غلبت على مواقف الإسلامية العربية، بل والعلمانية العربية بدرجة ما، من تجربة الحركة الإسلامية التركية، أو النموذج التركي، كما انتهى، سمة الإعجاب والانبهار الجزئي في الغالب، فقد احتسبها الإسلاميون دلالة على إمكانية نجاحهم، وأن المشروع السياسي الإسلامي سيظل قادراً على البقاء، لا يمكن فصله عن طموح المجتمعات والشعوب المسلمة، مهما كان ضغط الأنظمة عليها. بينما استخدم العلمانيون “النموذج التركي” في دعوة أقرانهم في العالم العربي لمزيد من علمنة خطابهم، وقبولهم بالديموقراطية، والدولة المواطنية كشرط لقبول اندماجهم في الحياة السياسية، أو التأكيد على الفارق والفجوة بين الخطابين، خطاب الإسلاميين العرب وخطاب الإسلاميين الأتراك، كمبرر وحجة في رفض هذا الإدماج أو القبول بالمشاركة السياسية الشرعية للإسلاميين في الحياة السياسية.
ورغم أن الأدبيات الإسلامية العربية، وبخاصة أدبيات الإخوان المسلمين، كانت ملهمة للحركات والتيارات الإسلامية في تركيا، التي حرصت دائما على ترجمة كل ما هو عربي، إلا أن التجارب العملية للحركات الإسلامية غير العربية، كانت الأكثر نجاحا دائما، ويمكننا أن نشير في هذا السياق للنموذج التركي موضع هذه الدراسة، وللنموذج الإيراني المستمر منذ ثلاثة عقود حتى الآن، ولكن مع فارق مهم بين النموذجين، وهو أنه إن كان النموذج الإيراني قد مثل قمة صعود حركات الإسلام السياسي بنجاح ثورته، وتولي الحكم وإقصاء كل معارضيه، فإن النموذج التركي –كما يرى العديد من الباحثين- يعد بداية عصر الإسلامية المعلمنة، أو نهاية وانحسار عصر الإسلام السياسي، والنموذج المطروح للقبول والجاذبية ليس فقط من قبل النخب العلمانية في العالم العربي، بل وكذلك من قبل الغرب، وبعض متنوري الحركات الإسلامية أنفسهم.
لهذه الحيثيات وغيرها، كان هذا الإصدار الرابع والثلاثون من كتاب المسبار الشهري حول “الإسلامية التركية”، والذي حاولنا فيه أن نكشف عن مختلف أطياف تلك الحركة، وعن تمايزاتها، التي تمتد من أنظمتها الفكرية وبناها التحتية، إلى رؤاها السياسية والاقتصادية، كما تتمايز روافدها الفكرية وتصوراتها بشكل كبير عن نظائرها في العالم الإسلامي، حاولنا فيها الكشف عن طبيعتها كحركة اجتماعية، وكحزب سياسي، وكطريقة روحية واجتماعية، وعن جدل علاقاتها مع النظام العلماني في تركيا، ومع الأحزاب السياسة الخارجية، وكذلك المفاهيم التحليلية المختلفة في قراءة ظاهرتها.
في البداية يقدم الباحث الفرنسي جان ماركو دراسته المعنونة “زمن ما بعد الإسلاميين في تركيا”، ويقصد بعصر ما بعد الإسلاميين حالة المنظمات الإسلامية التي قبلت، في الأصل، بالمشاركة في الحياة السياسية الديموقراطية، مع المحافظة على صلابة الارتباط بإيديولوجيتها الأصلية . ويمكن لعملية انتقال الإسلام الى عصر ما بعد الإسلاميين أن تترجم بتغييرات هائلة من ناحية التوجهات (مثل القبول بترشح تركيا الى عضوية الاتحاد الاوروبي)، وانفتاح الحزب على الناشطين السياسيين القادمين من تنظيمات سياسية أخرى أو من المجتمع المدني، واعتماد لهجة توافقية والتخلي عن كنية “الإسلامي”. ولكن ثقافة الحزب أكثر منها برنامجه، تبرز أبعد من هذه التحولات، ولا تزال “إسلامية” بالنسبة لكثيرين، فهذا الثابت الثقافي يترجم بتحفظات لجهة علمنة بعض الجوانب في خطابه السياسي، وبصورة عامة، بتعلق ملحوظ، لئلا نقول مبالغ به، بأكثر قيم الإسلام تقليدية (التشجيع على وضع الحجاب الإسلامي، الامتناع عن تناول الكحول، وإعادة إحياء الممارسات الاجتماعية الدينية مثل “كوتلو دغم”، وهي النظرة التقليدية لطبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة…). وهو المفهوم الذي يراه ينطبق على الحركة الإسلامية التركية وبخاصة حزب العدالة والتنمية.
