يتوزع الناس حول القضايا الكبرى والمصيرية المطروحة على اتجاهات متعددة، فهناك من يتجه لحل جذري وقطعي لها، يرفض التفاوض حول أهدافها الكبرى، كما أن هناك من يتجه بمرونة لحلها رافضاً سياسة حرق المراحل أو الطيران فوق الواقع، وهذا الخلاف الكبير في الرؤى والمواقف، رغم وحدة الهدف ووحدة القضية، قد ينلقب اختلافاً محموماً بين الفرقاء، واتهاماً متبادلا حول شرعية ومشروعية كل منهما، بل ربما وصل إلى استهداف كل طرفٍ لعناصر الطرف الآخر.
هذا ما تشهده الأرض المحتلة اليوم بين فتح وحماس، وهذا هو المنحدر الأعمق والأخطر الذي انزلقت إليه القضية الفلسطينية، رغم مساعي الحوار والتوافق التي تقودها دولٌ عربيةٌ بمشاركة من الفرقاء في الداخل الفلسطيني.
ولكن ماذا عن الفلسطينيين في الداخل الإسرائيلي أي عرب 1948؟ وماذا تحديداً عن الحركة الإسلامية في هذا الداخل؟ حيث تجتمع قدسية القضية وخصوصية الوضع ومتاخمة العدو، إن الخلاف الطبيعي بين اللاهوت الإيديولوجي، والبراغماتية السياسية، يلف أيضا أجنحة هذه الحركة، ولكنه هذه المرة حاضر بين الإسلاميين أنفسهم وليس بين إسلاميين وعلمانيين فقط.
لم يطّلع المثقف العربي، ولا الخطاب السياسي العربي، على الطرح الكثير والمعمق حول الحركة الإسلامية داخل الأرض المحتلة، أو داخل إسرائيل، التي لا ينكر قادة الحركة الإسلامية انتسابهم إليها وحملهم لجوازاتها، رغم جهدهم ومقاومتهم ودورهم الذي لا تنكره الدوائر الحكومية الإسرائيلية ذاتها، كما لا تجهل أثره وخطره في حفظ الهوية الدينية لفلسطينيي 1948، وفي تمدد فكرة التحرر مقابل فكرة الاحتلال والاستيطان، وفي حفظ المقدسات مقابل استلابها.
وإيمانا منا بحاجة هذه المنطقة -شبه المهملة في التفكير الثقافي والسياسي العربي- لكثير من الضوء الذي يجلو خوافيها، ويزيدنا تعرفا عليها ومعرفة بها، وبضغوطات القضية السياسية والعقدية عليها، رأينا في مركز المسبار للدراسات والبحوث أن يكون الإصدار الثالث والثلاثون من كتاب المسبار الشهري، هو أول كتاب عربي يصدر حول “الحركة الإسلامية في إسرائيل”، لغياب الدراسات العربية حولها، وندرة حضورها في الدراسات السياسية عالميا بعموم، متتبعين أجنحتها ومسارها ومواقفها وقضاياها، وعلاقاتها بالدولة الإسرائيلية، وبقواها الحزبية والسياسية، وكذلك علاقاتها بالداخل الفلسطيني وتياراته المختلفة.
في البداية يتناول عدنان أبو عامر في دراسته “الحركة الإسلامية في إسرائيل: النشأة والتحديات” نشأة هذه الحركة في منطقة المثلث عام 1971، وهي منطقة أكثرية سكانها عرب مسلمون، منطقةٌ تمتد بين مدينتي كفر قاسم وأم الفحم على الحدود بين إسرائيل والضفة الغربية، مؤكدا أنه رغم أنها لا تربطها علاقات تنظيمية مباشرة بحركة الإخوان المسلمين، لكن المبادئ التي تتبعها تشابه مبادئ الجماعة، ويقول قادة الحركة إنهم يعملون في إطار القانون الإسرائيلي، ولكن في بعض الأحيان تم محاكمة قادتها بتهمة التعاون مع عناصر مضادة للدولة، أو تنظيم فعاليات غير قانونية، كما يتتبع كاتب الدراسة أهداف وأنشطة تلك الحركة، بأجنحتها المختلفة، ومواقفها الفكرية والثقافية والاجتماعية، وكذلك السياسية، كما يتناول استجاباتها وردود فعلها على الإجراءات الإسرائيلية تجاهها.
