نقرأ المؤسسات الدينية الرسمية من منظور مقارن ومتنوع، كما نستكشف تحدياتها المختلفة، سواء في فضاء بنياتها، أو علاقاتها بالتمثلات الإسلامية الحديثة، أو منتوجات الثورة المعلوماتية ما بعد الحديثة، فقد لاحظنا ندرة أو غياب أي كتابات كلية وشاملة بهذه المؤسسات في المكتبة العربية حتى يوم الناس هذا، بل نظن أن كتاب المسبار الثلاثين، ربما يكون الكتاب الأول الذي يفتح هذا الباب الذي طالما ظل موصدا، مستكشفا لهذه المؤسسة التاريخية الراسخة، بمدها وجزرها، بطموحاتها وتحدياتها، وقارئا معه في الآن نفسه إشكالات المشهد والخطاب الإسلامي الرسمي المعاصر في كثير من مناحيه.
في البداية يقرأ الدكتور سعيد بن سعيد العلوي في دراسته “المؤسسة الدينية والتجديد في العالم العربي” سؤال التجديد والتحديات العولمية، ومفهوم الإصلاح ودور المؤسسة الدينية فيه، من خلال تحديده لمفهوم الحقل الديني، وتتبعه طروحات الإصلاحيين مشرقاً ومغرباً، ومستكشفاً التحديات المطروحة على المؤسسة الدينية الرسمية، في ظل صعود المواقع الإسلامية على شبكة الإنترنت، وتحديات جديدة لم يكن للمؤسسة الدينية التقليدية علم بها فيما سبق.
ثم يقدم المؤرخ المعروف الدكتور عاصم الدسوقي دراسته المعنونة “مشيخة الأزهر والسلطة في مصر”، والتي يراها اتسمت دائما بحالة من الشد والجذب، منذ تأسيس هذه المؤسسة الدينية العتيدة، وأن مجموعة القواعد والقرارات التنظيمية لشؤون الجامع الأزهر ومعاهده، أوضحت مدى حرص السلطة السياسية على الهيمنة على شؤونه، لما له من مكانة عالية بين الناس، وهو ما يراه الباحث أمراً مستمراً حتى العصر الحاضر، مما غيب الأزهر بشكل كبير عن فضاء التغيير الاجتماعي، بعد أن كان حاضراً بقوة في فضاء التحرر الوطني، أثناء المرحلة الاستعمارية.
بينما يقرأ الدكتور سليمان الضحيان في دراسته “هيئة كبار العلماء في السعودية: التأسيس والوظيفة” المؤسسة الدينية السعودية، في أحد أهم تشكلاتها، مؤكداً منذ البداية على العلاقة التاريخية والتحالفية بين السلطة السياسية والدينية في المملكة، منذ عهد الدولة السعودية الأولى وحتى الآن، كما يقرأ تطور مسار هيئة كبار العلماء منذ التأسيس، والعلاقة بالمؤسسات الدينية الأخرى، ودورها وطرق اختيار أفرادها، واحتمالات نقدها، وتأثيرها الذي امتد في أحيان كثيرة خارج حدود المملكة، وخلص الضحيان إلى أن المقارنة بين حضور الهيئة حين تأسيسها وحضورها اليوم، تظهر فارقا هائلا من حيث التأثير، والمكانة، والحصانة.
ثم يتناول الباحث العراقي المقيم ببريطانيا الدكتور إبراهيم العاتي المؤسسة الشيعية منذ تأسيسها تاريخياً، وحتى ظروفها المعاصرة، وأهم إشكالياتها وأزماتها، والفارق بين تشكلاتها ومرجعياتها المختلفة، في إيران والعراق وغيرهما، والدور السياسي لها، والموقف المذهبي، سواء على المستوى الداخلي والعملي، أم على المستوى النظري.
ويقدم الباحث التونسي عبد الحق الزموري في دراسته المعنونة “المؤسسة الدينية في تونس القرن 18” علاقة المؤسسة الدينية في تونس في تلك المرحلة التاريخية، بالمؤسسة السياسية، والأدوار التي قامت بها على عتبة الحداثة وقيام الدولة الوطنية، متسائلا في الآن نفسه عن مدى توصل السلطة إلى تدجينها واستتباعها، أو مدى حفاظها على استقلاليتها، وتأثيراتها المباشرة وغير المباشرة في الأحداث، كاشفاً عن بعض الخلفيات التاريخية المهمة.
ويتتبع الباحث الجزائري د. بومدين بوزيد في دراسته “المؤسسة الدينية والأصولية الجزائرية”، واقع تلك المؤسسة، محللاً طبيعتها، وصراعها مع الحركة الإسلامية التي برزت مع بداية الثمانينيات في القرن العشرين، وكيف صار “منبر المسجد” ساحةً حاولت الجماعات الدينية افتكاكها من علماء دين، اعتبرتهم رسميين ومغيرين لمعنى النص الديني، في صالح إيديولوجية السلطة، واشتد الصراع أكثر في زمن التسعينيات، حين كفر أئمة المساجد، وطال القتل أرواحهم، ويرى الباحث أنه خلال هذا الصراع على التأويل كان العنصر الديني “قيمة كان أو مؤسسة”، وظيفياً في سياق العملية الاجتماعية، وفي سياق الفعل السياسي والثقافي، حيث تشكلت في الجزائر هوية دينية مميزة تم تكريسها في مواجهة العنفية الجهادية، يمكن دعوتها -كما قال الباحث- مالكية أشعرية وأحيانا صوفية- في مواجهة السلفية الجهادية.