ثم يقرأ المؤرخ اللبناني وجيه كوثراني مخاضات الإسلام السياسي التركي في دراسته المعنونة: “التحديات والبزوغ.. مخاضات الإسلام السياسي في تركيا”، والتي يجيب فيه على العديد من التساؤلات البحثية العميقة من قبيل: هل يمكن الحديث عن إسلام تاريخي تركي قوامه العثمانية والكمالية وصل بينهما زمن طويل؟ وأنه إذا كان انتصار حزب إسلامي في تركيا العلمانية هو حدث “متميز”، فان تميزه يتطلب بحثاً لإدراك أسباب هذا التميز، وتحديد خلفياته المتراكمة التي أوصلت إليه، عبر زمن طويل، وهو ما يرجعه كوثراني إلى اندماج حزب العدالة وبرامجه في قلب هذه الثقافة. والحق أن المقصود بـ “الاندماج الثقافي” ليس القول إن حزب العدالة هو حزب علماني، بل المقصود هو احترام الحزب الإسلامي التركي لمرحلة التأسيس العلماني لتركيا، تأسيس الدولة الأمة، أي احترام الإجماع الوطني المتمثّل بالميثاق القومي التركي المؤسس للدولة، أي تلك المرحلة التأسيسية التي نعتناها بالزمن القصير. بل إن الحزب الإسلامي التركي هو لون من ألوان هذا الميثاق، وجزء ثقافي-سياسي منه، وليس ردّاً عليه، ليس انتقاصاً منه وليس تجاوزاً عليه، إنه أشبه بالأحزاب المسيحية الديموقراطية في دول أوروبا.
وتأتي دراسة هاني نسيره بعنوان “الإسلامية التركية في عيون الإسلاميين العرب” والتي يستكشف فيها مواقف الإسلاميين العرب من الإسلامية التركية، وخطابها السياسي، ومرجعيتها الفكرية، وكيف استخدم كل من الإسلاميين والعلمانيين العرب النموذج التركي لغاية وأهداف مختلفة، ويخلص نسيره إلى أن تأثير الإسلامية التركية على الإسلاميين العرب كان طفيفا في مجمله، وكان غائباً وسلبياً عند كثير من الحركات الإسلامية الأخرى، نتيجة الجمود الإيديولوجي أو التعالي التاريخي، وأن الإعجاب لم يأت إلا عابراً عند بداية التجربة ليس إلا، ولكن لم تنل إلا النقد في أغلب مسارها بعد ذلك، باستثناء حركة النهضة التونسية وبعض الإسلاميين الإصلاحيين الذين عبروا عن مواقفهم الفردية وليس مواقف جماعتهم، وفي جانب آخر كان موقف القاعدة والسلفية الجهادية -كما يرصد الباحث- سلبيا وهجوميا دائما على الإسلامية التركية وتجربة العدالة والتنمية.
ويتناول الدكتور عمرو الشوبكي في دراسته “الإسلامية التركية من الرفاه إلى العدالة والتنمية”، قراءة تاريخية وتحليلية مطولة، تمر بثلاث مراحل، هي مرحلة ماقبل صعود الرفاه، ثم مرحلة صعود الرفاه، ثم بزوغ حزب العدالة والتنمية بعد الانشقاق الحادث في الرفاه، حتى أداء عبد الله غول القسم، ليصبح الرئيس الحادي عشر لتركيا، في مناسبة اعتبرت تاريخية؛ بسبب ماضيه في تيارات الإسلام السياسي. وتعهد غول بعد أداء القسم، بأن يحافظ على المبادئ العلمانية الخاصة بالجمهورية، وأن يكون رئيساً محايداً للدولة، وأنه سيحترم حقوق الإنسان، وحرية التعبير، وسيكون ضد التمييز على أي أساس، مؤكدا أن العلمانية هي واحدة من المبادئ الرئيسية للجمهورية التركية، وهي شرط مسبق للسلام الاجتماعي، بقدر ما هي نموذج ليبرالي، للتعايش مع أنماط مختلفة من طرق العيش.