ثم تأتي دراسة الدكتور حسن صنع الله مركزة على موضوعة مهمة في هذه السياق، وهي الهوية الدينية الفلسطينية في دراسته المعنونة: “الحركة الإسلامية والهوية الدينية في إسرائيل”، والتي يتناول فيها تحديات هذه الهوية، واستراتيجية حضورها والتمكين لها، في وجه محاولات الاستلاب و”الأسرلة” التي تقوم بها الحكومة الإسرائيلية تجاه عرب 1948، سواء عبر تجنيد البدو في الجيش الإسرائيلي، أو الدمج الثقافي والسلوكي والفكري لهم في المجتمع الإسرائيلي، كما يتناول الكاتب الجذور التاريخية لتبلور الهوية الدينية الفلسطينية منذ مطلع العشرية الثانية من القرن العشرين؛ وهي التجارب التي شكلت تراكماً علمياً ومعرفياً وعملياً، صبَّ في مصلحة الحركة الإسلامية داخل الأرض المحتلة، ويتتبع الباحث دور الحركة الثقافي في وقف الأسرلة، وحفظ الهوية الإسلامية، وتأكيد حضور هذه الهوية في مختلف المنتديات الاجتماعية والتعليمية والسياسية، بدءاً من المدرسة والشارع، حتى جامعة تل أبيب والمؤسسات التمثيلية الإسرائيلية.
كما تكشف هذه الدراسة عن بعض ملامح الاستهداف الإسرائيلي للهوية الدينية الإسلامية كخصوصية ثقافية وحضارية تميز عرب 48 عن محيطهم الإسرائيلي الحاكم والمهيمن، فخلال فترة الحكم العسكري تغلغل جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي (الشاباك)، وشكل الحزب الشيوعي اللاعب الأساس في الوسط العربي، ولعبت سياساته دوراً في أقلمة الأقلية العربية مع الواقع الجديد، بعد غياب القادة والموجهين، ونشطت التربية “المابامية والكيبوتسية والهستدروتية”، في مسعى محموم لتذويب هذه الأقلية، وتدمير بناها النفسية والعقلية، وهو ما قامت الحركة الإسلامية داخل عرب 1948 بوقفه والحد منه بدرجة كبيرة.
وتأتي دراسة مهند مصطفى “الحركة الإسلامية والمشاركة السياسية في إسرائيل” كاشفة للخطاب والممارسة السياسية للحركة الإسلامية، بجناحيها الشمالي والجنوبي، وكونها واحدة من أبرز التنظيمات السياسية العربية داخل إسرائيل، ومن التيارات الإيديولوجية المؤثرة على مجمل التحولات السياسية والثقافية في المجتمع الفلسطيني في الداخل في العقد الأخير. كما يتتبع الكاتب التطورات والمراحل المتعددة، التي مرت بها الحركة الإسلامية في الداخل، وفرضتها التحولات السياسية العامة والتطورات الداخلية.
كما لاحظ مهند مصطفى أنه بعد انتخابات 2003 بدأ انخفاض واضح في قوة الحركة الإسلامية البرلمانية، المؤتلفة مع الحزب الديموقراطي العربي، الذي هبط تمثيله إلى نائب في الكنيست السادسة عشرة، وهو المحامي عبد المالك دهامشة، وأخذ يتبنى مواقف سياسية مرنة، حين صوت مع مشروع شارون للانسحاب الأحاديّ الجانب من غزة وشمال الضفة الغربية.
وعن الموقف من المفاوضات ومسار التسوية وعملية السلام مع إسرائيل، تأتي دراسة مأمون عامر “الحركة الإسلامية ومسار التسوية”، والتي يؤكد كاتبها منذ البداية أنها قضية حساسة بدرجة أكبر، فمنذ بدء عملية المفاوضات السياسية بين الفلسطينيين وإسرائيل، والتي أثمرت السلطة الوطنية الفلسطينية، أحد أكثر هذه القضايا حساسية، وبسبب كذلك من الأوضاع الدقيقة والحساسة التي يعيشها المواطن العربي في إسرائيل، أتي موقف الحركة الإسلامية من التفاوض، كواحدٍ من أكثر المواضيع حساسية وغموضاً. ويزيد من تعقيد الموقف وضبابيته الانقسام الواقع في صفوف الحركة، ما أسفر عن وجود خطابين سياسيين تجاه هذه القضية؛ أحدهما يتميز بالتشدد، والثاني يوصف بالواقعية، فوجدنا من يؤيدها من بين صفوف الحركة، مؤكداً على جدواها مادامت تسترد منذ البداية بعض الأرض المحتلة، كما نجد في صفوف الحركة الإسلامية من يظل داخل تيار الرفض العربي لمسار التسوية مع إسرائيل، واعتبار الصراع صراع وجود وليس صراع حدود، ولكن مما نلاحظه من خلال هذا الكتاب، أن التيار الغالب داخل عرب 48 بعموم، وداخل الحركة الإسلامية في إسرائيل بخصوص، هو المرونة باتجاه التفاوض، ورفض الحل العدمي والصدامي.