وفي دراسة الشخصية يقدم الدكتور مصطفى لطفي الإمام محمد عبده ودوره في إصلاح الأزهر، حيث يرى أن الإمام عبده يظل رائد إصلاح المؤسسات الدينية بامتياز، إذ كان دوره أولياً وأساسياً في السعي لتطوير هذه المؤسسات، وإصلاحها فكريا، كما لم تتجاوزه أطروحات الإصلاح سواء على مستوى المؤسسة أو التعليم حتى الآن، ويؤكد الباحث أن إصلاح المؤسسة الدينية كان جزءا من المشروع الإصلاحي لمحمد عبده، حيث توزع مشروعُه على الأبعاد الثلاثة التي شملها مشروعه، وهي المقاربة العلمية للظاهرة الدينية، والإصلاح الديني الذي يعتمد على المصالحة بين الدين والعلم، وتطوير المؤسسة الدينية من أجل هذا الغرض.
ثم تأتي دراسة “المؤسسات الدينية الجديدة الطرح البديل” التي أعدتها وحدة البحوث بالمركز، تعميقا لسؤال التحدي المطروح على المؤسسة الدينية الإسلامية، وهو ما ألجأ بعض أبنائها لتأسيس تجمعات علمائية ومدنية بديلة للقيام بأدوار-ترى- عجز المؤسسة التاريخية عن القيام بها، أو قصور أدائها فيها، مركزة على حالتين، هما: جبهة علماء الأزهر، والاتحاد العالمي للعلماء المسلمين، ولكن تلاحظ الدراسة قرب أطروحات هذه المؤسسات البديلة من طرح الجماعات والحركات الأصولية، وتسييسها بشكل كبير.
ويقدم الباحث عمر مسقاوي دراسته عن “دار الفتوى في لبنان”، متتبعا تطورها التاريخي وقوانينها الناظمة منذ العهد العثماني حتى العصر الحالي، كممثل للمسلمين السنة في لبنان، ويخلص الباحث في دراسته إلى أن الوضع الحالي لمؤسسة دار الفتوى، يحتاج إلى تحديد استراتيجية تتصل بالأهداف القريبة والبعيدة لهذه المؤسسة، ضمن الواقع اللبناني، وبالخصوص ما يتعلق بتمثيل «المسلمين» رسميّاً، وهو أمر يتصل بواقع تركيب الدولة اللبنانية.
ثم تأتي دراسة هاني نسيره “حرية التعبير: أي دور للمؤسسة الدينية؟” والتي يلح فيها على غياب أدوار مهمة عن المؤسسة الدينية في الإفتاء والتوجيه الديني والعلمي وترشيد التطرف، بينما حضر بقوة دورها في المصادرة وتكفير الاتجاهات الحديثة، والتقارب مع أطروحات التطرف ذاته، ويؤكد نسيره في دراسته على أن دور المؤسسة الدينية وطبيعته تتحكم فيه عوامل عدة، منها طبيعة الدولة الموجودة بها، وكذلك القائمون عليها، والفرقة أو المذهب التي تعبر عنه.
ويقدم وسام فؤاد دراسته” المؤسسات الدينية الرسمية والفتوى” منطلقا من تحديده أن الوظيفة الاجتماعية للمؤسسة الدينية في المجال العام، تكون عبر جسر الفتوى والإفتاء، وعارضاً علاقة الفتوى وأنواعها ووظيفتها، وبخاصة ما يسميه “فتاوى الأمة”، وهي الفتاوى ذات الطبيعة السياسية، وكذلك الفتاوى العقدية، التي تتناسب مع الخطاب السياسي للدول الحاضنة في كثير من الأحيان، ووظائف الفتاوى الأخرى.
ونظرا لندرة الكتب حول المؤسسة الدينية في العالم العربي، يقدم علي طه قراءته لكتاب الدكتور محمد سليم العوا “أزمة المؤسسة الدينية”، وكما يلاحظ طه فقد اكتفى كاتب الكتاب بقراءة تجربة المؤسسات الدينية في مصر دون غيرها، وليس كما يشير عنوان الكتاب لعمومية وشمول محتوياته، رغم ما يحتويه من قضايا مهمة يشير لها الباحث في عرضه.
أما الدراسة المستقلة في هذا الكتاب، وضمن سلسلة العلاقة بين الشرق والغرب، يقدم الأستاذ السيد يس دراسته “نحو نظرية عربية لحوار الحضارات” وهو أحد أبرز المهتمين بهذه المسألة في العالم العربي، محاولا بلورة نظرية عربية للحوار الحضاري بين الشرق والغرب، نكون فيها فاعلين أكثر من مفعولين، أو من متلقين فقط.