ويقرأ الباحث والمحلل السياسي التركي راغب دوران “أسباب صعود النموذج التركي” منذ برز “حزب العدالة والتنمية” في تركيا بعد الفوز الذي حققه في الانتخابات التشريعية التي أعقبت تأسيسه في العام 2001، والتي جاءت به الى السلطة حيث لا يزال حاكماً. ومنذ ذلك الحين، تعددت التسميات الملحقة بهذا التنظيم، حيث يصفه قادته بأنه منظمة “محافظة ديموقراطية”، والمراقبون الغربيون بـ “التنظيم الإسلامي المعتدل”، بالاضافة الى كنيات أخرى مثل “الليبرالي”، و”الأصولي المتطرف”، و”المسلم اليميني”، استخدمت جميعها في تحديد الهوية السياسية الإيديولوجية لحزب العدالة والتنمية.
ومما يخلص له دوران، أن الثورة الكمالية، وليدة البيروقراطية العسكرية، قد أوجدت أعداء لها منذ البداية، ذلك ان التيارات السياسية التي تتخذ الإسلام مرجعية لها، والاكراد الذين كانوا يطالبون بالاعتراف بهويتهم الاثنية، كانت مبعدة تقريبا عن المسرح السياسي، بل عن الساحتين الاجتماعية والثقافية، وأن حزب العدالة والتنمية يوظف جهودا كبيرة في سبيل إظهار صورته الحديثة العصرية، رافضاً رسمياً صفة “الإسلامي”، أو “الديني”. من هنا لا يتوانى أنصاره عن اختيار اللون الأزرق الداكن في لباسهم، ووضع ربطة العنق، والنظارات الشمسية، أو المحافظة على اللحية لثلاثة أيام، أو اقتناء السيارات الفخمة وسيارات “الجيب”، لكن مع اقتناء السبحات الفضية أو المصنوعة من الحجارة الكريمة، والتي أضحت رموز الأثرياء الجدد في صفوف حزب العدالة والتنمية.
وتأتي دراسة الدكتور كمال حبيب “المثقفون الإسلاميون الأتراك من الاغتراب إلي الاختراق”، حفرا في الحامل الثقافي والتراثي التركي، الذي ارتكزت عليه الإسلامية التركية الصاعدة، باحثا في رموزها وأبرز مؤسسيها الراحلين والمعاصرين، فعرض لتراث محمد عاكف ونجيب فاضل، كما عرض لياسين أقطاي وأحمد داود أوغلو، وأهم الرؤى الفكرية التي حملها هؤلاء، كما كشف لنا عن أهم المؤسسات الفكرية والتيارات الإسلامية التي يمثلها هؤلاء في المجتمع التركي، ورؤيتهم وجدلهم مع العلمانية التركية ومع الإسلاميين خارجها، وأهم من أثروا فيهم أو تأثروا بهم، وهي دراسة مضيئة حول النخبة الثقافية الإسلامية التركية بامتياز، اعتمد فيها كاتبها على آلية المقابلات، بجوار آلية البحث والاستقراء.
ويقرأ ناجي سويد في دراسته “نجم الدين أربكان: أبو الإسلام السياسي في تركيا” مسيرة الرجل ومساره، وأهم محطات حياته وروافده الفكرية، وسمات خطابه السياسي، باعتباره أبو الإسلام السياسي في تركيا، بدءاً من مشاركته عبر الأحزاب العلمانية، ثم تأسيسه لعدد من الأحزاب الإسلامية، انتهاء بحزب السعادة الذي يتزعمه أحد تلامذته الآن، ومن بقى في عباءته بعد خروج قادة العدالة والتنمية عليه، وعدم استمرارهم في جلبابه، ورؤيته التي يبدو أنهم غادروها بشكل كبير، ولم يعد هناك إمكان للقاء أو الاتفاق بينهما، وهو ما جعل البعض يرون في خروج أربكان ثانية للحياة السياسية، بعد رفع حظر الإقامة عليه، ضربة لهم وتأجيجاً للمنافسة بين الشركاء السابقين والفرقاء الحاليين.