وعن موقف الحكومة الإسرائيلية من الحركة الإسلامية تأتي دراسة صالح النعامي “إسرائيل والحركة الإسلامية: التعايش والصدام”، لتكشف أن مواقف الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة من الحركة الإسلامية في فلسطين 48، حكمتها سلسلة من العوامل والمتغيرات، التي أملت طابع التعامل الإسرائيلي مع الحركة، ففي البداية ومع انطلاقة الحركة عام 1996 غضت المؤسسة الحاكمة في إسرائيل الطرف عن الحركة الإسلامية وأنشطتها، وسمحت لها ببناء مؤسساتها التعليمية والدينية والاجتماعية والإعلامية، وأتاحت لقادتها هامش مرونة كبير في التحرك والتفاعل مع الجماهير الفلسطينية، والتواصل مع الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، و يعزو الكاتب هذا السلوك الإسرائيلي المتساهل في البداية إلى عدة عوامل، منها رغبة المؤسسة الإسرائيلية في إيجاد منافس إيديولوجي للحركات السياسية العلمانية ذات التوجهات القومية، التي نشطت في ذلك الوقت في أوساط فلسطينيي 48، حيث وجدت السلطات الإسرائيلية في الحركة الإسلامية العنوان الصحيح لتحقيق معادلة التوازن بين القوى القومية والاشتراكية من جهة، وبين القوى التي تقوم على الفكر الديني من جهة ثانية، وتتتبّع الدراسة هذا الجدل، والسيناريوهات المتبادلة من قبل الحركة الإسلامية داخل عرب 1948، والحكومات الإسرائيلية المتعاقبة.
وعن “المقدّسات والأوقاف في منظور الحركة الإسلامية” تأتي دراسة الدكتور إبراهيم أبو جابر، والتي تنطلق الحركة الإسلامية في تعاطيها معها من منظور أن فلسطين أرض مقدسة بالكامل، وبموجب مقدساتها تصبح هذه الأرض وقفية بالكامل، ولذلك فإن هذه الوقفية تنعكس من حيث القداسة على كامل التراب، ليس بكونه تراباً بل لقدسية هذه الأرض، وبعيداً عن هذا المنظور المثالي، يهبط الكاتب بنا إلى تاريخ العلاقة بين الحكومة الإسرائيلية والأوقاف الفلسطينية، حيث عملت الحكومة الإسرائيلية بعكس ما أعلنت عنه سنة 1950 على لسان وزير الأديان –آنذاك- د. هكوهن، الذي قال في السادس من مايو/أيار 1950: “قمت بالنيابة عن حكومة إسرائيل المؤقتة بإصدار التعليمات للدائرة المختصة في وزارتي لحماية أماكن السيادة والمقابر، التي هجرتها الطائفة الإسلامية عندما تركت البلاد”، ثم تعيينها لجاناً من أجل تنفيذ سياساتها تجاه المقدسات، وتعيين عدد من المفتين الذين أباحوا إزالة بعض المقابر، ويلاحظ كاتب الدراسة تنوع وتعدد طرق الحركة الإسلامية في إسرائيل للحفاظ على هذه المقدسات، بين التظاهر، وتنظيم المهرجانات، وتسيير المحافل أسبوعيا إلى المسجد الأقصى، والقيام بأعمال الترميم، وكشف الأنفاق الإسرائيلية تحت المسجد وإحباط مخططاتها، كما تضم الدراسة جداول بيانية بهذه المعلومات وتواريخها، كما يعرض بيانا بالمساجد والمقدسات التي تم تدميرها وما آلت إليه.
ولا شك أن دراسة أبو جابر عن الأوقاف والمقدسات، وما كتبه الدكتور حسن صنع الله حول دور الحركة الإسلامية في إسرائيل في حفظ وحماية الهوية الدينية الفلسطينية، يترافقان من أجل توضيح التحديات الثقافية والإجرائية، التي يفرضها الواقع الإسرائيلي على الحركة الإسلامية في فلسطين المحتلة والموقف تجاهها، ومنطلقاتها للتعاطي مع هذه التحديات، كما يعرض بشكل خاص لدور مؤسسة الأقصى في حفظ وإعمار المقدسات الإسلامية.