ويقرأ الدكتور مصطفى الأمين سيرة أخرى لا تقل أهمية عن سيرة نجم الدين أربكان، وهي سيرة الداعية التركي الأشهر فتح الله كولن، الذي يعد -مقابل أربكان- أبا الإسلام الاجتماعي في تركيا بما تمتلكه حركته، وتشرف عليها، من مؤسسات تعليمية وإعلامية وخدمية، وبما يملكه الرجل من خطاب متميز ومتمايز عن الإسلام السياسي وحركته، محاولا كشف علاقته بحزب العدالة والتنمية، والانتقادات الموجهة إليه من قبل بعض القوى العلمانية، التي ترى فيه الخطر الحقيقي على العلمانية التركية، نظراً لامتداد تأثيره الاجتماعي لحد بعيد، رغم مقامه منذ فترة في الولايات المتحدة. ويعتبر كولن -حسب بعض استطلاعات الرأي- الداعية الإسلامي الأهم في العالم، ليس فقط لعمق وامتداد حركته في تركيا ومختلف أنحاء العالم الإسلامي، ولكن أيضا لتمايزه بخطاب عقلاني ومعتدل لحد بعيد، يبدو أكثر انسجاما مع الهوية التركية الوطنية، ومع التراث الإسلامي في آن واحد.
وعن “العثمانية الجديدة” التي تمثل محور السياسة الخارجية التركية تجاه الشرق الأوسط، في عهد حكومة العدالة والتنمية، تأتينا رؤيتان: أولهما تركية كتبها الباحث التركي جانكير تشاندر بعنوان “العثمانية الجديدة والشرق الأوسط-رؤية تركية” ودراسة الباحث اللبناني ميشال نوفل بعنوان” العثمانية الجديدة والشرق الأوسط-رؤية عربية” والعثمانية الجديدة توجه نحو الشرق ولكن ليس عزوفا عن الغرب، وطرح للاعتدال، ودور تصالحي يحقق المصالح التركية كقوة ناعمة، بعيداً عن منطق الصراع والاستقطاب، الذي يسعى هذا الدور التصالحي لردم فجوته بين الشرق والغرب، ويحقق دورا تركيا فاعلا في النظام العالمي كقوة إقليمية، وليس فقط هامشا يريد أن ينضم لمتن الاتحاد الأوروبي، بل متناً في جانب يدعم من مكانتها في الطرف الآخر.
ونعرض في هذا الإصدار لكتابين، الأول: “تركيا المتغيرة تبحث عن ثوب جديد” لمؤلفه هاينتس كرامر، ويعرض له أحمد الزعبي، والثاني: “روح الجهاد وحقيقته في الإسلام” للأستاذ فتح الله كولن، وتعرض له هيئة التحرير.
أما الدراسة المستقلة، فنفتتح بها في هذا الإصدار لسلسلة جديدة، حول “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”، ويكتبها الدكتور رضوان السيد تحت عنوان “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: المقولة والتاريخ والشأن العام”، حيث يجلي لنا مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واستخداماته في الكتاب والسنة والتاريخ الإسلامي، وإشكالات فهمه لدى البعض، وكيف كان مفهوما تاريخيا أراد له البعض دائما في كل العصور الإسلامية أن يكون لاتاريخيا وثابتا، وفق فهمهم وحدهم له.
وكالعادة يضم الكتاب ضمن أبوابه الثابتة، “ذاكرة الكتاب”، التي ترصد أبرز الأحداث بتواريخها كما وردت في المتن، وكذا قائمة ببليوغرافية بأهم الإصدارات بالعربية والأجنبية حول الإسلامية التركية.