ثم تأتي شخصية الكتاب والتي نعرض فيها لمسيرة الشيخ رائد صلاح، أحد أبرز الوجوه الإسلامية داخل الأرض المحتلة، وهو ما يكشفه لنا إياد عقل في دراسته “الشيخ رائد صلاح: محطات الفكر والسياسة” في دراسة لا تنشغل كثيرا بتقديم سيرة ذاتية أو مجرد تأريخ بيوغرافي للرجل، ولكنها قراءة نقدية واستشرافية للمحطات الهامة المتعلقة بالشيخ ودوره.
وكما وضحنا في هذه المقدمة من أن القضايا الكبرى كثيرا ما تختلف وجهات النظر في حلها، مما يوزع الفرقاء ويزيد الانشقاقات التنظيمية، مع اعتبار واقع المراجعات الذي يقومون به فرادى وجماعات أحيانا؛ ويأتي كدليلٍ على ذلك رصد وقراءة صالح لطفي لمسيرة الانشقاق ودوافعه وآثاره بين أجنحة الحركة الإسلامية داخل إسرائيل، والتي ترصدها دراسته “الحركة الإسلامية في إسرائيل: الانشقاق والتداعيات”، والتي تتبع طبيعة كل من الجناح الشمالي والجنوبي لها، والمواقف المتباينة بينهما، سواء تجاه المشاركة السياسية والانتخابية أم تجاه المفاوضات وغيرها، وطبيعة هذه المواقف التي شطرت الحركة لجناحين شمالي وجنوبي، ويشير إشارة خافتة لاحتمالات انشقاقات تالية داخل بعض منهما، ولكن كما يقول أحد القيادات السياسية داخل عرب إسرائيل: لعل هذه الضبابية في المواقف وتنوعها الشديد، يكون إيجابياً في خدمة القضية من أحادية الموقف وتصلبه.
ويقرأ فرج نعيم تأثيرات صعود اليمين الإسرائيلي بقيادة بنيامين نتنياهو على الحركة الإسلامية في إسرائيل، وما يتوقع في هذا الاتجاه، خاصة وأن المتوقع دائماً من حكومات اليمين عكس ما تم رصده في مساراتها، فقد كانت الحكومات الأقوى على دفع المفاوضات، وتسيير عملية السلام منذ أوسلو سنة 1994، وكذلك أخذ قرارات لم ترتفع إليها حكومات اليسار المتعاقبة، ويبقى السؤال الذي تجيب عليه هذه الدراسة، هل يمكن توقع مثل ذلك مع حكومة تضم على رأسها بنيامين نتنياهو، وعلى رأس خارجيتها الوزير اليميني المتطرف أفيغدور ليبرمان، وكيف سيكون الموقف من الحركة الإسلامية الفلسطينية باتجاهاتها المختلفة بالخصوص، وهو ما تجيب عنه هذه الدراسة.
وتقرأ هيئة التحرير أحد الكتب والمصادر المهمة والنادرة في هذا الموضوع، وهو كتاب “الحركة الإسلامية- فلسطين 1948: نظرة من الداخل” لمؤلفه إبراهيم عبد الله.
وفي هذا الإصدار من كتاب المسبار الشهري، نقدم في إطار سلسلة “الحوار بين الشرق والغرب”، دراسة للكاتب العربي هاشم صالح “الإسلام والغرب: صدام حضارات أم تفاوت تاريخي؟”، والتي يعرض فيها للدوائر الحضارية المتعددة لعلاقة الشرق بالعالم الخارجي، متبنيا وجهة نظره من أن العالم العربي أقرب للغرب والحضارة المتوسطية من سواه من المناطق والدوائر الحضارية الأخرى، وباحثا في الآن نفسه عن موقف حضاري متوازن، يتجاوز لغة الصدام التي يروجها المحافظون الجدد، شرقاً وغرباً، وعارضاً لبعض وجهات النظر الغربية في هذا الاتجاه.
وكعادتنا نقدم مع هذا الإصدار الثالث والثلاثين من كتاب المسبار “الحركة الإسلامية في إسرائيل” قائمة ببليوغرافية بأهم المؤلفات العربية والأجنبية في هذا الموضوع وكذلك ذاكرة الكتاب كثبت زمني بأهم أحداثه وحوادثه.